ليلة القبض على الإسلاميين… أم أخصامهم؟

لا يشكّل الإسلاميّون أكثرية سياسية مزمنة في أيّ من المجتمعات العربية، وإن شكلوا مشروع كتلة وازنة في معظم هذه المجتمعات.

المفارقة في المقابل أن «غير الإسلاميين» لم يعد لهم من اسم يعرّف عنهم سوى هذا. سوى أنهم «ليسوا بإسلاميين».

جزء من «غير الإسلاميين» هؤلاء يحاول تشغيل ثنائية «وطنيين في مقابل إسلاميين» وجزء آخر يطمح إلى ثنائية «مدنيين في مقابل الإسلاميين» هذا مع أن رهطاً غير قليل منهم يفضّل العسكريتاريا الجمهورية هنا، والنظم الملكية هناك، على الإسلاميين.

وهناك طبعاً من يطمح إلى المفاصلة بين «العلمانيين» و«الإسلاميين». هذه القسمة قد تسري في تركيا إلى حد ما، وليس في البلدان العربية.

ليس لغير الإسلاميين من اسم مشترك. وليست هذه بفاجعة. لكنها تعبّر عن غياب مزمن للمشروع غير الإسلامي منذ أفول زمن «القومية العربية» أو قل منذ تفرّق القوميين العرب بين فريق يجاري الإسلاميين، وبين فريق يناهضهم.

والحال أنه يمكنك أن تجد النفر نفسه استئصالياً ضد الإسلاميين في موضع ومواكباً لهم في مكان آخر. في الوقت نفسه، هناك في كل مجتمع عربي تقريباً فئة يتقدم لديها هاجس التبرّم من الإسلاميين بالكلية، وعلى طول الخط، على ما عداه، دون أن يسعفهم هذا التبرّم في تحويل هذه الهوية الانقباضية، القائمة بالسلب، إلى هوية إيجابية، تستند إلى رؤية حضارية يتبلور على أساسها برنامج سياسي. ففي نهاية المطاف، سيفهم عليك المرء لو قلت إن هناك صراعا بين الإسلاميين وبين اللا إسلاميين، إنما من الصعوبة بمكان استيعاب الحديث عن تناقض بين معسكر الإسلاميين وبين معسكر الديمقراطيين مثلاً، لأنه في كثير من الأحيان يجحد أعداء الإسلاميين بالفكرة الديمقراطية نفسها، أو يتأسفون من عدم صلاحيتها بعد أن أفلح الإسلاميون في التلاعب بها. بهذا المعنى، ثمة فشل ينبغي الإقرار به، وهو الفشل في تحويل المناقضة بين «الإسلاميين» وبين «غير الإسلاميين» إلى مناقضة بين «القوى الإسلامية» من ناحية، وبين «القوى الديمقراطية» من ناحية ثانية.

أكثر من هذا، ثمة رؤية يلتقي عليها جزء أساسي من النخب «الأنتي إسلامية» في البلدان العربية وهي أن الحرية تعني ليس فقط دعم الاستبداد التقدمي المستنير ضد الاستبداد الظلامي، بل حتى دعم الاستبداد الرجعي غير المؤدلج ضد الاستبداد الرجعي المؤدلج!

ليس هذا فقط. الغالب اليوم في مواجهة الإسلاميين هو المنطق المحافظ، ولو ساقه ليبرالي أو يساري أو قومي.

يقول هذا المنطق المحافظ أنه، وبعد أن جرّبنا متاهة «الشعب يريد» علينا الإقرار بأن «الشعب لا يعرف ما يريد وكيف». بالتالي، ينبغي الانتقال من معايير الشرعية الصالحة في النظم الديمقراطية التمثيلية إلى معايير للشرعية «بالتي هي أحسن». فلا لزوم للشرعية بمعيار التمثيل وتوسيع قاعدة المشاركة والتداول على السلطة، وإنما لشرعية «واقعية» في حدود إظهار كفاءة الحكام والإدارات ونيل رضا السكان، وليس البحث عن تأمين قنوات لمشاركتهم. رضاهم هو الحل الوسط الذي يقينا، حسب هذا المنطق المحافظ، من قهر السكان من جهة، ومن مغبة مشاركتهم العشوائية في تحديد المصائر والمآلات من ناحية أخرى.

إلى حد كبير، التناقض اليوم في البلدان العربية وبدل أن يكون بين ديمقراطيين وبين إسلاميين، وبدل أن يكون بين ديمقراطيين وبين محافظين، هو تناقض بين الإسلاميين وبين المحافظين. بكل مفارقات ذلك. ومع توفر يساري وقومي وليبرالي هنا في صفوف الإسلاميين، وهناك في صفوف المحافظين.

الإسلاميون بطبيعة الحال لن يجاروا هذا الفصل الميتافيزيقي بين كونهم إسلاميين وبين مواجهتهم للاستعمار. فإسلاميتهم لا تبدر عن دوافع فولكورية بل عن «نظرة للعالم» يعتنقونها. والحال أن مشكلة «غير الإسلاميين» في البلدان العربية تكمن هنا. في تخلع نظرتهم للعالم

يعيدنا هذا الى خلفية عسيرة. حيث أننا نعيش منذ نكبة 1948 ملهاة تخترق كل مآسينا. فبعد النكبة شاع الخطاب القائل إنها حصلت بسبب هيمنة الرجعية العربية على الأنظمة التي شاركت في حرب فلسطين. بالتالي الرد على النكبة يكون بإسقاط الرجعية العربية وتوطيد المسار الجمهوري العربي، مسار الأنظمة الانقلابية القومية العسكرية الثورية. بدورها انتظرت الحركة الإسلامية عقدين وأدارت القالب نفسه لحسابها، حيث اعتبرت أن هزيمة الأنظمة التقدمية الثورية في حرب 1967 يعني أنه لتحسين شروط المواجهة مع العدو ينبغي التحرر أولاً من هذه الأيديولوجية القائمة على «تعبيد الناس للناس بدل تعبيدها لرب الناس».

ثم ساهم كل جمع إسلامي في زخرفة هذا المنظار. فهذا يقول إن التقدميين المتأثرين بأفكار الغرب يخافون الموت، فيما المعركة تحتاج إلى من يعشق الموت. وذاك يقول بأن التقدميين «استشرقوا» على مجتمعاتهم، وشكلوا نوعاً من «استعمار أيديولوجي غرباوي» عليها، حتى وهم ينددون بالإمبريالية، والدليل أنهم يستخدمون ضدها لفظاً أجنبياً لا تفقهه عامة الناس، التي يمكن أن تتشرب وتستشعر أكثر الاصطلاح الإسلامي ضد «الاستكبار» و«الطواغيت». بل أن المطلوب منهج وعقيدة من صلب هذه المجتمعات، من منجم تراثها.

الحجة «العلمانية» بأنه ينبغي عدم تحويل الصراع مع إسرائيل إلى صراع ديني جرى ردّها على أعقابها. فلماذا التنازل، سيقول الإسلاميون، عن دينية الصراع في وقت يهاجمك عدوك في مقدساتك وتحتاج الى الإيمان لتصعيد المواجهة؟ أليس من الأجدى اعتبار الصراع استئنافاً للاصطدام المبكر مع بني نضير وقينقاع وقريظة ويهود خيبر؟ ألن يثير هذا الحماسة في النفوس أكثر؟ لماذا يسترسل العدو بمخياله، ونسقط من حسابنا المخيال والذاكرة؟

علام التنازل عن هذه النار الملتهبة والركون بدلاً منها إلى كراسات «اللغة المترجمة» التي لا تفرق بين سياق الصراع الدائرة رحاه في فلسطين والمنطقة والمرتبط بصراع مستدام بين الديانات الإبراهيمية الثلاث، وبين سياق ليست له علاقة بهذا الصراع الإبراهيمي، كالذي تفسر من ضمنه ظروف نشأة وتطور الحركات النازعة للاستعمار في الهند الصينية مثلاً؟

لا بأس من الإقرار هنا أن الإسلاميين رأوا ما كابر عليه أخصامهم الأيديولوجيون. وهو أنه لا يمكن أن يكون الصراع بين إسرائيل والعرب صراعاً معزولاً عن التاريخ السابق للتفاعل والتنافر بين الديانات الابراهيمية ومتبعيها. لا يمكن حصره في ثنائية استعمار وحركة تحرر فقط. بالطبع، أسلمة الصراع ارتبطت أيضاً مع احتضان الإسلاميين لثنائية «استعمار وتحرر ليس إلا» حين ينفع ذلك، أي حين يكون ذلك ملائماً لتلقي هؤلاء الإسلاميين دعماً معنوياً من قبل قسم من غير الإسلاميين، بل قسم من غير المسلمين. فقسم من هؤلاء يحاولون الفصل بين إسلامية الحركات التي تواجه إسرائيل وبين موقع إعراب هذه الحركات كقوى مناهضة للاستعمار. الإسلاميون بطبيعة الحال لن يجاروا هذا الفصل الميتافيزيقي بين كونهم إسلاميين وبين مواجهتهم للاستعمار. فإسلاميتهم لا تبدر عن دوافع فولكورية بل عن «نظرة للعالم» يعتنقونها. والحال أن مشكلة «غير الإسلاميين» في البلدان العربية تكمن هنا. في تخلع نظرتهم للعالم.

هذا الخليط «غير الإسلامي» واقع اليوم في حيص بيص. قسم يحاول أن يثابر على مسوغات غير إسلامية للالتحاق بالإسلاميين، وقسم يخمّن أن لحظة تقارن بـ 1948 و1967 قد أتت. بعد 48 جرى تحميل المسؤولية «للرجعية» وجرى الإطاحة بها وبالبرلمانات في وقت واحد. بعد 67 جرى تحميل المسؤولية للأنظمة العسكرية «التقدمية» وجرى الإطاحة بها والإتيان بسياسات اقتصادية اجتماعية معادية على طول الخط للطبقات الشعبية في وقت واحد.

اليوم، ثمة من يخالها «ليلة القبض على الإسلاميين» من بوابة غزة. وثمة في المقابل من يعتبر أن إسلامية الإسلاميين مجرد تفصيل درامي لا يؤثر على حبكة الملحمة، والمعركة هي بين استعمار وحركة تحرر، في حين أن أهمية الإسلاميين التاريخية هي بالتحديد في التنبيه إلى أنها لا يمكنها أن تكون فقط كذلك، ولا يمكن أن يكابر نزاع في الدنيا على تمثلاته والنظرات المختلفة إلى العالم المنخرطة فيه.

في الهند اليوم ثمة أصولية هندوسية حاكمة. حزب المؤتمر في مقابلها ليس في أفضل حال، لكنه موجود. في البلدان العربية، الحركة الإسلامية لم يكن لها حتى عمليات 7 أكتوبر سوى قطاع غزة، وسيطرات جزئية لأقسامها «غير السنية» في لبنان والعراق واليمن.

في المقابل، ليس هناك من يمكنه في أي بلد عربي أن ينهض في مقابل الإسلاميين، بموقع شبيه لحزب المؤتمر، على علاته الكثيرة، في مقابل الأصولية القومية – الدينية.

بالتالي، هب أن الإسلاميين في موقع عسير اليوم، وهم ليسوا بأفضل حال على الإطلاق، بل قارن موقعهم بما قاسته الأنظمة العربية «الرجعية – البرلمانية» بعد حرب 48 والأنظمة العربية العسكرية التقدمية بعد حرب 67، لكن، من بمستطاعه أن يغتنم اللحظة وهو على النقيض منهم؟ هل يستفيد منها «غير الإسلاميين» كقوة على يمين الإسلاميين أم على يسارهم؟ «غير الإسلاميين» من حيث هم أناس «محافظون» ولو طبّل لهم ألف ليبرالي؟ يقولون بكفاءة الحكام والإدارات ورضا السكان، فلا تمثيل ولا مشاركة ولا تعددية؟ أم غير الإسلاميين من حيث هم «قوة ديمقراطية» ولا يمكن أن تنفصل الديمقراطية حينها كمشاركة للكتل الشعبية في تحديد السياسات المتصلة بشروط عيشها عن الإسهام في كبح جماح التجبر والصلف على صعيد العلاقات بين الأمم؟

وسوم: العدد 1062