الرّوحُ المعنويةُ ودَوْرُ القِيَم الإيمانية في الإنجاز الـمُثمِر (1)

مَــدخَـــل

هل يمكن للإنسان أن يُنفِّذ أيَّ عملٍ على أفضل وجه، من غير أن يكون مؤمناً بأهميّته، عارفاً الهدفَ من قيامه به، مُدرِكاً تمام الإدراك الدوافعَ التي تحثّه على التنفيذ الجيّد الـمُتقَن؟..

وهل تُنَفَّذ الأعمال تنفيذاً راقياً (أي تُنجَز) دون قوةٍ دافعةٍ تُوَلِّد في نفس الإنسان قدرةً تحثّه على إنجاز العمل المنوط به؟..

ما هذه القوة الدافعة التي يمكن تفعيلها في أعماق الإنسان، فترفع من مستوى قدرته على السير بأعماله سَيْراً قويّاً راقياً، أي تدفعه إلى إنجاز أعماله هذه بنجاح؟!..

وما تلك القوة الهائلة التي تدفعنا أفراداً ومؤسساتٍ وجماعاتٍ ومجتمعاتٍ وأمماً، لإنجاز الأعمال الصغيرة والكبيرة بتفوّق؟..

وهل يستطيع كل أولئك تحقيق الإنجازات في هذه الحياة، من غير تفعيلٍ عالي المستوى لتلك القوّة الكامنة في النفس البشرية؟..

إنَّ القوة الكامنة تلك تُدعى: (الروح المعنوية)، التي يمكن أن تكون عالية المستوى، عندما يجري تفعيلها بقوّة، كما يمكن أن تكون هابطة المستوى عندما لا يجري تفعيلها.

*     *     *

بذلك، فإنّ إنجاز الأعمال على مستوى الأفراد والجماعات والأمم، لا يكون بدرجةٍ جيدةٍ، إلّا بتوافر الروح المعنوية العالية، فالإنجاز يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالروح المعنوية للإنسان، فعندما تكون عاليةً يكون الإنجاز عظيماً، أمّا عندما تكون هابطةً فيكون الإنجاز رديئاً، بل لن يكون هناك إنجاز بمعناه الحقيقي.

وكما أنّ الروح المعنوية تتحكم بمستوى الإنجاز، فإنّ مستوى الإنجاز يُقَوّي أو يُضعِف الروحَ المعنوية، لذلك فهما يُشكّلان دورةً كاملةً، إذ يؤثّر كل منهما بالآخر، ويتأثّر به، كما هو موضّح في الشكل الآتي:

الروح المعنوية

       
  clip_image001.png
    clip_image002.png

 

clip_image003.pngclip_image004.pngclip_image005.pngclip_image006.png                           عالية                             هابطة

                            

                       إنجاز عظيم                       إنجاز رديء

                         (نجاح)                             (فشل)

*     *     *

وهكذا: فالإنجاز العظيم أو النجاح في الأعمال وتحقيق الأهداف، لا يتحقّق إلا عن طريق إنسانٍ يحمل روحاً معنويةً عاليةً، التي بدورها تتقوّى وترتفع أكثر وأكثر بالإنجاز العظيم ذاته.

أمّا: الإنجاز الرديء، أو الفشل في الأعمال وتحقيق الأهداف، فهو ثمرة لجهد إنسانٍ مُحطَّم المعنويات، أي يحمل بين جنباته روحاً معنوية ًهابطةً، التي تهبط أكثر وأكثر بالإنجاز الرديء ذاته.

*     *     *

ولابدَّ من الإشارة هنا، إلى وجود عوامل أخرى يجب أن تتوافر حتى يتحقّق الإنجاز: كالإمكانات، والكفاءات، والخبرات.. وغيرها، لكنّنا نؤكّد على الأهمية الكبيرة للروح المعنوية التي تخدمها تلك العوامل جميعها، كما سنرى لاحقاً.

سنركّز حديثنا على:

1- العوامل والمؤثرات التي تؤثّر على الروح المعنوية لتحقيق الإنجاز.

2- تـَمَيُّز الإنسان المسلم، وأهمية القِيَم الإيمانية في تحقيق الإنجاز.

*     *     *

أولاً: العوامل المؤثرة في الروح المعنوية

ما الأمور التي ترفع من معنويات الإنسان أو تُخفضها؟.. فينجح في تحقيق الإنجازات أو يفشل في ذلك؟!..

لتبسيط هذه العوامل نقسمها إلى خمس فئات:

أ- المؤثرات النفسية:

أي كل ما يؤثر في نفس الإنسان سلباً أو إيجاباً، فيؤثّر بذلك على روحه المعنوية، ثم على مستوى إنجازه، وأهمها:

1- الثقة بالنفس، وإدامة هذه الثقة: فلا بد أن يكون الإنسان الذي يسعى لتحقيق إنجازٍ ما، واثقاً من نفسه تمام الثقة، بأنّه يستطيع تحقيق المهمّة الموكلة إليه، ولا بدَّ أيضاً أن تدومَ هذه الثقة بالنفس، خلال مراحل بذل الجهد كلّها، على طريق تحقيق الهدف أو الإنجاز.

2- الاستقرار النفسيّ: فالحالة النفسية للإنسان العامل، يجب أن تكون مستقرّةً متوازنةً لكي يُحقّقَ الإنجاز، وكل ما يؤثر على استقراره النفسيّ وتوازنه، سينعكس على مستوى أدائه وعلى روحه المعنوية، ومن ثمّ على نتيجة عمله.

3- الاستيعاب ووضوح الأهداف: فالشخص الذي سيقوم بتنفيذ مهمةٍ ما، عليه أن يكونَ مستوعباً تماماً لأبعادها، ولأهميّتها، وللعقبات المتوقَّعة، كما عليه أن يكون عارفاً تماماً، وبالتحديد، ما الهدف الذي ينبغي الوصول إليه من خلال سَيرْه في عمله، فالشخص الذي يسير في عملٍ غير مستوعبٍ لأبعاده، ولا يعرف أهداف بَذْلِهِ لجهده بوضوحٍ تام، سيفشل حتماً، لأنه سيسير بروحٍ معنويةٍ مضطربة.

4- الاقتناع بالعمل وبالهدف: فكل إنسان يسير لإنجاز عملٍ ما، لابدّ أن يكونَ مقتنعاً بشكلٍ كاملٍ بما يقوم به، وبأهمية الهدف الذي يسعى إليه، وسُمُوِّه، وبذلك يمكن أن تكونَ روحه المعنوية عاليةً، وسينجح في مسعاه لتحقيق الإنجازات.

ب- العوامل السببيّة:

ونعني بها: اتخاذ الأسباب الكاملة قبل البدء بتنفيذ أي عمل، وهي من العوامل التي ترفعُ أو تـُخفِضُ الروحَ المعنوية، وأهمها:

1- الإعداد أو مستوى الإعداد: فالإعداد الجيّد الراقي المناسب، للإنسان.. إعداده لما يُكَلّف أن يقوم به من أعمال، سيولِّد عنده روحاً معنويةً عاليةً، توصله إلى النجاح، والإعداد السيّئ الخاطئ أو الناقص، سيؤدّي إلى هبوطٍ في المعنويات في أول الطريق، ما يوصله إلى الفشل الحتميّ في إنجاز الأعمال. فاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَار.

2- التعاون أو مستوى التعاون: فالتعاون الجيد والمنظّم بين أكثر من شخص، لتحقيق هدفٍ ما، سينعكس إيجابياً على الروح المعنوية لأشخاص العمل جميعاً، والتعاون بين الرئيس والمرؤوس مثلاً، سيؤدّي إلى روحٍ معنويةٍ مستقرّة، وإلى نجاحٍ في تحقيق إنجازٍ ما.

3- توافر الأنصار: فالكثرة الإيجابية للأنصار في شتى المجالات، من العوامل المهمة لرفع المعنويات وتحقيق الإنجازات، ولا نتصوّر عملاً مهمّاً يمكن إنجازه بلا أنصار، وحتى الأعمال الصغيرة، يمكن إنجازها بشكلٍ أفضل عند توافر نصيرٍ واحدٍ على الأقل، أو عدّة أفرادٍ من الأنصار الذين يَشدّون الأزر باستمرار.

4- توافر البيئة الصالحة المساعدة على الإنجاز.

ج- الوسائل والقدرات الذاتية: وهي الأمور التي يجب أن تتوافر في الفرد أو المجموعة، حتى يتحقّق عمل أو إنجاز ما، لأنّ توافرها أو عدمه، سينعكس على الروح المعنوية، وأهمها:

1- مستوى الإمكانات: والإمكانات إما أن تكونَ ذاتيةً، أو خاصةً بقدرات الفرد أو المؤسّسة أو المجموعة أو الجماعة أو الأمة، أو أن تكونَ ماديةً أو علميةً أو تكنولوجيةً.. إلخ، وبقدر ما تكون الإمكانات كبيرةً.. تعلو الروح المعنوية، فتتحقّق الإنجازات، فلا يمكن أن تُنجَز الأعمال، بدون توافر الإمكانات اللازمة المختلفة. فاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَار.

2- الكفاءة: إذ هل يُعقل أن يتحقّقَ إنجاز من غير كفاءة؟!.. فالكفاءة شرط لا يمكن إغفاله عند الشخص الذي نتوخّى منه إنجازاً، وعدم توافر الكفاءة اللازمة عنده، سيؤثّر على روحه المعنوية، نتيجة الصعوبات التي يمكن أن تعترضَه ولا يجد لها حلّاً، لذلك، فالفشل هو النتيجة الحتمية لهذا الفرد ولهذا العمل. فاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَار.

3- الخبرة: فكلّما كانت الخبرات كبيرةً، تكون الإنجازات عظيمةً، وأصحاب الخبرة دوماً، تكون روحهم المعنوية عالية، لأنّهم -في طريق تحقيق أهدافهم وإنجازاتهم المتوخّاة- سيسلكون مساراتٍ خَبِروها جيداً في تجاربهم السابقة، فهم لا يسيرون في المجهول الـمُخَفِّض للروح المعنوية، بل في مسارٍ يعرفونه تمام المعرفة، وبخطواتٍ واثقة، وبروحٍ معنويةٍ راقية. فاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَار.

د- الحوافز: وهي كل المؤثرات المادية والمعنوية، التي تدفع الإنسان باستمرار، إلى تحقيق الإنجازات، وإنّ إهمالها، سيجعل إنجاز العمل كَعَدَمِه، وللحوافز أهمية بالغة في تأثيرها على الروح المعنوية. ومن أهم الحوافز:

1- المكافآت والتشجيع: فمهما كان نوع المكافأة المرصودة أو مستواها لتحقيق إنجازٍ ما، فإنّ تأثيرها على الروح المعنوية واقع لا محالة، ولا يمكن إغفال هذا الجانب خلال إنجاز الأعمال المختلفة، حتى لو كان ذلك كلمةً طيبةً، أو إطراءً مُشَجِّعاً، وعلى قدر العمل ونوعه وأهميته، وقد تكون المكافآت ترقيةً، أو مالاً، أو هديّةً، أو أيّ نوعٍ من أنواع الثواب.

2- النجاح والانتصارات والإحساس بالإنجاز: فتحقيق النجاحات سيقوّي من الروح المعنوية، التي بدورها ستؤدّي إلى مزيدٍ من النجاحات والإنجازات.

وتحقيق الانتصارات على مستوى الأفراد والجماعات والأمم.. يرفع عالياً الروحَ المعنويةَ لديهم، فيسعون بهممٍ عاليةٍ لتحقيق مزيدٍ من الانتصارات. وتَوَلُّد الشعور والإحساس بالإنجاز ذاته عند الإنسان، سيدفعه إلى الأمام باستمرار، لتحقيق المزيد من الأهداف والإنجازات.. وهكذا.

ه-القُدُوات: فالقدوة لها دور بالغ التأثير في رفع المعنويات أو تحطيمها، فلا يمكن لإنسان في موقع القدوة أن يُشيع روحاً معنوية عالية، إن لم تكن روحه المعنوية في أعلى درجاتها، والقدوة الصالحة تملك من الصفات القيادية ما لا يمكن أن يملكَه أيّ فردٍ آخر، وعليها تقع المسؤولية الكبرى في بَثّ الروح المعنوية الراقية لدى الأفراد، والقدوة الحسنة عظيمة الهمّة، لا تعرف الخمول أو الكسل أو التراخي في إنجاز أيّ عملٍ على مستوى الفرد أو الجماعة أو الأمة، والقدوة الناجحة تُوَرِّث النجاحات إلى غيرها من الأفراد، فالأعمال (وبخاصةٍ العظيمة)، لا يمكن إنجازها بقدواتٍ هزيلةٍ سيئةٍ ذات معنوياتٍ هابطة، لا تعرف من الإنجازات إلّا الثرثرة الفارغة والأقوال من دون الأفعال، لأنّ القدوة السيئة لا تُوَرِّث إلّا الفشل. وفي المقابل، فالقدوة الصالحة الحسنة: هي عمل دون صوت، وتحقيق للأهداف بِسَيرٍ ثابتٍ، ونظامٍ صارمٍ، وثقةٍ عاليةٍ بالنفس، ونفسٍ ممتلئةٍ بالآمال وبالروح المعنوية العالية، لذلك فهذه القدوة، ستبثّ هِمّةً لا مثيل لها، في نفوس الأفراد العاديين. فالقدوة الصالحة هي الأمل، وعندما يكثر هؤلاء في جماعةٍ أو مؤسّسةٍ أو أمّةٍ ما.. تكبر إنجازاتها، وترتقي باستمرارٍ إلى الأعلى، وتسمو على الدوام إلى الأفضل. فاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَار.

*     *     *

*     *     *

وهكذا..

فالأمة أو المؤسّسة أو الحزب أو الجماعة، التي لا تملك الخبرات أو الكفاءات أو القدوات.. أو التي تملكها وتُطيحُ بها أو تعزلها أو تجمّدها وتُهمّشها، لاعتباراتٍ طائفيةٍ أو حزبيّةٍ أو طرفيةٍ أو شُلَليةٍ أو عصبيّةٍ جاهليةٍ أو شخصيةٍ.. أو غيرها، على حساب المصلحة العامة، وتختار للمواقع المهمّة: الطائفةَ أو الحزبَ أو الطرفَ أو الشُلّةَ أو الأشخاصَ العاجزين الفاشلين، الذين يفتقرون إلى الخبرة أو الكفاءة أو إلى صفات القدوة المؤهَّلَة.. هذه الأمة أو المؤسّسة أو الحزب أو الجماعة، لن يكون مصيرها إلا الفشل والعجز والخيبات، ثم تنتهي إلى الهزيمة والاندحار والانكسار، وإلى الدّمار الشامل والاضمحلال، هذا في الدنيا.. ومن ثَمّ إلى الحساب العسير في الآخرة، بقدر درجة التفريط، ودرجة اتّباع الأهواء المتقلَّبة، وبدرجة حرص الجُناة الأغبياء (الذين يَسْطُون على مراكز القرار، بالاحتيال والتلاعب والانقلابات العسكرية وغير العسكرية، وبالاستغلال لمواقعهم والعبث غير الأخلاقيّ.. بدرجة حرصهم على المصالح الشخصية الضيّقة، أو على الأهواء الشيطانية الساقطة المتهافتة، وإغفال متطلّبات النجاح أو أدوات النصر وموجبات تحقيق المصلحة العامة للأمة أو للقضية. هؤلاء لن يحققوا إلا الانهيارات المؤلمة للمؤسّسة أو للأمة، ولجميع مَن فيها، على كل صعيد.

فاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَار.

*     *     *

-يتبع إن شاء الله.

وسوم: العدد 1031