المؤشر على فشل المقاربة التربوية في المؤسسات التعليمية هو اعتبار الناشئة المتعلمة الانحراف الأخلاقي أصلا وفخرا والاستقامة استثناء وتندرا

من المعلوم أن غاية الغايات من وراء إنشاء المؤسسات التربوية هي التربية التي يُعتمد التعليم وسيلة لتحقيقها . والمقاربة التربوية الناجحة في المجتمعات هي تحقيق هذه الغاية التي يجب أن يعكسها السلوك السوية والمتزن  للناشئة المتعلمة، سواء داخل المؤسسات التربوية أو خارجها. والمجتمعات الحريصة على رقيها وتقدمها هي نلك التي تعد أجيالها لذلك من خلال تربية سوية، تجعل منهم مواطنين صالحين يتفانون في خدمة أوطانهم بجد وإخلاص ، ونكران للذوات .

وفي غياب الحرص الشديد ، والجاد، والمسؤول  للمجتمعات على تنشئة ناشئتها المتعلمة تنشئة سوية ، هو مغامرة وخيمة العواقب ، تعرضها لإفلاس منظومة  قيمها الأخلاقية التي هي مرتكز هويتها، وانهيارها ، وبذلك يكون  زوالها .

وعندما نتأمل اليوم بكل موضوعية ، و بكل حياد، وتجرد حال تربية ناشئتنا المتعلمة ، نلاحظ بأسف عميق  فشلها أو إفلاسها . وهو فشل أو إفلاس راكمته فلسفتنا  التربوية الفاشلة  منذ عقود حتى بلغ حال انحراف  تلك التربية حد الزمانة والاستعصاء على العلاج .وفي تشخيص لهذه الحال يبدو واضحا أن  هذه الناشئة أصبحت لديها قناعة راسخة بأن الأصل عندها هو الانحراف عن التربية السوية وهي تفاخر به ، بينما الاستثناء هو الاستقامة، وهي تتندر وتسخر بمن يتصفون أو يلتزمون بها .

وحتى نقترب أكثر من واقع الحال ، نسرد بعض وجود  ذلك الانحراف ، فعلى مستوى الخطاب المتداول بين  ناشئتنا المتعلمة ، نجد مبالغتها في الفحش والتفحش ،إذ لا تكاد العبارات التي تلوكها ألسنتها في جميع أحوالها  لا تخلو من ألفاظ في منتهى البذاءة، سواء في حال عبثها وهزلها أو في حال خصامها وشجارها الذي قد يندلع لأتفه الأسباب ، وتكونغلبا التحرش والتحريش الذي صارت دأبا راسخا . والغريب أن هذه الناشئة حين ينادي بعضها البعض الآخر يكون ذلك بعبارة منحطة  : " يا ابن أويا  بنت العاهرة " يقال هذا في جدهم ، وفي هزلهم ، و يكون بأصوات عالية  داخل المؤسسات التربية  ، وفي محيطها ، وفي الشارع ، وفي وسائل النقل العامة، دون خجل أو توقير للمارة نساء ورجالا ، و بهذا لا يكاد الإنسان يميز بين سلوك الناشئة المتعلمة ، والشريحة المنحرفة في المجتمع  ، وهو ما يعني أن المؤسسات التربوية قد فقدت دورها التربوي ، وصارت عاجزة أمام تحكم تربية الشارع المنحرفة  في سلوك ناشئتها.

ومما يلاحظ أيضا  على هذه الناشئة غلبة العبث المبالغ فيه داخل الفصول الدراسية أثناء حصص التحصيل، وعدم الاهتمام به حيث يضطر المدرسون إلى إيقاف حصصهم عدة مرات من أجل ضبط هذا العبث الذي صار يعد عندها مفخرة وتحديا لهم ، وتعاليا  وتمردا على سلطتهم التربوية ، وهو ما ينعكس سلبا على التحصيل، ويعرض المربين للعنف اللفظي والمادي حين يحاولون وضع حد للانفلات الأخلاقي . والمؤسف أن هذا التيار من العبث صار معديا  كالوباء وهو  يجرف الجميع ، ويعتبر بطولة ، بينما يعتبر من لا ينخرط فيه حالة شاذة ، ويكون عرضة للسخرية والتندر . ولقد صارت الدروس أيضا موضوع تندر خصوصا دروس المواد ذات الحمولة الأخلاقية .

ومما يلاحظ أيضا على هذه الناشئة  غرابة  هندامها أوهيئتها التي تعكسها أنواع من الحلاقة  الغريبة  لدى الذكور ،والتي صارت تقليعة  تقليدا لنجوم كرة القدم أو غيرهم من النجوم في ميادين أخرى ، وتعكسها  كذلك أنواع الألبسة كالسراويل المفتوقة على الركب والأفخاذ  لدى الذكور والإناث ، والمنسدلة على الأعجاز ، وتعكسها سلاسل في الأعناق ، وأقراط في الآذان والأنوف ، ورسوم وشعارات على القمصان بلغات أجنية  منها عبارات مخلة بالحياء أو تحيل على توجهات فكرية دخلية على مجتمعانا ومنحرفة. وهذا يعني تعطيل المؤسسات التربوية لمذكرة الهندام التي طال العهد بها ، ولم تحيّن منذ السبعينات من القرن الماضي ، والتي كانت تحدد شكل الهندام الذي يتعين على الناشئة المتعلمة  الحضور به إلى المؤسسات التربوية .

وعندما تجمع الناشئة المتعلمة بين بذاءة اللسان ، والمبالغة في العبث  والفوضى داخل الفصول الدراسية ، وبين غرابة  الهيئة والهندام تكتمل صورة جيل منفصم كل الانفصام عن هويته العربية الإسلامية ، وهو خارج الضبط  ،بل هو متمرد على الانضباط  ، وعلى قيم هويته . ومما يزيد في الطين بلة أن المقاربة التربوية التي تعتمدها المؤسسات التربوية أو لنقل الوزارة الوصية على التربية، قد عطلت الإجراءات العلاجية أو التصحيحية لكل انحرافات الناشئة المتعلمة ، والتي كانت تتضمنها مذكرة وزارية  سابقة ، وهي إجراءات كانت تتراوح بين توقيف  مؤقت عن الدراسة لمدد معينة تقررها  المجالس التربوية ، وبين الفصل النهائي  احترازا من عدوى الانحرافات الخطيرة  . ولقد صاغت الوزارة تلك المذكرة صياغة جديدة  أفرغتها من دلالتها  العلاجية ، وكانت سببا في إلقاء الحبل على الغارب  حين حدت من سلطة المربين ، والإداريين على حد سواء ، والذي صاروا بسبب ذلك  عرضة لتعنيف الناشئة بهم خلال القيام بواجب  تصحيح كل سلوك منحرف يؤثر سلبا على السير العادي للدراسة والتحصيل  ، ويكرس للمبالغة في العبث والفوضى وعدم الانضباط .

والمؤسف أن آباء وأمهات وأولياء أمور هذه الناشئة في شبه غياب تام عما يصدر عن أبنائهم وبناتهم من سلوك محرف  ، وقد صار همهم الوحيد هو حصولهم على نتائج تنقلهم من مستوى إلى آخر حتى لو كان ذلك غير مستحق وعن طريق الغش . وغالبا ما يحتج بعضهم على الأطر التربوية أو الأطر الإدارية  حين يمارسون واجب علاج انحرافات أبنائهم وبناتهم زاعمين أن هؤلاء  على مستوى عال من التربية والانضباط ، والواقع أنهم لا يعرفون شيئا عنهم، لأنهم في شغل شاغل عن تربيتهم وتتبعهم اليومي . وقد يعبر بعض المتعلمين والمتعلمات عن سوء تربيتهم ، وتجاسرهم على المربين مدرسين وإداريينفي حضرة أولياء أمورهم ، ومع ذلك لا يقتنع هؤلاء بأنهم قد فرطوا في تربتهم ، وأنهم يدعون ما يكذبه الواقع .

ومعلوم أن التربية الأسرية لها دور كبير في مؤازرة  التربية المؤسساتية  التي  تكملها ، علما بأن هذه الأخيرة تهدف إلى فرض تربية نمطية  واحدة تزيل فوارق التربية الأسرية  التي تتأجرح بين الحرص على استقامة الأبناء والبنات ، وبين إهمالهم  تماما ، في حين تحرص التربية المؤسساتية على نمط تربوي واحد يلزم كل الناشئة المتعلمة بغض الطرف عن اختلاف تربيتهم الأسرية حرصا عليها أو إهمالا لها .

وبالرغم من الحمولة التربوية لبعض المواد الدراسية ، والمتضمنة في المقررات والكتب المدرسية المعتمدة ، فإنها تظل حبرا على ورق ، ولا وجود لأثرها في سلوك الناشئة المتعلمة ، والتي لا تعني بالنسبة لها شيئا ،بل هي  مجرد دروس نظرية بعيدة عن التطبيق والتفعيل ، وهي تلقى عليها ، لتختبر فيها اختبارات لا تسلم في واقع الحال  من كل أنواع الغش، خصوصا مع غزو الهواتف الخلوية للفصول الدراسية حتى في فترات الامتحانات ، وقد باتت أكبر شاغل وصارف للناشئة عن التعلم والتحصيل ، وعن الجد والاجتهاد ، وباتت أيضا وسيلة انحراف،  بينما كان من المفروض أن تكون وسيلة من الوسائل التعليمية الفعالة ، وذلك في غياب صدور مذكرات تتعامل بالصرامة اللازمة مع سوء استعمالها.

ومما يدل على فشل المنظومة التربوية في القيام بواجب التربية المنوط بها ، هو ظاهرة انصراف  شريحة عريضة من المربين عن الخدمة قبل حلول أوان إحالتها على المعاش فرارا من الوضع المزري داخل المؤسسات التربوية بسبب الانفلات الأخلاقي للناشئة التربوية ، ولسان حالها  ومقالها  " ما بقى ما يعجب في تعليمنا  "  علما بأن الوزارة الوصية قد وجدت في ظاهرة المغادرة الجماعية لهذه الأطر مكسبا أومخرجا ، وهي تحاول أن تجعل التعاقد يسد مسد التوظيف ، واستبدال من خضعوا للتكوين المؤسساتي بمن لا تكوين لهم ، ودون مراعاة ما سيترب عن ذلك من إجهاز على التعليم والتربية في بلادنا ،وذلك  في ظرف جد حساس ، تتعرض فيه هويتنا لتهديد خطير وغير مسبوق ، و الذي وراءه جهات مشبوهة  مستأجرة تريد الفساد والإفساد ما استطاعت ، وبشتى الطرق والوسائل ، وتحت شتى الذرائع والشعارات التي باتت تغزونا في عقر دارنا.

وسوم: العدد 1048