هل حقا سرق الإسلاميون قضية غزة؟

هناك نغمة تتردد في أوساط النخب السياسية والإعلامية في الغرب عن أن الإسلام السياسي استولى على القضية الفلسطينية مختصرة اليوم في مأساة غزة.

هذا التبسيط هدفه الوصول إلى الاستنتاج التالي الذي تحرص عليه الماكينة الدعائية الإسرائيلية أيضا: أنت تتعاطف مع غزة فأنت إسلامي. أنت إسلامي فأنت إرهابي أو مشروع إرهابي. أنت إرهابي (أو مشروع إرهابي) فذلك ينزع عنك الشرعية الأخلاقية للتضامن مع غزة وينزع عنها عدالة قضيتها. إسلامي أو إرهابي يجعل من إبادتك مطلبا مشروعا ولا يحق لأحد أن يحزن عليك.

فرنسا تحديدا أرضية خصبة لمثل هذه الافتراءات التي يتبناها بقوة مثقفون عرب ومسلمون من سجناء الجنّة الثقافية الفرنسية، بزعم أنهم يعرفون مجتمعاتهم الأصلية ويستطيعون شرح ألغازها للفرنسيين.

هذا الجنوح لاختزال غضب العالم العربي والعالم أجمع في الإسلاميين مقصود ومشغول عليه. تكريس هذه الافتراءات يُعفي المجرم وشركاءه من أيّ مسؤولية، ويُبقي دعاة أكذوبة «الإسلاميون يمسكون بالخيوط» من مبرري جرائم إسرائيل في منطقة الأمان التي اختاروها لأنفسهم، ويعفيهم من طرح الأسئلة الحقيقية. فإذا ما قال أحد إن العالم العربي، وحتى الغربي، انتفضا لغزة، يقولون بأمان: لا، إنهم الإسلاميون!

في فرنسا تحديدا يصل الأمر أحيانا إلى حد البلادة: وزير الداخلية، جيرار (موسى) دارمانان، يصرخ لوسائل الإعلام بأن لاعب الكرة كريم بن زيمة ينتمي للإخوان المسلمين، بينما بن زيمة يعيش حياة شخصية ومهنية مريحة في السعودية التي تُصنِّف الإخوان تنظيما إرهابيا. عندما يصل الأمر بأقوى وزير في الحكومة إلى مثل هذا المستوى من الجهل والبله السياسي، فاعلم أن فرنسا ليست بخير، وأن هذا الرجل لا يشرِّف فرنسا، وأن ضرره عليها أكثر من ضرر الإخوان.

المؤسسة السياسية في فرنسا تستعمل وصفة جاهزة أعدّتها دوائر غامضة مُموَّلة إماراتيا عن تعريف الإخوان وخطرهم المزعوم على الحضارة الغربية وكيف يجب التصدي لهم

وتصل البلادة السياسية مداها عندما يُقرُّ الوزير بأنه أخطأ بحق بن زيمة، لكنه يضع شرطا لسحب كلامه، وهو أن يدين الأخير علنا اغتيال أستاذ في مدرسة فرنسية في الأسبوع الأول من بدء الحرب الإسرائيلية على غزة. تدين اغتيال الأستاذ فأنت لست من الإخوان، ترفض الإدانة فأنت منهم. أيُّ جنون هذا؟!

منبع هذا الجنون أن المؤسسة السياسية في فرنسا، وخصوصا وزارة الداخلية وأذرعها، تستعمل وصفة جاهزة أعدّتها دوائر غامضة مُموَّلة إماراتيا عن تعريف الإخوان وخطرهم المزعوم على الحضارة الغربية وكيف يجب التصدي لهم. فرنسا تبنّت الوصفة بعمى كبير يُعبّر عنه الوزير دارمانان. علما أن الإخوان جزء من نسيج الإسلام السياسي وليسوا كله.

ليس من الخطأ القول إن صوت الإسلاميين في مظاهرات التضامن مع غزة، عربيا وعبر العالم، بارز. لكن من الكذب الادعاء أنه الوحيد أو الأعلى.

كما أن بروز مظاهر الإسلام في المظاهرات من شعارات ولباس (وجود أعداد كبيرة من النساء المحجبات) لا يعني أبدا أنها مظاهرات إسلاميين ومتشددين.

لا أتخيّل أن مروّجي هذه الافتراءات من سجناء الجنّة الثقافية يجهلون هذه الحقيقة. كل ما في الأمر أن اختباءهم وراء هذه المزاعم يريحهم ويرفع عنهم الحرج، ويجعلهم يُصدّقون أن هزيمتهم الأخلاقية أكثر قبولا.

وعلى فرض أن افتراءاتهم صحيحة، لماذا لم يسأل أحد من هؤلاء كيف أصبح صوت الإسلاميين الأكثر عُلوًّا؟

هذا الغرب هو الذي أسهم بشكل مباشر وغير مباشر في إيجاد الإسلام السياسي. كان هو مُشعل الحرائق وهو الإطفائي. تواطأ مع الطغاة العرب والمسلمين في قتل الأصوات النزيهة وفي تجريف الحقل السياسي في كل مكان حتى أصبح الإسلاميون البديل الوحيد المتاح.

ربما لم يكن قصد الغرب صناعة الإسلام السياسي بالمعنى المادي المباشر للكلمة، لكن سياساته وتواطؤه مع طغاة يحتقرون شعوبهم ويحمون مصالح الغرب وفَّر الأرضية لوجود الإسلام السياسي وتغلغله في المجتمع. عندما ضاقت الدنيا بالشعوب أصبح الهروب نحو الدين، سياسي كان أو غير سياسي، هو الحل.

ينطبق هذا أيضا على النضال الفلسطيني. تمادي إسرائيل في إذلال وخنق السلطة الفلسطينية (التي وُلدت كسيحة أصلا) واكتفاء الغرب والعرب بدور المتفرج، أوجد شعورا عميقا بالغبن والعجز في المجتمع الفلسطيني كانت نتيجته جنوحا نحو الحركات «المتمردة» مثل حماس والجهاد الإسلامي، وأيقظ مجموعات علمانية متمردة داخل حركة فتح نفسها.

قضوا على السلطة الفلسطينية فجاءتهم حماس. وإذا ما نجحوا في القضاء على حماس سيأتيهم الأكثر تشددا وتمسكا بالحقوق الفلسطينية منها. وهكذا إلى أن نصل إلى أحدث نسخة من داعش، لأن الطبيعة تكره الفراغ. هذه النظرية صالحة في كل زمان ومكان.

صراحة لا أرى خللا إذا ما كان الإسلام جزءا من صيرورة التصدي لجرائم إسرائيل؟ ألم يكن الصليب هو محرك الغزاة الأوروبيين في حروبهم التي خاضوها قبل مئات السنين عبر إفريقيا وآسيا وأراقوا فيها أنهارا من الدماء؟

ثم ماذا عن ملايين المتظاهرين في المدن الأوروبية والأمريكية والآسيوية وبينهم كل التيارات السياسية والعقائدية والدينية التي تخطر على بال؟ هل هؤلاء أيضا ضحية تلاعب الإسلاميين؟

أجد أنه من الخطأ الجنوح إلى مثل هذه التفكير. ومن العار نزع الوجه الإنساني عن المتظاهرين عبر العالم، بما في ذلك العرب والمسلمين.

غزة لم تعد قضية دينية أو عقائدية. إنها لعنة إنسانية ستطارد البشرية إلى يوم الدين. الملايين الذين يتظاهرون في أوروبا وأمريكا تجاوزوا أن في المعادلة طرف اسمه حماس. تظاهروا بكل ذلك الغضب فقط لأن الإنسانية في داخلهم لم تمت مثلما ماتت في داخل قادتهم السياسيين. الإبادة التي تمارسها إسرائيل والتي فاقت كل وصف هي التي حرّكتهم.

لكن العمى والجبن يمنعان الغوغائيين الجدد أمثال موسى دارمانان وكتائبه من عرب وعجم من رؤية الحقيقة.

وسوم: العدد 1057