لماذا يخيف الإخوان السلطة رغم سجن قياداتهم؟

طالع الجميع الأداء البائس لحزب الوفد مؤخراً، والذي تمثل في "الطلعة الجوية" لرئيسه عبد السند يمامة؛ ليس فقط بخوضه الانتخابات الرئاسية "سنيداً للمرشح الأصلي"، ولكن بجانب هذا إلى تصريحاته الأكثر بؤساً، والأمر كله كاشف عن نهاية هذا الحزب العريق، وليس مُنشئا لهذه النهاية الأليمة.

في الوقت ذاته لا تزال السلطة في مصر ودوائرها في رعب خوفاً من جماعة الإخوان، باعتبارها تمثل البديل الحقيقي للنظام، بعد عشر سنوات من الاستئصال، وحروب الإبادة الجماعية، والاعتقال على الهوية، أو بتهمة الانتماء للجماعة والتعاون معها، صحيح أن كثيراً من عملية التخويف ليست حقيقية، فالجماعة تحتاج إلى وقت ليس بالقصير لتضميد جراحها، لكن دوائر الحكم تدرك أن الإخوان لا يزالون رغم ما حدث هم البديل، والتخويف بهم له مبرره، فلو أيقنت هذه الدوائر أنهم انتهوا فعلاً لأصبح بأسهم بينهم شديداً، لكن ما يجمعهم هو وجود هذا البديل!

فالقوى السياسية الأخرى لم تعمل على بناء نفسها، طيلة السنوات العشر الماضية، لتمثل مجتمعة أو منفردة بديلاً مريحاً للنظام العسكري القائم، وأتذكر أن القوى المدنية بعد ثورة يناير طالبت بتأجيل الانتخابات حتى تتمكن من بناء نفسها، والاستعداد للمرحلة الجديدة، ومواجهة التيارات الإسلامية. وإذ كنت أقرب لهذه القوى، إلا أنني اختلفت في هذه الزاوية، لأن مد الفترة الانتقالية لحين تمكنها من بناء نفسها، سيترتب عليه أن يستغل المجلس العسكري الوقت لصالحه، ويبقى في الحكم، وأن علينا التبكير بالانتخابات البرلمانية والرئاسية، على أمل البناء للانتخابات القادمة!

بيد أن هذه القوى ازادت ضعفاً بمرور الأيام، بعملية الإرهاب التي تمارسها السلطة، مع أن ما تتعرض له لا يعد شيئاً مذكوراً بجانب ما تتعرض له جماعة الإخوان، ومع ذلك لا تزال تمثل بعبعا للحكم القائم عند إجراء أي انتخابات نزيهة، فالنظام نفسه ورغم أنه يملك سيف المعز وذهبه، لم ينجح في أن يشكل تنظيماً سياسية فاعلا، رغم عشر سنوات من العمل المنفرد في الساحة، بما يمكنه من تشكيل شعبية تجعله قادراً على أن يكرر التجربة التركية بانتخابات نزيهة تمكنه من الفوز المريح. ولهذا يهرع إلى استكمال الشكل، والاستعانة بصديق، كما الحال في المرتين السابقتين، ومن المقدر أن يكون هذا الصديق هذه المرة هو "عبد السند إلى آخره"، وإذا بنا نعلم أن الهيئة العليا لهذه الحزب العريق، وافقت بأغلبيتها على قرار خوض الانتخابات، وأن يقوم زعيم الحزب بدور "المحلل"، ولم يستر العورات التي تجلت للناظرين بأداء تمثيلي جاد، ولكنه يعترف بدوره، فهو يخوض الانتخابات منافساً للسيسي، وهو بنفسه من مؤيديه!

إلى مستوى قارئ الكف:

وهي رعونة كاشفة عن ضياع المكانة، وانحسار الحزب وتقزّمه، ليكون في مستوى حزب الأمة لصاحبه الحاج أحمد الصباحي، قارئ الكف الشهير، الذي خاض الانتخابات ضد مبارك وأعطى صوته له. لكن نذكر أن رؤساء الأحزاب الأخرى، الذين خاضوا هذه الانتخابات، لم يكونوا في الأداء وقتئذ كالحاج الصباحي، أو كعبد السند.. الخ، ليس فقط رئيس حزب الوفد نعمان جمعة، ولكن أيضاً رؤساء الأحزاب الصغيرة الأخرى، الأمر الذي كشف أن الوفد لم يعد سوى جثة هامدة، ليصبح جديراً بمقال قديم كتبه رئيس التحرير المؤسس لصحيفته الراحل مصطفى شردي: "ادفنوا هذا الحزب رحم الله موتاكم"، وكان في ذلك الوقت يقصد الحزب الوطني الحاكم!

لقد جمع بين "الوفد" و"الإخوان" كثير من القواسم المشتركة، فكلاهما كانا حزب الأغلبية، وفي مراحل زمنية مختلفة، حتى قيل في وقت من الأوقات إن الوفد لو رشح حجرا لانتخبه الناس، الأمر نفسه سرى على الإخوان في نهاية حكم مبارك، وفي بداية الثورة، وكلاهما كان سبباً في تنكر المدنيين للديمقراطية وعودة الحياة النيابية، ولهذا اصطفت قمم مصرية، كعباس محمود العقاد، وطه حسين، وعبد الرزاق السنهوري، وسليمان حافظ؛ بجانب الاتجاه الاستبدادي للعسكر. ولم يكن تنكرهم لها بالكامل، فقد كانوا مع ديمقراطية تستثني الوفد، ولأسباب معظمها شخصي، لكن في مثل هذه المعارك، فإن من ينتصر هو الأكثر استبداداً وطغياناً، فحدثت أزمة آذار/ مارس 1954، وهُزمت الديمقراطية، وضُرب السنهوري في مكتبه بأحذية الغوغاء الذين تم استئجارهم للتظاهر والهتاف: "تسقط الديمقراطية، يسقط المثقفون الخونة"!

الأمر نفسه حدث بعد الانقلاب العسكري في 2013، إذ كانت القوى المدنية تريد ديمقراطية تستثني الإخوان، لكن الدبابة كانت حاضرة، فألزمتهم حدودهم الجغرافية، ولم تكن هذه الحدود سوى داخلهم، ليعيش الواحد منهم داخل نفسه، لا يبرحها إلا ليؤدي دوراً، أو يلبي استدعاء، وليعطي تماماً، باعتباره ليس أكثر من "عسكري مراسلة" يقوم بأعمال الخدمة في البيوت، وفي المعسكر، وقد صارت مصر معسكراً كبيراً!

وكل من الوفد والإخوان تعرض لحملة إبادة كفيلة بإنهائهما من الوجود، فقد سُجنت قيادات الوفد، وحوصروا في بيوتهم وأرزاقهم، وصودرت أموالهم، حتى أن "زعيم الأمة" مصطفى النحاس لم يجد ثمن الدواء، واشتغلت الآلة الإعلامية تدمر السمعة، وتخوض في الأعراض، وإذا كان عداء ثورة يوليو لـ"الشريك الإخواني"، جرى بعد ذلك، فقد كانت الحملة على شتى المسارات قاسية. فمن كان يتصور أن القوم وهم يتعرضون لهذه المحنة شديد الوطأة، حتى أن المرشد العام كان يعيش في ثياب ممزق، ويتعرض للإهانة والاعتداء، إنه يمكن أن تقوم لها قائمة مرة أخرى؟!

عودة الوفد:

لقد مات النحاس باشا بعد أكثر من ثماني سنوات من الخطاب الواحد، فإذا بجنازته غير المعلنة تتحول إلى حشد قتال، بشكل أرق رأس الدولة نفسه، أن يظل أحد من بين المصريين يتذكر النحاس بعد تغييبه كل هذه السنوات، لترتكب السلطة تصرفا يكشف عن اهتزاز موقف الحكم، فيتم اعتقال عدد من الذين شاركوا في هذه الجنازة وتعرفت عليهم الأجهزة الأمنية، لنكون أمام مسخرة حقيقية، أن يكون الاتهام هو المشاركة في تشييع ميت إلى مثواه الأخير.

لقد جرب الوفد العودة للحياة السياسية في عهد السادات، لكن الرئيس استشعر خطراً على نفسه. والجدير بالإشارة هنا، أن السادات لم يتصدَ للهجوم على الثورة، وهو من ضباطها، وعلى حكم العسكر وهو أحدهم، وعلى الكتابات الكثيرة بعد وفاة عبد الناصر ضد ما جرى في عهده وكان السادات نائباً لرئيس الجمهورية، لكن جُن جنونه بعودة الوفد، الخصم التاريخي لثورة يوليو، وبدا كما لو كان تذكر فجأة أنه واحد من الضباط الأحرار، فشن هجوماً قاسياً على الوفد والعهد البائد وذكر أنه ابن هذه الثورة ولن يسمح بالمساس بها، وقال في خطاب غاضب إنهم كانوا يضربون بالصُرَم (الأحذية القديمة) من جانب الملك والإنجليز، ورد عليه فؤاد سراج الدين بخطاب طويل: لم نكن نحن من يُضرب بالصُرم"، يذكر بموقف الوفد المناهض للملك!

وعاد الوفد في الثمانينات، وإذا به لا يزال رغم سنوات الاستئصال هو حزب الأغلبية الحقيقية، ووصل توزيع جريدة الوفد الى مليون نسخة أسبوعياً. وكان الباشا فؤاد سراج الدين كلما زار محافظة بدا أهلها وكأنهم خرجوا جميعاً لاستقباله، وإن تحالف مع الإخوان في انتخابات سنة 1984، فلم تكن شعبية الجماعة في هذا الوقت تمكنها من أن تنافسه على الشعبية!

ضعف الوفد وقوة الإخوان:

بمرور الأيام قوي الإخوان، وضعف الوفد، وتمكن منه الانتهازيون الذين أبرموا صفقات مع السلطة، ثم توقف النظام وآلته الإعلامية وأمنه عن استهداف حزب الوفد. وعندما تقر المحكمة الدستورية الإشراف القضائي على الانتخابات لم يكن الوفد جاهزاً لها، كان في طريقه للنهاية، وأعلن رئيسه الجديد نعمان جمعة عن معركة المائة مقعد، لكنه لم يفز سوى بعدد من المقاعد لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، بينما فاز للإخوان سبعة عشر مرشحاً. وفي الانتخابات التالية فاز لهم 88 نائباً، وصرح رئيس الوزراء أحمد نظيف أنه لولا التزوير لنجح لهم 44 مرشحاً آخرون، بينما انتهى الوفد إلى نائب أو أكثر. وبعد ثورة يناير، كانت فرصة الوفد للحضور، فإذا بالإخوان يثبتون أنهم حزب الأغلبية! وبعد الانقلاب، هبط الوفد لمستوى حزب قارئ الكف ونجله محمود (رحمة الله على الجميع) بهذا الخطاب المترهل لزعيمه؟!

ثم لنصل إلى بيت القصيد: ما الذي أدى إلى نهاية الوفد، حزب سعد زغلول، ومصطفى النحاس، وفؤاد سراج الدين، بينما احتل مكانه حزب الإخوان المسلمين من حيث كونه حزب الأغلبية في الشارع السياسي رغم عشر سنوات من القصف المتواصل على كل ما يمت له بصلة، ولو زائفة، إلى درجة أن نقرأ كل هذه التصريحات ضد الجماعة وحكمها في الأسبوع الأخير، وكأننا في أجواء سنة 2013؟!

لا أميل لتفسيرات عاطفية عن قوة الجماعة بأنها مرتبطة بعقيدة الناس، لأن الناس لديهم مرجعيات تهيئ لهم من أمرهم رشدا، ثم إن هناك جماعات دينية كثيرة خرجت واندثرت، قويت ثم ضعفت، فالضعف بعد القوة هو الثابت في الأفراد، والحركات، والإمبراطوريات، فلماذا يستمر الإخوان؟!

إنه الاستبداد الذي عندما يحاصر الفكرة، فإنها تقوى وتصلب طولها، وتدخل في تحدٍ، وقد يصيب أصحابها الوهن، ويبدو الرأي العام منسجماً مع هذا الحصار، وعازفا عن المحاصرين وكأنه يصدق دعاية السلطة ضدهم، لكن عندما يسكت الرصاص، يكون الموقف مع المضطهَد!

كل أدوات السلطة في البطش والقهر لم تنهِ حزب الوفد، وكل أدواتها لم تنهِ الإخوان، ولم يكن التيار الإسلامي هو المتمدد في الجامعات في نهاية عهد عبد الناصر حتى أوائل عهد السادات، ولكن اليسار كان صاحب الصوت العالي، والأداء المعارض، ومع ظهور التيار الإسلامي كانا يزاحمان بعضهما بعضاً، ثم سرعان ما اندثر اليسار، بعد قيام نظام مبارك باحتوائه، استغلالاً لهزائمه وانهيار النظرية بسقوط الاتحاد السوفييتي!

وكما انتهى اليسار انتهى الوفد، وبقي الإخوان مصدر خطر، حتى وإن كانوا عظاماً في قفّة، لأن الطغيان يقوي خصومه، ويجذب لهم متعاطفين، رغم حملة الاستئصال والإبادة!

سيبقى الإخوان شوكة في حلوق خصومهم ما بقي الاستبداد!

وسوم: العدد 1038