قضايا مُعَاصِرَة: الحِوَارُ الحَضاريّ (2من2)

ثانياً: أيها الداعية الكريم المحترم: هل ترغب أن تكون مُحَاوِراً حَضَارياً؟!..

فالتـزم إذاً بالمعايير والمبادئ الآتية:

 

1- كُن رفيقاً لَيِّناً: فالنفس الإنسانية مجبولةٌ على مَحبّة الذين يُحسنون إليها، وعلى بُغض الذين يُسيئون إليها:

(.. وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: من الآية159).

والرفق: هو لين الجانب قولاً وعملاً، والتيسير على الناس، والتسهيل عليهم، وتبشيرهم وليس تنفيرهم.

والرفق خير عظيم للمؤمن: (مَن يُحرَم الرفقَ يُحرَم الخيرَ كلّه) (مسلم)، أي مَن يَكُن في سلوكه وتعامله مع الناس شديداً عنيفاً قاسياً، ولا يوفّق إلى السهولة ولِينِ الجانب واليسر.. فإنه كالذي حُرِمَ الخيرَ كله!..

2- ابغض الخطأ والذنب ولا تبغض صاحب الذنب: قال أبو الدرداء لقومٍ يسبّون رجلاً أذنب: (لا تسبّوا أخاكم، واحمِدوا الله أن عافاكم، قالوا له: أفلا تبغضه؟.. قال: إنما أبغض عَمَلَهُ، فإذا تركه فهو أخي).

3- كُن داعية حقٍ وليس قاضياً: فمهمتكَ هي الدعوة، وأن تدلّ الناس إلى الخير، وتحذّرهم من الخطأ، فلسنا قضاةً على الناس بل نحن دعاة إلى الحق: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ..) (الحجرات: من الآية10).

4- اقرُن القول بالفعل: وكُن مـُحِبّاً للعلم والمعرفة للانتفاع به، وليس ليقال: فلان متعلّم أو عالِم.

5- ابتعد عن الجدالات العقيمة: فكلما قَلّ علمُ المرء.. أكثرَ من الجدال العقيم.

6- مارِس الولاء ونُصرة الحقّ وإظهار المــَحَبّة لمن هو على حق، وازجر من هو بخلاف ذلك: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضُهُ بعضاً).

7- تمتّع بالخُلُق الحسن: فلا تعسير ولا تكبّر ولا شماتة، بل تيسير وتواضع ورحمة.

والخُلُق الحسن هو: [طلاقةُ الوجه (أي أن يبقى وجهك مع الناس متهلّلاً بَسّاماً)، وبَذْلُ المعروف، وكَفُّ الأذى (قولاً وفعلاً)].

8- خُذ بموازين الله عزّ وجلّ وشرعه سبحانه وتعالى.. في التفاضل بين الناس: (.. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ..) (الحجرات: من الآية13)، واترك موازين الجاهلية السائدة، من حَسَبٍ ونَسَبٍ وجنسيةٍ ولونٍ وإقليميةٍ وشُلَلِيَّةٍ وفِئويةٍ وعائليةٍ.. وغير ذلك.

9- كُن متواضعاً، واخفض جناحك للمؤمنين ولا تبخس الناس أشياءهم: قال سفيان الثوري: (إنّ الرجل لَيُحدّثني بالحديث قد سمعتُهُ أنا قبل أن تلدَهُ أمه، فيحملني حُسْنُ الأدب أن أسمعَهُ منه).

10- (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (لأعراف:199).

فهذه الآية العظيمة تقول لك:

أ- اتّبِع سبيلَ المساهَلَة مع الناس، واقبل أعذارهم، واعفُ عمّن ظلمك، وصِلْ مَن قطعك، وأعطِ مَن حرمك.. وبذلك تُقابِل الإساءة بالإحسان، والأذى بأخلاق الكرام.

ب- قم بما يمليه عليك الشرع، وائتمر بأمره.

ج- وابتعد عن السفهاء والحمقى، الذين يضرّون ولا ينفعون.

11- اعلم أنه: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:34و35).

لنتأمّل في الآيتين السابقتين جيداً، ولنتلمّس عظمتهما وعظمة كلمات الله عزّ وجلّ!.. فما يُستنتج من قول الله العظيم فيهما هو:

أ- أمرٌ بالصبر عند الغضب، وبالعفو عند الإساءة (كما يقول ابن عباس رضي الله عنه).

ب- أحسِن إلى مَن أساء إليك.

ج- خالِف نفسك، إن أمَرَتْكَ بما يتعارض مع حُسن الخلق الذي يجب أن تكون عليه.

مَن يستطع أن يقوم بذلك؟!.. إنهم بلا شك: الـمُتَّقون، الذين يتمتّعون بأعلى درجات حُسن الخُلُق، إنهم المحسِنون كذلك، الذين يعملون بموجب الآية الكريمة:

(.. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: من الآية 134).

12- كُن أميناً ملتزِماً بموجبات الأمانة في قولك وعملك: فالأمانة فضيلة ضخمة لا يستطيع حملها المهازيل من الناس.

13- كُن مـُخلِصاً مُلتزِماً بشيمة الإخلاص: وابتعد عن الأنانية وبخاصةٍ في الشدائد، وقدّم العمل النقي على حُب الظهور والرغبة في العلوّ والافتخار، فالمواهب البعيدة عن الإخلاص تتحوّل إلى عارٍ ودمارٍ وتراجعٍ، بدل التقدّم والتطوّر.

14- كُن مُؤدّباً ملتزِماً بأدب الحديث والتعامل مع الناس: فالمؤمن صاحب أدبٍ جمّ، والبلاغة والبيان نعمة من الله عزّ وجلّ، فلنبتعد عن لغو الحديث، أو الهذر الضار، لأن الكلام الذي يصدر عن الإنسان هو دليل على شخصيته وسجاياه وخُلُقه وعقله.. فاملك لسانك وسيطر عليه بقوة، واعرف كيف تكبحه في المواقف التي تتطلّب الصمت، وكيف تضبطه في المواقف التي تتطلّب الكلام، واعلم أنّ مَن يترك للسانه أن يقودَه مـُجَرّداً عن ضوابط العلم والعقل.. فإنما يقوده لسانه هذا إلى مَصرعه، والثرثرة الفارغة هي صخب بلا فائدة، يضيع في سُوئها الخير، وتُبعِد صاحبها عن عمق الفكر، وعن يقظة الوعي.

15- لا تقل إلا طَيِّباً، ولا تتكلم إلا بخير: فإنّ من الأدب الراقي أن تُحسن التعبير عما يجول في خاطرك ونفسك، وإنك بذلك تنال رضوان الله عزّ وجلّ، واستحسان الناس ومـَحبّتهم، فالعظماء من الناس، هم الذين يلتزمون الأدبَ في الحوار والحديث والمعاملة، فلا هم سفهاء ولا متطاولون على غيرهم.

16- لا تشتبِك في حوارٍ أو حديثٍ مع سفيهٍ أو أحمقٍ ظهر لك سفهه أو حمقه: فلا فائدة تُرجى من الاشتباك في حوارٍ عقيمٍ مع صفيق الوجه، أو شرس الطباع، من الذين لا يُقدّرون مقامات الناس، ولا يلتزمون بمكارم المروءة، بل يصرخون فحسب.. فيملؤون الدنيا صراخاً وصياحاً، ويـُمارِسون دورهم النَزِق الجَهول:

(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63).

ومداراة السفيه، لا تعني قبول الدنـيّة، والتنازل عن حق، وإنما الإصرار على العلوّ في مكارم الأخلاق، وضبط النفس عند الاستفزاز.. واستخدام مَقالٍ خاصٍ لكل مقام، بحكمة العالِم والمثقف الحليم الحكيم، علماً أنه لابدّ أحياناً من إيقاف كل سفيهٍ عند حدّه، وصَفع كل ذي حماقةٍ بثمار حماقته، والوقوف برجولةٍ واقتدارٍ أمام كل مُتجاوزٍ أو بَذِيٍّ أو أحمقٍ جَهول.

(إنّ أبغض الناس إلى الله الألدّ الخصم) (البخاري).

(ما ضلَّ قومٌ بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) (الترمذي).

17- حاول أن تمتلك قلباً مُشرِقاً حَيّاً سليماً من الأحقاد: وكن عفوياً ناصع الطوية، أبيض السريرة، نَقيّ الباطن.. واستخدم كل هذه المزايا في تعاملك مع الناس.. وابتعد عن الخصومة، فإنها مَقتلة للإيمان، ومجرِّدة من الحنان واللطف وحُسن العُشرة، ومولِّدة للقسوة والعناد والجفاء.

18- لا تتحرّج من الاعتذار عندما ترتكب خطأً ظهر لك: واقبل عذر مَن يعتذر إليك على خطأٍ ارتكبه بحقّك، بل هَوِّن عليه اعتذاره.. فإنّ من شيم الرجولة أن تحفظ للآخرين مقامات رجولتهم، فكن كريماً في ذلك إلى حدٍ بعيد، فإنها من مَكارم الأخلاق وصفات الرجال.. الرجال، واعلم أنّ الكرم مع الكرام امتلاك لقلوبهم ونَيْل لمحبّتهم.. لكن الكرم مع اللئام لن يزيدهم إلا لؤماً وغِلاًّ وحقداً.

19- تعوّد ألا تَغضب إلا لله، وألا تثور إلا لشرفٍ وحق، وألا تصدّ إنساناً إلا لأجل المبادئ العظيمة التي تؤمن بها، والمستمدّة من عظمة دينكَ وفكرك الأصيل النبيل.

20- كن قوياً في كل أمورك وحواراتك وكتاباتك وفِكرك: فإنّ الناس لا يثقون إلا بالفكرة المتوهّجة، ولا يحترمون إلا أصحاب الفكر النيّر المتطوّر الأخّاذ.. فإن تكلّمت فكن واثقاً من أقوالك، وإذا كتبت فكن واضحاً في هدفك.. وعِش حياتَك مطمئناً إلى أفكارك التي تعتمل في عقلك، وإلى عواطفك التي تعمر قلبك، وكن ثابتاً راسخاً لا يعرف التردّدُ إلى نفسك سبيلاً، ولا تتزحزح عن مواقفك التي تؤمن بها تمام الإيمان مهما بلغت العواصف من حولك، ومهما كانت الأعاصير عاتيةً قربك.. واعلم أنك حين تكون كذلك في كل أمورك، فإنك ستكون وستبقى رجل مبدأٍ سامٍ متميّز، وأهلاً للثقة والمحبة والتقدير والاحترام.. لأنك بذلك تُبرهن على حُسن إيمانك الذي يتغلغل في أعماقك، وعلى اليقين الذي تؤمن به، فتكون بذلك جبلاً أشمّاً لا تهزّه الرياح الصاخبة من حوله مهما بَلَغَتْ من عُتوٍّ وجبروت.

21- كن صريحاً، تواجه الناس بقلبٍ سليمٍ منفتح، وبمبادئ واضحة: ولا تساوم على حساب الحق مهما كانت التضحية، ومهما كان الثمن الذي يتوجّب عليك أن تدفَعَه.. فذلك من الشرف الرفيع، ومن ركائز الفضيلة والكمال.

22- كن حليماً، واحتفظ برجاحة عقلك عندما يجهل الجاهلون عليك: فالرجل العظيم يمتلك صَدراً واسعاً يدلّ على ثقته بنفسه.. وكن مُصلِحاً للناس، والمصلح العظيم يفيض بحلمه، فيجعل مَن حوله يفعلون الخير بدل الشرّ، ويلتزمون الحقَّ بدل الباطل.. وهو يشكر الله ويتعبّده بالعفو عمّن أساء إليه.

23- كن سَخِيّاً في تعاملك مع الناس: سَخياً بوقتك ومالك وعِلمك وثقافتك.. وكن كريماً بفكرك، وسارع إلى فعل الخير لمن يستحقه، وإلى الإحسان لمن يحتاجه، واجعل البِرّ وتَقديم الخير شُغلك الدائم، وجُزءاً من شخصيّتك التي تميّزك عن غيرك.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يسِّروا ولا تُعَسِّروا، وبشِّروا ولا تُنَفِّروا) (مسلم).

فهو أمرٌ يأمرنا به صلى الله عليه وسلم، بإدخال السرور إلى قلب المؤمن، وتسهيل كل أمرٍ عسيرٍ عليه، وإدخال البشائر إلى نفسه!..

[عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أُخبركم بمَن يَحرُمُ على النار، أو بمَن تَحرُمُ عليه النارُ؟.. تَحرُمُ على كل قريبٍ (أي: قريبٍ من الناس يلاطفهم، أو مَن كان ذا كرمٍ وسكينةٍ ووقارٍ ويُسر) هَيِّنٍ ليِّنٍ سَهْلٍ (أي: يُسهّل أمور الناس ويقضي حوائجهم ويتّبع سبيل اليُسر معهم)] (الترمذي).

وهكذا.. بإيجازٍ شديد نقول: الداعية الحقيقيّ، هو محاوِر حضاريّ، ينفّذ بكل دقةٍ، الأخلاقيات الإسلاميةَ الحقيقيةَ الحضارية، ويمتثل لها، ويطوِّرها في نفسه وسلوكه.

وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربّ العالمين

*     *     *

* ملحوظة: كان كتاب (خُلُقُ المسلم) للعلّامة (محمّد الغزالي) رحمه الله.. كان أحد أهمّ الـمَــراجِع لهذا البحث.

وسوم: العدد 1026