الأقصى: أبعد من حفاة المستوطنين واندفاع المطبعين

كما بات يتكرر في كل عام تحت ذريعة الاحتفال بعيد الغفران اليهودي، يواصل مئات المستوطنين والحاخامات وأعضاء سابقين في الكنيست الإسرائيلي اقتحام المسجد الأقصى في القدس المحتلة، تحت حراسة شرطة الاحتلال التي تتكفل قبل ذلك بإخلاء محيط المسجد من الفلسطينيين المصلّين أو المرابطين نساء ورجالاً، بعد أن تعمد إلى إغلاق مئات المحالّ والمتاجر الفلسطينية في البلدة القديمة.

ذريعة إقامة الشعائر الدينية اليهودية لا تفلح مع ذلك في إخفاء الأغراض الفعلية الأخطر خلف هذه الاقتحامات المتكررة، وعلى رأسها تغيير الواقع المكاني والزماني للأقصى بصفة خاصة وإضفاء المزيد من عناصر تهويد مدينة القدس وجوارها بمعنى أعمّ، وصولاً إلى تكريس سياسات بسط السيطرة ومصادرة الأراضي وتعزيز الاستيطان. وليست مرافقة الشرطة لأفواج اليهود مقتحمي الأقصى سوى علامة أولى صريحة على نهج حكومات الاحتلال المتعاقبة، وليس الائتلاف الراهن وحده فقط، في تسريع التهويد بصرف النظر عن السياقات والذرائع.

لا يتوجب أن تخفى أيضاً المظاهر الخطيرة خلف طقوس دينية محددة يلجأ إليها المقتحمون، من طراز نفخ البوق أو ارتداء الثياب البيضاء أو المسير حفاة في محيط المسجد، فهذه وسواها لا تؤدي شعيرة توراتية أو تستعيد فريضة من أي نوع بقدر ما تتوسل إرسال علامة تهويد أكثر وضوحاً وأشد استفزازاً، لجهة تأكيد الزعم بأن الأقصى ليس سوى الهيكل، وبالتالي فرض هوية يهودية أحادية تطمس أي جذور إسلامية للمسجد ولهضبة الحرم بأسرها.

ذلك من جانب آخر لا يعني أن اقتحامات هذه السنة لا تحمل جديداً بالقياس إلى سنوات أخرى سابقة، وليس على صعيد وجود الحكومة الإسرائيلية المتطرفة الحالية فقط، بل كذلك ضمن سياقات فلسطينية وعربية وإقليمية ودولية تتضافر جميعها لمنح سلطات الاحتلال ترخيصاً أشد عدوانية واستهتاراً بالأعراف المتوافق عليها في تنظيم شؤون الأقصى ومدينة القدس عموماً.

وإذا كان بنيامين نتنياهو قد أطلّ من منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة كي يبشر العالم بـ»شرق أوسط جديد» لا مكان لفلسطين على خرائطه، فليس لأنه يترأس الحكومة الإسرائيلية الأكثر تديناً وعنصرية وفاشية فقط، بل كذلك لأن عهده شهد هرولة أنظمة عربية إلى التطبيع، ولعل الزمن لن يطول قبل أن يسجل المزيد من المهرولين المطبعين.

وليس بعيداً عن المنطق البسيط أن عنجهية نتنياهو شخصياً، وسلوكيات الغلو الديني لدى عدد من كبار وزرائه العنصريين أمثال إيتمار بن قفير وبتسلئيل سموتريتش، مستمدة أيضاً من تشجيع مباشر أو غير مباشر توفّره الولايات المتحدة راعية دولة الاحتلال، خاصة بعد اللقاء الذي جمع الرئيس الأمريكي مع رئيس حكومة الاحتلال.

وإلى جانب مستويات التردي المختلفة التي تتميز بها غالبية الأنظمة العربية، المطبعة منها أو الموشكة، فإن حال الانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني على أصعدة سياسية وفصائلية وحكومية ليست على درجة مماثلة من البؤس فقط، بل هي أيضاً عامل مباشر يساعد في تشجيع العربدة الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني وحقوقه ومقدساته.

يبقى ثابتاً مع ذلك أن معادلات الأقصى أعمق، في الماضي والحاضر والمستقبل، من أن يختصرها حفاة المستوطنين واندفاع المطبعين.

وسوم: العدد 1051