شكل الديمقراطية التي يريد الغرب العلماني تكريسها في دول العالم الثالث خصوصا في القارة الإفريقية

ومن المعلوم أن الغرب العلماني بشقيه الأوروبي والأمريكي الشمالي، يفاخر بأنه ديمقراطي ، وأكثر من ذلك بأنه وصي على الديمقراطية في العالم، بل وأنه يعاقب الدول الخارجة عن طاعته إذا قضى بأنها غير ديمقراطية بالمفهوم الذي يعطيه لهذه الديمقراطية ويكرسه  .

ومعلوم أن الديمقراطية عند الغرب، هي حكم الشعب نفسه بنفسه ،  والحقيقة أن هذا التعريف ليس صحيحا ولا دقيقا، لأن الشعب قد ينقسم إلى قسمين تتقارب بينهما نسب التصويت، حيث يكفي أن يفوز أحدهما بزيادة جد ضئيلة  على غريمه ليقال عنه إنه أغلبية . وقد تعاد الانتخابات في مثل هذه الحالة  أحيانا لتزيد نسبة الفارق بقدر ضئيل أيضا ، وتبقى الحالة على ما كانت عليه  في الجولة الأولى ،قسم فائز بنسبة قليلة ، وقسم خاسر بأغلبية كأغلبية غريمه الفائز تقريبا ، كما كان الحال في الانتخابات الأخيرة في تركيا العلمانية التي تعتمد  شكل الديمقراطية في الغرب العلماني . وما حدث في الانتخابات التركية يحدث في كل بلاد الغرب العلماني ، ويحظى بالثناء والإشادة عالميا  ، وتتحرق شعوب العالم الثالث لتلحق بالركب العلماني الغربي في ذلك ، طمعا في اللحاق بشعوبه في حكم نفسها بنفسها ، ولو بفارق نسب ضئيلة .

والغرب الذي ينصب نفسه وصيا على الديمقراطية في المعمور ، ويفرضها على دول العالم الثالث ، ويعاقبها إن هي أخلت بها ، يكيل بمكيالين حيث يشيد بتجربة ديمقراطية في بلد من تلك البلدان ، ويدعمها ،ولا يقبل أن يجهز عليها بانقلابات عسكرية كما هو الحال في دول القارة الافريقية ، وفي المقابل يلوذ بالصمت حين يجهز على أخرى بانقلابات دموية كما حدث في مصر ، ويزكي المنقلبين ويدعمهم ، ولا يحرك ساكنا ، ولا يعبر عن مجرد أسفه عن خلع الرئيس الشرعي  المنتخب ديمقراطيا ، وسجنه ، ومحاكمته ، و تعذيبه ، و الحكم عليه بالإعدام ،قتله أثناء اعتقاله بطريقة فظيعة ومكشوفة .

ومقابل هذا الموقف من الانقلاب العسكري في مصر ، يقيم الغرب العلماني اليوم الدنيا ولا يقعدها بسبب الانقلاب العسكري في النيجر ، ويطالب بعودة الرئيس المطاح به إلى السلطة ، وبعودة الديمقراطية حسب تعريفه  ، ولا يشعر بحرج وهو يكيل بمكيالين في الحكم على الانقلابات العسكرية على الديمقراطية التي ينصب نفسه وصيا عليها  في كل المعمور، خصوصا في دول العالم الثالث ، وعلى رأسها دول القارة الافريقية  التي كانت كلها أو جلها مستعمرات الغرب العلماني الأوروبي سابقا  . وإذا عرف سبب كيل هذا الغرب  بمكيالين  حين تهدد الانقلابات العسكرية التجارب الديمقراطية، بطل العجب كما يقال ، ذلك أن الأمر يتعلق  ببلدان قارة  فيها من الثروات الهائلة  ما صنع رفاهية الغرب الأوروبي يوم كان يحتلها ، واستمر الوضع على ما كان عليه خلال فترة الاحتلال بحيث استمر استنزافه لتلك الثروات، الشيء الذي ترتب عنه فقر شعوب تلك الدول التي لم يعرف التاريخ هجرة فرارا من الفقر كهجرتها . ولهذا حين تعرف الديمقراطية من منظار الغرب العلماني ، لا بد من إضافة ليكتمل التعريف ، فيصير كما يلي : الديمقراطية هي حكم أغلبية الشعب ، ولو بفارق نسب ضئيلة، مع ضرورة  مراعاة مصالح الغرب العلماني  وإلا لا تعتبر ديمقراطية .

بالأمس وقف الرئيس الفرنسي يخطب في سفراء بلاده المعتمدين في بلدان أخرى خصوصا بلدان القارة الافريقية ، وقد انتفخت أوداجه ،وعلا صوته كأنه منذر حرب ، ليعلن أن سفيره غير المرغوب فيه في النيجر لن يغادر النيجر ، وأن قواته الموجودة في قاعدة بموجب اتفاق مع الرئيس المخلوع لن تغادر ، وأن بلدانا أخرى  نعتها بالصديقة تؤيده في ذلك ، وهي تخطط لغزو النيجر بذريعة إعادة الديمقراطية والشرعية إليه ، والحقيقة أنها موجودة لحماية نقل مقدراته من اليورانيوم الذي يزود فرنسا بما يزيد عن ثلث طاقتها الكهربائية في وقت يعاني شعب النيجر من نقص فظيع من هذه الطاقة ، فلا يجد دفئا في شتاء قاس ، ولا تهوية في صيف حار ، كما شهد بذلك أصحاب  العلم والخبرة  عن قرب .

وما جعل فرنسا تتخذ هذا الموقف، هو طرد قواتها من دول إفريقية أخرى، وعلى رأسها مالي بلد الذهب والمعادن الثمينة ، وبوركينا فاسو التي لا تقل مقدراتها عن مقدرات مالي . وبالتحاق النيجر بمالي وبوركينا فاسو، تكون فرنسا قد تعرضت لصفعة قوية ، ولخسارة فادحة مؤثرة على رفاهيتها الحاصلة عليها مجانا لكونها المحتل السابق لتلك البلدان التي تعيش شعوبها كما كانت منذ آلاف السنين في تخلف ،وفقر ، ومرض، وكل الويلات   .

ولقد أوعزت فرنسا ومن يؤيدها من الدول الغربية إلى أنظمة إفريقية عميلة لها وراعية  لمصالحها كي تتدخل بالقوة  في النيجر بذريعة إعادة الشرعية والديمقراطية ، وهي تريد توريطها في حرب قذرة هناك تكون ضحيتها شعوب إفريقية بائسة  كي تجد هي  مبررا للتدخل هناك حرصا على مصالحها التي باتت مهددة بشكل غير مسبوق ، وهذا ما لم تفعله حين ضاعت الشرعية والديمقراطية في مصر ، وفي غيرها من بلدان  العالم الثالث خصوصا في إفريقيا .

ومعلوم أن التجارب المحسوبة على الديمقراطية في الدول الإفريقية بالمفهوم أو بالمنظار الغربي الغلماني ، تعتريها العيوب الفاضحة ، حيث ينتقى من يتقدمون للانتخابات الرئاسية  انتقاء ، ويكون ولاءهم للغرب العلماني واضحا لا غبار عليه ،ولا يمكن لمن ليس له هذا الولاء أن يتقدم للانتخابات أصلا ، ويستحيل أن ينجح ، وهذا هو سر حدوث انقلابات عسكرية في دول القارة الإفريقية ، بل قد يكون الرئيس صاحب ولاء للغرب في بداية أمره  ثم إذا خلع هذا الولاء بعد ذلك ،تكون للغرب يد خفية أو جلية  في الانقلاب العسكري عليه ، وبهذا يكون الغرب هو صانع الانقلابات في إفريقيا  ، و في نفس الوقت وصيا على الديمقراطية فيها لكن بمفهومه المصلحي المكشوف  ، وهو ضد من ينقلب عليها ،علما بأن فلسفته قد كشف عنها بشكل واضح الرئيس الأمريكي الذي غزا العراق والقائل  نيابة عن كل الغرب العلماني : " ليست لدينا صداقات دائمة ، ولا عداوات دائمة بل لدينا مصالح دائمة " .

وعلى غرار ما حدث في مصر، أجهز الرئيس التونسي، وهو صنيع فرنسا ،والمنتخب ديمقراطيا على الديمقراطية والشرعية في بلاده  ، وتحول بين عشية وضحاها إلى ديكتاتور مدني ، وسكتت فرنسا ومعها خلفاؤها الغربيون عن ذلك ، لأن هذا الديكتاتور المصنوع ، يعتبر ضامنا لمصالح فرنسا ومصالح الغرب عموما  .

ولا يختلف الأمر في الجزائر التي جرت فيها انتخابات صورية جاءت برئيس مصنوع أيضا ، وهو واجهة  يقف خلفها صناع القرار، وهم  جنرالات فرنسا الذين داسوا على إرادة الشعب الجزائري التواق إلى الديمقراطية الحقة ، وليست الصورية ، وسكتت فرنسا عن ذلك ، لأن مصالحها  الدائمة مضمونة ومحمية في الجزائر.

ومن مهازل التجارب الديمقراطية في بلدان العالم الثالث خصوصا في إفريقيا، أن الشرائح التي تمثل ما يسمى أغلبية هي غالبا  من العوام  الأميين الذين يدفعون ويساقون  إلى صناديق الافتراع  دفعا وسوقا ، وهم لا يعرفون شيئا عما يراد بهم ، وهم في ذلك بمثابة ما يسمى بالوجوه التي توظف في الأفلام السينمائية مع أبطال الأفلام، حيث تنتهي أدوارهم الثانوية العابرة في لقطات عابرة ، ولهذا ما قيمة أغلبية من هذا النوع تستغل لحجب أغلبية  واعية تخسر الانتخابات بنسب ضئيلة توفرها الأغلبية المدفوعة والمسوقة لضمان فوز من لا يخرج عن طاعة الغرب العلماني ، وتكون مهمته هي خدمته  مقابل تفقير ، وتجهيل ، وتهجيرشعبه  والتنكيل به إذا ما طالب بما يستحقه من حقوق ، ومن مقدرات بلاده.

إن شعب النيجر الذي خرج في مظاهرات تأييدا للمنقلبين على الرئيس المفضل لدى فرنسا ، ولدى رؤساء دول إفريقية لها مصالح معها ، ما كان ليفعل ذلك لو أن ذلك الرئيس وفر له العيش الكريم ، ولم يخدم مصالح فرنسا ، ولم يسمح بوجود قاعدتها العسكرية التي لا تختلف عما كانت عليه في فترة احتلالها البغيض .

فمن سينصت إلى أصوات هذا الشعب ؟ وهل فكر العالم في العودة إليه من خلال استفتاء يكون نزيها تحت إشراف الأمم المتحدة لمعرفة هل يريد رئيسه المخلوع أو يريد انتخابات نزيهة تفضي إلى ديمقراطية حقيقية لا إلى ديمقراطية صورية يريد الغرب العلماني تكريسها  حرصا على مصالحه أولا وآخرا .

فمتى ستتحرر شعوب العالم الثالث وعلى رأسها شعوب القارة الإفريقية من كابوس الانقلابات ، ومن كابوس الديمقراطية بطعم الغرب العلماني الذي يكيل بمكيالين حين تتهدد التجارب الديمقراطية وشرعيتها ؟؟؟  

وسوم: العدد 1047