سوريا: حكايات الحضن العربي والدور الإيراني

حدثان مهمان برزا في المشهد السوري الأسبوع المنصرم، أولهما اجتماع تشاوري في عمّان بين وزراء خارجية أربع دول عربية، بمشاركة وزراء خارجية السعودية والعراق ومصر وسوريا، لبحث سُبل عودة سوريا إلى الحضن العربي، والجهود المبذولة لإطلاق دور عربي قيادي للتوصل لحل سياسي للأزمة السورية. أما الثاني فكان زيارة الرئيس الإيراني إلى دمشق، وهي الزيارة الأولى لرئيس إيراني منذ عام 2010، تم فيها التوقيع على اتفاقية للتعاون الاستراتيجي وعدد من الاتفاقيات الاقتصادية، فأي حدث يأكل من جرف الآخر؟

لم يعد التطبيع مع النظام السوري مقاربة عربية فردية أو ثنائية أو ثلاثية، بل باتت تمثل عددا كبيرا من الدول العربية. وهذه المبادرة لم تأتِ من فراغ، بل جاءت نتيجة عوامل وتطورات في مقدمتها، بقاء بشار الأسد في السلطة، إعادة فتح سفارات دول عربية في دمشق، زيارات متبادلة توّجت بزيارة الرئيس السوري إلى الإمارات وعُمان، ذوبان الثلوج في العلاقات السعودية الإيرانية، والمحادثات السورية التركية التي تُعقد في موسكو دوريا، لكن جهود التطبيع لا تزال تصطدم بمعارضة عواصم عربية وغربية، في مقدمتها الدوحة وواشنطن، اللتان تقولان أن أي تطبيع مع دمشق، يجب أن يكون مرتبطا بتقدم جهود الحل السياسي للأزمة السورية. بالمقابل تدفع دول عربية في مقدمتها مصر والسعودية والعراق والجزائر وتونس إطار التطبيع مع سوريا إلى الأمام، ما قد يجعل من نجاح المهمة مسألة وقت فقط. لذلك عندما نقرأ البيان الختامي لمشاورات عمّان، يبدو وكأنه خريطة طريق لعودة سوريا الى الجامعة العربية، (وبالفعل فقد أعلن يوم الأحد الماضي عودتها للجامعة العربية). البيان عالج البُعد السياسي والبعد الإنساني والبعد الأمني. وجاء أشبه بإعلان مبادئ ونوايا في الجانب السياسي. وما بين السطور يتضح ولأول مرة أن هنالك مبادرة عربية دون مشاركة دولية ولا إقليمية، فقد سبق هذا الاجتماع اجتماع آخر بخصوص سوريا أيضا، عُقد في جدة حضرته دول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى مصر والأردن والعراق.

ولعل من أبرز الملفات التي بحثها الاجتماع التشاوري هذا هو ملف اللاجئين السوريين، ومدى استعداد النظام لتوفير البنى التحتية الأساسية، والعفو العام، ودور الأمم المتحدة والمجتمع الدولي في هذه المسألة. كما تم البحث في وضع صيغة لآلية تشاورية بين سوريا والدول المستضيفة للاجئين. وفي هذه النقطة بالذات طالب الأردن بعودة ألف لاجئ من الذين يقيمون على أراضيه. ويبدو أنها عملية اختبار للنظام السوري، لأن هذا العدد صغير أمام مليون وأربعمئة ألف لاجئ سوري في الأردن. كما أنه لا يعني شيئا على الإطلاق أمام العدد الكلي للاجئين السوريين الذين فروا إلى شتى أصقاع العالم. أيضا تقول الدوحة والكويت والرباط بضرورة عودة جميع اللاجئين والنازحين الى قراهم ومدنهم، مقابل ضمانات أمنية قوية من النظام، لكن لا يبدو النظام قادرا على استقبال ملايين اللاجئين، لأنه يعتبرهم الحاضنة الشعبية لما يسميه الإرهاب.

أما زيارة الرئيس الإيراني إلى دمشق، فيبدو أن هدفها هو استكمال مسار التطبيع بين دمشق وأنقرة، حيث أخفقت محاولة إقناع الرئيس السوري بعقد قمة مع الرئيس التركي في موسكو. ويسعى الرئيس الإيراني للعمل على هذا الملف، لأن إيران وروسيا تأملان بعودة الرئيس أردوغان إلى الحكم بعد الانتخابات المقبلة، بينما الجانب السوري يفضل التعامل مع المعارضة التركية، التي يبدو أنها قدمت له عروضا أفضل للتطبيع مع تركيا. كما أن إيران ترغب في تدعيم مواقفها في هذا الوقت بالذات، حيث هناك انشغال روسي بالحرب في أوكرانيا، ووجود استعداد تركي لترتيب العلاقة مع سوريا، كل ذلك دفع إيران لتعتقد وكأن الوضع في سوريا قد انتهى، لذلك تحدث رئيسي في لقائه مع بشار الأسد عما سماه الانتصار الذي تحقق بفضل محور المقاومة، ودور حزب الله، الذراع الإيراني الأبرز، في صنع ما سماه انتصارا. وكأن لسان حاله يقول، كما كانت لإيران حصة في الوصول إلى هذه النتيجة، يجب أن يكون لها حصة في رسم مستقبل سوريا، وحصة في مسألة إعادة الإعمار فيها. لذلك جاءت الاتفاقيات التي تم توقيعها من قبل الطرفين تشير إلى هذا التوجه، كما أنها رسائل إلى جميع الأطراف في المنطقة، بأن النفوذ الإيراني ليس عسكريا وأمنيا وحسب، بل نفوذ ثقافي وديني واقتصادي وسياسي، وإذا كانت سوريا تبدو على أرض الواقع مُقسّمة إلى مناطق نفوذ، حيث ما زالت تركيا ترفض الانسحاب، وأمريكا موجودة إلى جانب إيران وروسيا، وإسرائيل في الجولان. كل هذا يدفع صانع القرار الإيراني للقول بوضوح للرئيس السوري، بأنهم يريدون الحصة الأكبر في سوريا. وعليه فإن تصور البعض من العرب إنهاء الوجود الإيراني في سوريا، يبدو ضربا من الخيال ويتطلب الانتظار طويلا جدا. فحكايات الحضن العربي والدور العربي والإغراء العربي، كلها ليست فاعله مع سوريا في الوقت الحاضر على الأقل، خاصة أن الديون الإيرانية على سوريا تُقدّر بأكثر من 50 مليار دولار، ولذلك كانت من ضمن اللجان التي شُكّلت بين الطرفين، لجنة حول الديون، كما تم التوقيع في زيارة الرئيس الإيراني على اتفاقية لفتح خط ائتمان إيراني جديد، يُستثمر في قطاع توليد الكهرباء، ليضاف هذا القطاع إلى قطاعات النقل والفوسفات والإسمنت وغيرها، التي استحوذت إيران عليها في سوريا، إضافة إلى ما ذكرته بعض الصحف السورية عن منح إيران، حوالي 5 ملايين هكتار من الأراضي الزراعية السورية. فهل بعد كل هذه الهيمنة الإيرانية وقيود الديون، هنالك من شك بأن الحضن العربي قادر على جذب بشار الأسد أكثر من الحضن الإيراني؟

قد يقول البعض بأن العرب يمكن أن يساهموا في إعادة الإعمار في سوريا، وأن هذا المسار قد يأكل من جرف الدور الإيراني، لكن هل يظن أصحاب هذا الرأي بأن العرب لديهم الأموال اللازمة للقيام بذلك؟ إن كان الحديث يُقصد به المال السعودي، فالرياض أعلنتها واضحة بأنها لن تقدم مساعدات مالية بعد اليوم. فالداخل السعودي أحوج إلى المال، خاصة في مجال تحقيق رؤية 2030. قد تلعب الإمارات دورا في هذا المجال مقابل الحصول على مشاريع كُبرى، يمكن ذلك. لكن من دون غطاء غربي وأمريكي، ومن دون حل سياسي واقعي في سوريا، ومن دون تنفيذ القرار 2254، يبقى الحديث عن الإعمار مُعلّقا حتى إشعار آخر. ولو كان الإعمار ممكنا لقامت به روسيا أو إيران أو الصين أو كلها معا؟ لماذا لم يحصل ذلك حتى الآن؟

وسوم: العدد 1031