إن تنصروا الله ينصركم

إن تنصروا الله ينصركم

أنور خليل إدعيس

النصر حقيقة لغوية في العون على الغير، وشرعية في عون الله عز وجل لعباده المؤمنين على غيرهم من الكفار، أو على من بغى عليهم وظلمهم من المسلمين، وهو من مفاهيم العقيدة الإسلامية، بل هو من أهمها لما له من أثر عظيم على من آمن به، سواء من حيث ما يمكن أن يقوم به من يعتقده، أم من حيث أثره على دوام الاستقامة لمن يؤمن به، ذلك أن الله عز وجل قد أوجب على الناس أمورا يصعب على نفوسهم اقتحامها والقيام بها لولا مفهوم النصر، وفي نفس الوقت جعل النصر حليفا فقط لمن آمن به وأحسن العمل، ما يعني أن غياب النصر علامة دالة إما على فساد في الإيمان، أو فساد في العمل، أو في كليهما، ووجوده علامة دالة على العكس، فكان بذلك لمفهوم النصر قيمة عظيمة في حياة الأمة الإسلامية تضمن لها حسن سيرتها، وتنبهها إلى فساد فيها عند الهزيمة.

وهو في نفس الوقت من مفاهيم العقيدة الإسلامية الحساسة التي يجب أن تفهم على وجهها تماما، لأن أي تصور له من غير دليل قد يفضي إلى فتنة من كان عنده الأمر كذلك، كمن ينسج من خياله مثلا ضرورة نصر الله للأمة الإسلامية على الأمم الأخرى باعتبار أن الأمة الإسلامية خير من غيرها رغم الفساد الذي فيها، فإن مثل هذا التصور الذي لم تدل عليه الأدلة حين يعتقده زيد من الناس ولا يصادف الواقع ما يعتقده، فربما كان ذلك سببا في فتنته عن دينه. من هنا كان لا بد من العناية بهذا المفهوم عناية فائقة جدا، تضمن حسن تأثيره على من يؤمن به، وبُعده عما يمكن أن يؤدي به إلى الهاوية.

والنصر لا يكون إلا من الله وحده، قال سبحانه وتعالى: (وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم)، وقال تعالى: (وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم)، وقال تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير)، وقال تعالى: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم الله فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون)، فهذه الآيات وأمثالها قطعية في الدلالة على أن النصر من الله وحده ولا يكون إلا من الله عز وجل، وهذا أمر لا جدال فيه.

ويكون للأمة وللجماعة وللجيش وللفرد، ومن أشكاله للأمة الأمن والرفعة والعزة والمنعة، قال سبحانه وتعالى: (لقد كان لسبأٍ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور)، وقال تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)، ومن أشكاله للجماعة الإيواء والاستخلاف والتمكين والأمن وتأييد الناس لها وسعة العيش بعد ضيقه، قال سبحانه وتعالى: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)، وقال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا)، ومن أشكاله للجيش الغلبة وقهر العدو والظهور عليه عند النزال، قال سبحانه وتعالى: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)، وقال تعالى: (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله)، ومن أشكاله للفرد ظهوره على من ظلمه والنجاة من عدوه، قال سبحانه وتعالى: (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر)، وقال تعالى: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين).

والإيمان وإحسان العمل سبب في حصول النصر للأمة والجيش والجماعة، وشرط للفرد وليس سببا، فحصوله مع وجود السبب للأمة والجيش والجماعة حتمي، وليس كذلك للفرد. ولا يبحث نصر الجماعة أو الجيش بعيدا عن نصر الأمة كأمة، خلافا لنصر الفرد فليس بالضرورة أن يتعلق بحثه ببحث الأمة. أما أن الإيمان وإحسان العمل سبب فلأن الله عز وجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، ويقول تعالى: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم)، ويقول تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون)، ويقول تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)، فهذه الآيات وأمثالها نص صريح بأن الله عز وجل ينصر من ينصره من الأمم، ونصر العباد لله كما هو معلوم إنما يكون بالإيمان وإحسان العمل، أي بالتقيد بما انبثق عن العقيدة الإسلامية بعد الإيمان.

وهذا النص لا يوجد فيه ما يدل لغة على إمكان تخلفه، فهو وعد أصلا وليس من أي جهة وإنما من الله عز وجل، ووعد الله لا يتخلف كما هو معلوم بداهة، فإذا وجدت أمة تعتنق العقيدة الإسلامية وتتقيد في مجملها بالأحكام الشرعية فإن النصر حليفها قطعا. وقد عاشت الأمة الإسلامية هذا المفهوم عمليا في تاريخها، وكان النصر حليفها في كل أزمانها التي كان الخير غالبا فيها، أو التي كان الامتثال لله عز وجل في أوامره غالبا عليها، وكذلك فقد عاشت عكسه حين كانت تبتعد عن الإسلام على نحو يغلب فيه الشر، فما كانت تتأخر عنها الهزيمة، الأمر الذي كان تجسيدا لمنطوق قوله وتعالى: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، وكذلك لمفهوم المخالفة للآية بمعنى إن لا تنصروا الله لا ينصركم.

صحيح أن الله عز وجل يقول: (ونبلوكم بالخير والشر فتنة وإلينا ترجعون)، وإذا أُخذ هذا القول على عمومه، فإنه يحتمل أن يبتلي الله عز وجل الناس بالهزيمة وهم على الخير فتنة لهم، إلا أن ذلك ليس واردا هاهنا في مفهوم النصر، لأنه لا يوجد نص واحد رد فيه الله هزيمة المسلمين إلى الابتلاء وحده، فهزائم المسلمين جميعا قد ردها الله إلى زيف في المسلمين، وكون الله عز وجل أصلا يبين سبب الهزيمة ويعالجه دليل على صحة ما كان يعتقده المسلمون من أن النصر حليفهم، أو لا بد أن يكون حليفهم دائما، ولو كانت مسألة الابتلاء واردة لم احتيجت الهزيمة إلى بيان سببها.

ولعله لا يوجد في الإسلام أبين من هذه القضية، فانظر إلى قوله تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير)، فالمسلمون قد اندهشوا من الهزيمة واستهجنوها، وتساءلوا كيف تصيبهم الهزيمة وهم يقاتلون في سبيل الله وموعودون بالنصر؟، فكان جواب الله سبحانه وتعالى لهم (قل هو من عند أنفسكم)، وذلك بسبب مخالفة الرماة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر الله تعالى عليهم اعتقادهم بأن النصر لا بد أن يكون حليفهم ورد الهزيمة إلى زيف فيهم، ولم يذكرهم بشيء اسمه الابتلاء في الموضوع الأحوج لبيان ذلك.

وانظر إلى قوله تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين)، فإن الله تعالى ذكر المسلمين أول الآية بنصره لهم في مواطن كثيرة، حتى يبين لهم أن اعتقادهم بأن الله ناصرهم قد حصل في أرض الواقع فعلا، حتى لا يكون في نفوسهم شك في ذلك، ثم بين لهم أن سبب الهزيمة في أول الأمر إنما كان لقولهم: (لن نغلب اليوم من قلة)، فقد وكلوا إلى أنفسهم ونسوا ولو للحظة أن النصر من الله عز وجل وعليه، وهذا مخالف لشروط النصر، وواضح في رد الهزيمة إلى زيف فيهم كذلك، ولم يذكر الله عز وجل مسألة الابتلاء بالهزيمة أو النصر كذلك لا تصريحا ولا تلميحا، ما يدل على صحة اعتقاد المسلمين بضرورة أن يكون النصر دائما حليفهم "بشهادة الله عز وجل" ما داموا مؤدين لله شرطه، ومن هنا قيل أن الإيمان وإحسان العمل سبب في نصرة الأمة والجيش والجماعة، أي أن حصوله حتمي.

أما بالنسبة للجيش فإنه كذلك إن كان مؤديا لما عليه من شرط لله عز وجل فإن نصره حتمي كذلك، وشروطه لا تختلف كثيرا عن شروط الأمة بل هي نفسها، لأنه يقاتل من أجل الأمة أصلا ونصره نصر للأمة وليس له وحده، من هنا فإنه لا يبحث نصره بعيدا عن نصر الأمة، إلا أن الجيش له شرط إضافي عليه وعلى الأمة التي تجهزه، وهو أن الله عز وجل قد كفل له النصر إذا كانت قوته تساوي نصف قوة الكافرين، قال تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين)، فإن الله عز وجل كان قد أوجب على المسلمين أن يثبتوا في وجه الكفار إذا كانت قوتهم تساوي عُشر قوة الكافرين، ثم نسخ ذلك وأوجب عليهم الثبات في وجه الكفار إذا كانت قوتهم تساوي نصف قوة الكافرين، وضمن لهم النصر عليهم.

فإذا التقى جيش المسلمين بجيش الكفار وكانت قوته تساوي نصف قوة جيش الكفار، وأمتهم التي يحاربون دونها محققة لشرط النصر، فإن الغلبة حتمية لجيش المسلمين، فإذا حصلت الهزيمة فإن ذلك يعني إما زيفا في الجيش أو زيفا في الأمة التي يقاتل الجيش دونها، أو خللا في الشرط الخاص بالجيش والأمة من ضرورة السعي لجعله متمتعا بنصف قوة الكفار على الأقل. ذلك أن مفهوم المخالفة معمول به عند أهل الأصول وإذا طبق على الآية الخاصة بالجيش ( فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله)، فمعناه أنه إن يكن منكم خمسون صابرون فليس بالضرورة أن يغلبوا مائتين، أي أن الله ليس متكفلا بنصرهم لأن الكفالة "يغلبوا" المذكورة في الآية لا تغطيهم.

أما الجماعة فالإيمان وإحسان العمل كذلك سبب في حصول النصر لها، فالله عز وجل يقول في حق الجماعة: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)، فالله تعالى قد أوجب على الجماعة الإيمان وإحسان العمل وجعل ذلك سببا مؤكدا في استخلافها، فقد جاء باللام التي هي جواب قسم محذوف ونون التوكيد الثقيلة (ليستخلفن)، وذلك إمعانا في التأكيد على وعده بالنصر لها، والآية وإن نزلت في المسلمين بعد الهجرة عندما كانوا في خوف شديد من الكفار لا يمسون ولا يصبحون إلا ومعهم السلاح، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي للجماعة قبل الدولة، بل هي للأمة كذلك ولا يوجد ما يخصصها لأي منهم.

فكل جماعة اجتهدت فيما هو مطلوب منها شرعا، باجتهاد صحيح وقامت به، فإنه ومن اللحظة التي يمكن أن توصف فيها بأنها جماعة قائمة بأمر الله تعالى يسري عليها وعد الله بالنصر، إلا أن هذا الوعد ليس مفتوحا إلى يوم القيامة، بمعنى أن الجماعة حين تكتمل من حيث العدد ومن حيث تلبسها بالعمل، فإن الله متكفل بنصرها قبل أن يفنى الذين استحقت وعده سبحانه وتعالى بدخول آخر فرد فيهم، والمقصود هنا هو فناء الكل وليس فناء البعض ممن استحقت بهم الوعد، لأن الوعد للجماعة وليس لفرد فيها، فكون الوعد للجماعة لا يعني أنه مفتوح إلى قيام الساعة، لأن جعله مفتوحا لمائة سنة مثلا يجعله من غير قيمة بالنسبة لثلاث أجيال على الأقل، سواء من حيث وظيفته في تحفيز من يؤمن به على القيام بالعمل، أو من حيث وظيفته في ضمان استقامة الجماعة.

فكل جماعة من الجماعات قامت وتشكلت وأمكن اعتبارها جماعة قائمة بأمر الله، فإنه لا بد أن يأتيها نصر الله "قبل أن يفنى من كان فيها" في اللحظة التي اعتبرت فيها قائمة بأمر الله محققة لشروطه، أما إذا فني هؤلاء ولم يتحقق لها النصر، فمعنى ذلك أن هذه الجماعة فيها خلل لا بد لها من التفتيش عنه، ولا بد أن تراجع حساباتها من جديد وأن تعيد النظر في كل شيء عندها، لا تستثني من ذلك إلا ما هو مقطوع بصحته. وهنا تتجلى الوظيفة الثانية لمفهوم النصر من حيث ضبطه للسلوك، أما إبقاء الوعد مفتوحا إلى قيام الساعة، فإن من شأن ذلك أن يلغي هذه الوظيفة والنعمة التي من شأنها أن تدلها على خطأ فيها لا تعلم به، وذلك يجعل الجماعة تدور في حلقة مفرغة من غير أن تحقق شيئا إلى أن تنقرض.

ونصر الجماعة لا يبحث بمعزل عن نصر الأمة، لأن مظاهر النصر وأشكاله لا يمكن أن تنعكس على أفراد الجماعة فقط، فالعزة والمنعة والأمن وسعة العيش كلها مظاهر تنعكس على البقعة التي تعيش فيها الجماعة أو تنتصر فيها، ولا تنعكس على الأفراد دون الأمة، وهي مظاهر لا يرسلها الله بطرود بريدية للناس، ولا يمكن تصور ذلك، فلا يتصور أن يكون هذا الرجل عزيزا في بيته لأنه من حملة الدعوة، وشقيقه ليس عزيزا لأنه ليس من حملة الدعوة، أو أن هذا البيت عزيز لأن أهله على الخير، والبيت الذي يليه ليس عزيزا، لا يتصور ذلك بحال. من أجل ذلك فإن أول مظاهر النصر للجماعة تكون في تأييد الناس لها، وحملهم لما تحمل حين تكون على الخير، فإن حصل ذلك تكون الجماعة قد نُصرت بتأييد الناس، واستحق الناس النصر بتأييدهم للجماعة، فاستحقوه بذلك جميعا، وهذا ما حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد استحق النصر هو والصحابة، فأعطاه الله إياه أول ما أعطاه بتأييد شعب في معظمه له، فاستحقوا جميعا نصر الله لهم، وقد كان، وهذه هي الصورة الوحيدة لنصر الجماعة، لأن بحث نصر الجماعة بعيدا عن نصر الأمة أمر مستحيل بل هو طحن للماء لا يمكن أن ينشأ عنه أي فائدة على الإطلاق.

فكل جماعة طابقت الوصف الشرعي فسرى عليها وعد الله، ثم فني الذين استحقت وعده تعالى بانضمام أخر فرد منهم إليها ولم تنتصر، فإن عليها أن تقف طويلا مع نفسها وتراجع حساباتها بدقة، حتى لا تبقى تدور في حلقة مفرغة تستنزف فيها طاقات الأمة عبثا من غير أي نتيجة، لأنها لو كانت مستحقة للنصر لانتصرت، ولا معنى لتأخر النصر عنها إلا أنها ليست له مستحقه، وها هو النبي صلى الله عليه وسلم قد انتصر هو وأصحابه الذين آمنوا معه، ولم يتأخر نصرهم أجيالا، فالذين حملوا الدعوة معه أكثرهم عاش النصر وشهده بأم عينيه. وعندما سألوه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بالنصر، لم يبين لهم مسألة الابتلاء حيث الحاجة إليها، وإنما طلب منهم الصبر وأكد لهم بأن النصر آت، ولا معنى لهذا التأكيد إطلاقا لو كان يعني انتصارهم بعد عشرة أجيال مثلا، وما سكنت نفس السائل إلا لما علم أن النصر آت له ولمثله.

أما الفرد فنصره من الله ليس حتميا وإن كان أجره عند الله محفوظا، وذلك أن الله عز وجل يقول: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، فقد بين الله عز وجل إمكانية أن يصيب الله قوما بعذاب، ويصيب عذابه هذا أفرادا لا ذنب لهم، والرسول صلى الله عليم وسلم من يقول: (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)، فقد يقتل الفرد من عباد الله مظلوما ولا ينصره الله، وقد يموت مظلوما ولا ينصره الله، وقد يعيش مظلوما ولا ينصره الله، وإن كان أجره محفوظا في ذلك، فالأدلة لم تبين حتمية نصر الفرد، ما يدل على أن وعد الله للفرد بالنصر ليس حتميا في وقوعه.

وقد أدرك المسلمون الأوائل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وما بعده مفهوم النصر إدراكا صحيحا، وكان في أذهانهم واضحا وضوح الشمس، فكان له بوظيفتيه "التأثير والضبط" الأثر الأكبر على سلوكهم، فأحالهم من مجموعات ترى في غزو غيرها و الاستيلاء على ما عندهم أكبر الإنجازات، إلى قوة عجز أهل الأرض عن هزيمتها، حتى عُرف جيش المسلمين بأنه الجيش الذي لا يقهر، وأحالهم مفهوم النصر خلقا آخر، حققوا به أعظم الإنجازات في تاريخ البشرية كلها حين اعتنقوه وعملوا بمقتضاه، وفي نفس الوقت فهم قد استفادوا من هذا المفهوم أكبر الفائدة في انضباطهم في حياتهم، فما كانت تحل بهم هزيمة إلا وراحوا يبحثون عن عورة في امتثالهم لدين الله، وما كانوا يشعرون بأنهم على الطريق القويم إلا وهم منتصرون على غيرهم من الكفار، وبقي حالهم كذلك حتى ضعفت العقيدة في نفوسهم وضعف معها هذا المفهوم، وبعدوا عن الإسلام فأمكن الله منهم عدوهم.

والنصر كغيره من المفاهيم الإسلامية قد تعرض لغشاوة في أذهان المسلمين أفقدته كثيرا من وظيفتيه "التأثير والضبط"، وكان لغياب هاتين الوظيفتين أثر كبير على انحطاط الهمم، والتقاعس عن طلب العلا واقتحام ذرى المجد، فهبطت الغايات، وصار الأفراد والجماهير لا ينظرون إلا إلى ما بين أرجلهم. وكذلك كان لغيابه أثر كبير على الناس في تخبطهم فيما يخرجهم مما هم فيه من هزيمة، فوضوحه يعني فيما يعنيه، أنه وعند حصول الهزيمة فإن على الناس أن يبحثوا أولا وقبل كل شيء عما يخالف أمر الله تعالى، ويتخلصوا منه، إلا أن الواقع من الأمور قد جرى على العكس تماما، فأرادوا أن يتخلصوا من الاحتلال بالانخراط في الحركات الوطنية على غير أساس الإسلام، واللجوء إلى الهيئات الدولية الكافرة، فازداد الاحتلال عزة وقوة، ولجئوا إلى الدخول في البرلمانات والسبل الديمقراطية للتخلص من أنظمة الحكم، فأحكمت أنظمة الحكم قبضتها تماما عليهم، وسعوا إلى التخلص مما هم فيه من فقر بالبحث في السياسات الرأسمالية، فازدادوا فقرا على فقر وبلادهم دينا على دين.

وأخيرا ونسأل الله أن يكون آخرا، راحوا يُجارون الغرب فيما يُسمى بالحداثة فيقلدونه بكل ما هو فيه من كفر وضلال وبهيمية، ولست تدري كيف لا يخجلون من أنفسهم أمام هذا الغرب الذي يقلدونه، وما يشعرون أنهم في نظره بمثل هذه الأفعال مجموعة من الرعاع السقط التي رضيت لنفسها المذلة وللغرب العزة. من هنا فإن السعي لتوضيح مفهوم النصر وبعثه في النفوس بوظيفتيه "التأثير والضبط" ضروريا ومهما جدا، يجب على حملة الدعوة أن ينتبهوا إليه، حتى تقف أمّتهم على الطريق القويم، الذي يجب أن تقف عليه بسرعة، قبل أن تفقد هويتها كأمّة، أو يستبدلها الله بقوم آخرين فتخسر الدنيا والآخرة.

" يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ".