الطائفة العلوية ونظام الأسد

بعد نصف قرن ونيّف من حكم عائلة الأسد لسوريا من الصعب جدا الخوض في العلاقة بين مؤسس «سوريا الأسد» حافظ الأسد لتكون جمهورية أسدية وراثية، وطائفته العلوية، فعائلة «الوحش» (وهو الاسم الأصلي للعائلة) لم تكن من سادة العلويين وكبرى عائلاتهم. فسليمان الوحش كان وافدا من مدينة بهرز العراقية (لهذا يصف البعض عائلة الأسد بالبهرزي) وفقيرا سكن على أطراف قرية القرداحة يعيش على الحسنات، فالطائفة كما جميع المكونات السورية تنتمي إلى عشائر مختلفة، أو عائلات طبقية، التي في بعض الحالات تكون متصادمة ومتعادية، فمنذ ما قبل الاستقلال دب الخلاف في صلب الطائفة العلوية بين الشيخ صالح العلي الذي كان مع الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان الأطرش، ومعه عائلة الخير ورسلان وعباس وإسماعيل وهواش وحمدان في مقابل من كانوا يخططون لبناء دولة علوية منفصلة منهم سليمان الوحش وعزيز هواش، ومحمد سليمان الأحمد، ومحمد جنيد، وصقر خير بيك، وإبراهيم الكنج، ويوسف الحامد.

صعود عائلة الأسد بعد الاستقلال في صلب الطائفة لتتبوأ ليس فقط رئاسة سوريا، ولكن رئاسة الطائفة أيضا لم يكن يرضي جميع أطيافها من خياطين وحدادين وسواهم وحتى من الكلبيين الذي انتمى الأسد إليهم، وبين العائلات العلوية كعباس وإسماعيل وهواش والعلي ومخلوف والخير وكنج وسواها، حتى أن عائلة مخلوف لم توافق على زواج ابنتهم أنيسة بحافظ الأسد لفروقات طبقية، بل وكان هناك تنافر واضح بين عائلة مخلوف المنتمية للحزب القومي السوري، وحافظ الأسد المنتمي لحزب البعث، وهذا الخلاف بقي كامنا خلال حياة الآباء، لكنه تفجر في عهد الأبناء، أي بين بشار الأسد ورامي مخلوف فيما بعد، ووضع يد بشار على كل شركات وأموال رامي ( التي نهبها عبر شركاته المتعددة من الشعب السوري) ووضعها تحت إدارة زوجته أسماء الأخرس التي تدير أموال العائلة حاليا (والتي قدرت مؤخرا حسب المخابرات البريطانية إم آي 6 وأوردها موقع إيلاف حوالي 200 طن من الذهب، و16 مليار دولار وخمسة مليارات يورو). وبدأت الخلافات العميقة بين بعض العائلات العلوية وعائلة الأسد خاصة بعد أن شرع حافظ الأسد بتصفية شركائه الضباط العلويين في الحكم بعد انقلاب البعث 1963.

التنازع بين «الرفاق» على السلطة في «اللجنة العسكرية» (هي لجنة عسكرية شكلت سرا بين ثلاثة ضباط علويين هم حافظ الأسد، صلاح جديد، محمد عمران، وضابطين إسماعيليين هما عبد الكريم الجندي وأحمد المير) بدأ منذ انقلاب البعث على الرئيس المنتخب ناظم القدسي. وكان الأسد أصغر رتبة عسكرية في المجموعة، لكن صلاح جديد أمر بترقيته ليصبح وزيرا للدفاع، ويتفرغ هو لقيادة حزب البعث بعد انقلابه على القيادة التاريخية في العام 1966 بحركة 23 شباط/فبراير، لكن حساباته لم تطابق حسابات الأسد الذي كان يخطط ليكون حاكم سوريا والتخلص من خصومه، غير أن خسارة الجولان في حرب يونيو/حزيران 67 بأمر منه بانسحاب الجيش من الجبهة جعله يواجه معارضة عدد كبير من الضباط (معظمهم من السنة) الذين تمت تصفيتهم ميدانيا، وبدأت تتعالى أصوات الانتقادات لهزيمة الجيش السوري التي حمّلت وزير الدفاع المسؤولية وجاء الانتقاد اللاذع من ابن طائفته وأحد خصومه السياسيين الوزير الأسبق والشاعر محمد سليمان الأحمد (بدوي الجبل) المتحدر من قرية السلاطة الملاصقة لقرية الأسد القرداحة الذي عثر عليه بعد اختطافه مرميا في أحد شوارع دمشق بعد أن نظم قصيدته الشهيرة «من وحي الهزيمة» ومات متأثرا بجراحه فيما بعد. ثم تم اغتيال نجله الصحافي منير الأحمد، ومات أخوه المؤرخ والأستاذ الجامعي أحمد الأحمد في ظروف غامضة في بلغاريا. في العام 1969 ذاع خبر «انتحار» الرفيق في الحزب واللجنة العسكرية عبد الكريم الجندي، وتم التشكيك في رواية الانتحار.

الرجل الثاني الذي كان لا بد من التخلص منه بالنسبة له هو غريمه الأول صلاح جديد الذي كان له الفضل الأول عليه، فبعد أن قام بانقلابه في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1970 قام باعتقاله مع الرئيس نور الدين الأتاسي وسجنهما في سجن المزة في الثلاثين من نفس الشهر وبقيا مسجونين حتى وفاتهما، بعد عقدين ونيّف، وهي عقوبة أصعب من الاغتيال (صلاح جديد من عشيرة الحدادين).

إذا كان الأسد الأب حافظ على وحدة سوريا الجغرافية وسيادة الدولة فإن الابن أفقدها السيادة وجلب المحتلين إليها وأفقر كل مكونات الشعب بما فيها الطائفة العلوية

وبقي محمد عمران الغريم الثاني من الطائفة فاغتاله في آذار/مارس 1972 في مدينة طرابلس في لبنان. لم يعد هناك من ينافسه في اللجنة العسكرية سوى العقيد أحمد المير قائد جبهة الجولان فأعفاه من كل مناصبه. ولم يتبق من ينافسه سوى قيادي بعثي من الأكثرية السنية هو رئيس الوزراء السابق صلاح الدين البيطار بعد أن قام الأخير بإصدار صحيفة «الإحياء العربي» فتم اغتياله في باريس في آب/أغسطس 1980 (بعد أقل من شهرين من ارتكابه مجزرة كبيرة مع أخيه الأصغر رفعت الأسد في سجن تدمر حيث تم قتل أكثر من ألف سجين سياسي بدم بارد معظمهم من الاخوان المسلمين الذين وقفوا ضده أيضا. وتبعها بمحاولة اغتيال عصام العطار زعيم الإخوان المسلمين في المانيا لكنه لم يكن متواجدا في منزله فاغتالوا زوجته بنان الطنطاوي). الاغتيالات طالت أيضا كل من رفع صوته ضد قيادة العائلة الأسدية من أبناء الطائفة، ففي العام 1976 تم اغتيال رئيس جامعة دمشق محمد الفاضل بعد يوم واحد من انتقاده اللاذع لممارسات رفعت الأسد وسرايا الدفاع الإرهابية في الجامعة بوصفه رئيسا لمكتب التعليم العالي (لم يكن رفعت يحمل شهادة ثانوية وحصل على دكتوراه فخرية من إحدى جامعات الاتحاد السوفييتي) وأسندت المسؤولية للإخوان المسلمين الذي نفوا ضلوعهم بها.

في 18 آذار/مارس 1978 اغتيل إبراهيم نعامة رئيس نقابة أطباء الأسنان السوريين وابن أخت حافظ الأسد على يد مسلحين في العاصمة دمشق. وقد ألقت الحكومة بالمسؤولية على جماعة الإخوان المسلمين أيضا، لكن حتى والدة الفقيد لم تكن تستطيع البوح بالمسؤول عن الجريمة بعد أن تسربت اخبار عن مواجهة نعامة للأسد في انتخابات الحزب وتأييده لترشيح محمود الزعبي ضده. بقي التخلص من الأخ رفعت الذي حاول القيام بانقلاب ضده بعد مرضه في العام 1984 فنفاه إلى فرنسا بعد أن أفرغ البنك المركزي من محتوياته. وكان اغتيال محمود الزعبي في العام 1998 آخر الاغتيالات قبل وفاة الأسد في العام 2000 الذي نقل عنه القول: «من أراد سلطة أعطيناه، ومن أراد جاها وهبناه، ومن لم يرد أيا منهما، فله إما القبر أو السجن».

من الصعب جدا في هذه المساحة رصد ما ارتكبه بشار الأسد من جرائم ومجازر واغتيالات تفوق بألف مرة ما قام به أبوه فالآن أصبحت معروفة للقاصي والداني ولكن نركز هنا على العلويين. باختصار نقول إن قضية توريث بشار الأسد لم تكن ترضي الجميع وكان أول من اعترض على ذلك دون الإفصاح عنه عبد الحليم خدام نائب الرئيس حافظ الأسد والذي هرب إلى فرنسا وذكر أنه مقتنع بأن بشار هو من أعطى الأمر باغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري.

وتدور الشكوك حول «انتحار» وزير الداخلية السابق وحاكم لبنان الفعلي غازي كنعان الذي كان على علم بحيثيات اغتيال الحريري. عمل بشار منذ البداية على التخلص من الرعيل القديم وخاصة العلويين الثلاثة: علي حيدر (كان ضد التوريث) وعلي دوبا، وعلي أصلان الذي كانوا مقربين جدا من أبيه ومن أعمدة النظام وحماته فتمت إقالتهم تباعا، وشخصيات أخرى مختلفة.

وبدأت الاعتقالات والتصفيات مع إعلان دمشق أو ما سمي بربيع دمشق للمطالبة بإصلاح النظام سياسيا واقتصاديا، ولم يستجب الأسد للمطالب، وبعد اندلاع الثورة بث الأسد الرعب في قلوب الطائفة العلوية من الانتقام السني وجيش الطائفة ضد الأكثرية السنية التي قام شبابها بمجازر مرعبة لا تنسى، وجرائم حرب وضد الإنسانية. واعتبر جزء من العلويين أن نظام الأسد أخذ الطائفة كرهينة وقتل عشرات الآلاف من شبابها للحفاظ على كرسيه، وتدور الشكوك أنه دبر تفجير مبنى الأمن القومي الذي قتل فيه صهره آصف شوكت وكبار الضباط الذين اجتمعوا للبحث في رفض مواجهة النظام المسلحة للشعب الثائر.

وما يزيد الشكوك أن بشرى الأسد زوجة أصف تركت سوريا على إثرها وانتقلت إلى دبي ولحقت بها أمها فيما بعد. وتم اغتيال اللواء جامع جامع، ورستم غزالة وقام ابن عمه فراس الأسد بفضح الكثير من خبايا النظام وانتصر للثورة والمعارضة.

وفي العام 2015 تم تأسيس التجمع السوري العلوي المعارض تحت اسم «غد سوريا» كأول تنظيم سياسي معارض من الطائفة العلوية في إسطنبول، ويهدف إلى «استعادة أهداف الثورة في بناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية، والوقوف ضد كل مشاريع التقسيم، والتأكيد على وحدتها أرضا وشعبا، وعلى الهوية السورية، كفيصل في الانتماء الوطني». وإذا كان الأسد الأب حافظ على وحدة سوريا الجغرافية وسيادة الدولة فإن الابن أفقدها السيادة وجزأها وجلب المحتلين إليها وأفقر كل مكونات الشعب بما فيها الطائفة العلوية التي بدأ بعضها يرفع صوته ويحتج على الحالة المزرية التي وصلت إليها البلاد، لأنهم وصلوا إلى القناعة أن الخطر الحقيقي ليس من الأكثرية السنية التي كانت حامية لكل الأقليات، كما يدعي بشار وإنما من النظام نفسه الذي لا يبحث سوى عن استمراريته عبر تفتيت المجتمع بسياسته الطائفية وزج الطائفة العلوية في أتون الحرب، والتخلص من أكبر عدد من السنة، والهروب إلى الأمام.

وسوم: العدد 1049