«العاطفة» الإسرائيلية: من أينشتاين ونتنياهو إلى بايدن

أياً كانت مقادير التزوير، وطرائق التلفيق، وعكس الحقائق، أو طمس الوقائع؛ ليس مرجحاً أن يفلت الرئيس الأمريكي جو بايدن من سلسلة قبائح سوف يلصقها التاريخ بشخصه في ملفات شتى، لعلّ أبرزها اليوم الحرب الهمجية التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي ضدّ قطاع غزّة. وهيهات أن تُغسل يمناه، مثل يسراه ولسانه وكامل لغة جسده كلما تطرّق إلى تلك المجزرة المفتوحة، من دماء أطفال ونساء وشيوخ فلسطين، في مدينة غزّة وتخومها وبلداتها ومخيماتها، كما في جنين ونابلس والخليل وحوارة…

صحيح أنه لم يخالف نهج الغالبية الساحقة من رؤساء أمريكا في مساندة الاحتلال وسياساته، خلال منعطفات ذات عواقب قياسية على أصعدة سياسية وعسكرية وأخلاقية، وأطوار شتى شهدت انفلات المشروع الصهيوني في فلسطين من معايير إنسانية وحقوقية زعمت «الحضارة» الغربية ذاتها أنها ثوابت راسخة. إلا أنّ بايدن تفوّق على كثر من أسلافه، بمن فيهم أهوج عصابي مثل دونالد ترامب، في اللحاق بأكاذيب الاحتلال، على النحو الأشدّ ركاكة في التبرير، والخفّة في سَوًق البراهين؛ حتى حين تبلغ الأضاليل الإسرائيلية مستويات قصوى من الانتهاكات والفظائع التي أخجلت وتُخجل كلّ إرث دامٍ إجرامي حفظه التاريخ على امتداد الألفيات والقرون.

هو التاريخ ذاته، في شطره الخاصّ بالعلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، بل وفي تفصيل دالّ منه يتصل بمواقف بعض كبار اليهود في الولايات المتحدة؛ الذي حفظ واقعة كانون الأول (ديسمبر) 1948، حين نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» رسالة مفتوحة غير عادية وقّعها عدد من أبرز الشخصيات اليهودية في أمريكا؛ بينهم ألبرت أينشتاين، سدني هوك، سيمور ميلمان، وحنّة أرندت. النصّ احتجّ، بشدّة في الواقع وباستخدام لغة توبيخ غير مألوفة، على مشروع زيارة كان يعتزم القيام بها مناحيم بيغن، وحذّر اليهود من استقبال ودعم «بطل الصعود الفاشي» الذي يبشّر «بخطّ إرهابي يمزج الغلوّ القومي بالتصوّف الديني والتفوّق العرقي». خاتمة الرسالة سارت هكذا: «هذه علائم صريحة على ولادة حزب فاشي أداته الأولى هي إساءة التمثيل وممارسة الإرهاب (ضدّ اليهود والعرب والبريطانيين على حدّ سواء)، وغايته الكبرى هي دولة عليا فوق المجتمع».

ورغم أنّ البارحة البعيدة ليست اليوم الراهن بالطبع، ولكن ألا يلفت الانتباه أنّ ذلك الخطاب الاعتراضي يبدو وكأنه يصف حزب بنيامين نتنياهو الراهن (وهو الليكود إياه، في نهاية المطاف)؛ ومآلات دولة الاحتلال الراهنة ليس بصدد الهمجية في قطاع غزّة فقط، بل كذلك في تكريس منظومات الأبارتيد والتمييز العنصري والدولة فوق القانون والقضاء؟ وهل عجزت الأرحام الأمريكية عن ولادة أمثال الموقّعين على رسالة 1948، بصدد استنكار «حجيج» بايدن وكبار الإدارة، من وزير الخارجية إلى وزير الدفاع ومدير المخابرات، ليس لمساندة جرائم الحرب الإسرائيلية فقط بل كذلك للتواطؤ فيها وتمرير الأكاذيب التي تغطيها أو تجمّلها؟

لا أحد من هؤلاء، وسواهم كبار المساعدين والمستشارين والخبراء، نصح اللاهثين إلى تل أبيب ومستوطنات غلاف غزّة بقراءة الكتاب الممتاز الذي أصدره، سنة 1992، جورج و. بول، الدبلوماسي المخضرم وأبرز مستشاري الرئيس الأسبق جون كنيدي؛ تحت عنوان «الارتباط العاطفي: تورّط أمريكا مع إسرائيل منذ 1947 وحتى الزمن الحاضر». لا أحد بادر، كما الكتاب، إلى استعادة خطبة جورج واشنطن، سنة 1796، التي تحذّر الأمّة الأمريكية من الانخراط في ارتباط عاطفي مع أمّة أخرى، لأنّ ذلك الارتباط «سوف يخلق وهماً عاماً بوجود مصلحة مشتركة، حيث لا توجد مصلحة مشتركة بين الأمم». فكيف إذا كانت تلك «الأمّة» صاحبة باع طويل، دموي تماماً، في الاحتلال واغتصاب الأرض والاستيطان وتكريس منظومات الأبارتيد؛ ثمّ ارتكاب المجازر، من دير ياسين والطنطورة وكفر قاسم، والأقصى والحرم الإبراهيمي وجنين وقانا وصبرا وشاتيلا… وصولاً، مؤخراً، إلى مخيم جباليا والمستشفى المعمداني ومجمّع الشفاء.

وسوم: العدد 1059