معضلات أمام الإسلام السياسي

معضلات أمام الإسلام السياسي

معين الطاهر

من المسلّم به، من وجهة نظر الكاتب، حق الإسلاميين المطلق، شأن غيرهم من القوى والجماعات السياسية والعقائدية، في ممارسة أشكال العمل السياسي والدعوي والاجتماعي، بل وحقهم، أيضاً، في السعي من أجل تطبيق رؤيتهم للإسلام كما يفهمونها، والوصول إلى السلطة بالوسائل الديمقراطية، ومحاولة تطبيق رؤاهم في سياسة البلاد والعباد، سواء على مستوى الأوطان، أو على مستويات أدنى، مثل الجمعيات والنقابات وأشكال العمل السياسي والاجتماعي المختلفة. ومن حق الجمهور العريض، وهو يختار بين هذا الاتجاه أو ذاك، أن تعرض عليه برامج عملية، تخاطب عقله ووجدانه وتداعب آماله وتطلعاته، وتقترح عليه حلولاً للمشكلات التي يعاني منها. ومن حقه، بعد منح ثقته، أن يحجبها وينقلها من شخص أو اتجاه إلى آخر، وأن يحاسب وينتقد، ويبدل ويغير، بما يعرف بتداول السلطة، على أساس من قناعته بنجاح تطبيق ما قدم إليه أو إخفاقه، وتحت قاعدة أن ذلك كله نتاج اجتهاد بشري، يصيب ويخطئ، في قراءة الواقع واستنباط الحلول والأحكام المتعلقة به، وهو ما يعرف لدى الاسلاميين بالفقه، ولدى غيرهم بالبرنامج. 
ولعل أولى معضلات الإسلام السياسي تتمثل، غالباً، في غياب الفقه المعاصر الذي يعنى بدراسة الواقع، واستنباط الحلول الملائمة له، على هدي من قراءتهم النصوص الإسلامية، وتقديمه على شكل برنامج تفصيلي، يشكل قاعدة للحساب، والمساءلة عن مدى تراجعه أو

تقدمه. إذ، غالباً، ما تتجنب هذه القوى الخوض في برامج تفصيلية، مكتفية بشعارات عامة، تخاطب المشاعر الإيمانية لدى الجمهور، كما في الشعار الشهير "الإسلام هو الحل". 
يكتشف الباحث المدقق أن هذا الموقف لم يأت من فراغ، وتعود جذوره النظرية المعاصرة إلى كتابات سيد قطب في "معالم في الطريق"، والذي يرى أن المسألة، برمتها، مسألة كفر وإيمان، وأن الإلحاح في فتح باب الاجتهاد من خصائص الجاهلية التي تتعمد إحراج المخلصين، فتسألهم أين تفصيلات نظامكم الذي تدعون إليه؟ وماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث ودراسات وفقه مقنن؟ وكأن الذي ينقص الناس في هذا الزمان لإقامة شريعة الإسلام في الأرض وجود الأحكام، وكأنما هم مسلمون لحاكمية الله، راضون بأن تحكمهم شريعته. لذا، وكما يقول قطب، لابد أن يقوم، أولاً، المجتمع المسلم الذي يقر بأن الحاكمية ليست إلا لله، ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة. وحين يقوم هذه المجتمع، وتكون له حياة واقعية، يبدأ في سن التشريعات، وتقرير النظم لقوم مستسلمين، أصلاً، لهذه النظم والشرائع. 
وإذ يدرك قطب أنه لابد من ضمانة تقدم للمجتمع في حكم رشيد، فإنه يراه في ضمير الفرد المسلم، مع أنه، في نصوص أخرى، في خطابه، يرى أن ظاهرة الصحابة لم تتكرر، بل ويكاد ينكر الاعتراف بشرعية إسلامية للتاريخ الاسلامي الذي صنعته وصاغته مجتمعات وأفراد مسلمون، ما يجعلنا في حيرة عن كيفية تشكل هذا الضمير الجمعي الذي سيشكل لنا ضمانة الانتقال من المجتمع الجاهلي، الممتد عبر العصور، إلى المجتمع المسلم القادم، بدون أي برنامج أو دليل. 
اللافت أنه، مهما اختلفت أطروحات الإسلاميين المتأثرين بهذه الأفكار، وسواء اتخذوا منحىً تكفيرياً قائماً على فكرة المجتمع الجاهلي، والألوهية والعبودية، والحاكمية الذي طورته السلفية الجهادية إلى الولاء والبراء، أو فسروا أفكار قطب، انطلاقاً من الظرف الذي عاشه، وأوّلوها بالعودة إلى كتبه القديمة، ونهجوا منهجاً إصلاحياً قائماً على الدعوة، فإنهم اتفقوا على أن المسألة لا تعدو كونها مسألة كفر وإيمان، وأرجأوا البرامج وحرية الاختيار والنظم إلى ما بعد هذه المعركة الفاصلة، وإن اختلفت أدواتهما في تحقيق ذلك. 
يحيلنا ذلك إلى معضلة أشد، تجعل من الصعب نقد هذا البرنامج من أرضية إسلامية، إذ يصعب التفريق بين النص المقدس وتفسيره الذي يقوم به بشر، وهم الذين يستنبطون منه الأحكام، ويقومون بالأفعال التي يخالونها صحيحة، وفقاً لتفسيرهم النصوص. وهنا، تكاد تصبح مخالفة البشر، مخالفة للمنهج الإسلامي، بل وللنص المقدس أحياناً، وهي، حتماً، ليست كذلك. وعندما يستحضر بعضهم نصاً مقابل آخر في مواجهة مخالفيهم، فإنهم يدورون ضمن الدائرة نفسها، وخارج آليات الزمان والمكان والفعل، وتزداد صعوبة النقد والترشيد، ونبتعد عن مساحات الحوار المعقول. 
لذا، لعل الخطوة الأولى في ترشيد المشروع الإسلامي المعاصر تكمن في إتاحة مساحة أكبر للعقل، وفي رؤية الواقع المعاش وتشخيصه، وبداية ذلك في التمييز بين نقد الاجتهادات البشرية التي تخطئ وتصيب، من دون أن يتهم من يقوم بذلك بعداء الإسلام أو مشروعه. وأظن أن ذلك صعب التحقيق، ما دمنا نردف أسماء نشاطاتنا الحزبية والاجتماعية بإضفاء الصفة الإسلامية عليها، فيصبح بذلك نقدنا ممارسات وبرامج وتفسيرات الحزب أو الجمعية وأداء أفرادهما، وكأنه نقد موجه للصفة الإسلامية فيه. 
ليستلهم من يشاء كل المرجعيات الإسلامية في ثقافته وبرامجه، ويعتمد على تفسيره وتأويله لها في صياغة ما يصبو إليه، وهذا حق له. ولكن، دعونا نتحاور كبشر، وليس كأنصاف آلهة. ودعونا نتفق أو نختلف على اجتهاداتنا وبرامجنا البشرية، وليس على النصوص. دعونا ننزل بساحات الحوار من السماء إلى الأرض، لنعالج ما بها من فساد واستبداد وظلم وجور وطائفية ومذهبية. لعل ذلك يحل بعض معضلاتنا، ويشكل فهماً أعمق لديننا ودنيانا.