أقلُّها الطوفان.. أسباب العدوان على غزة

يخطئ من يعتقد أن حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني ضد غزة جاءت رد فعل غاضبًا على عملية طوفان الأقصى، أو حتى يندهش من تداعي الحكومات الغربية الهائل لتبريرها، بل ويخطئ أكثر من يتصور أن إسرائيل بمفردها تخوضها، بينما نرى الأموال والأسلحة والأساطيل الأمريكية، ونرى في سماء غزة طائرات بريطانية، وينغمس جنود الدولتين جنبًا إلى جنب مع جيش الاحتلال في الحرب غير المتكافئة على الأرض، وقد فضحت الأخبار والوسائط المصورة المتداولة هذا الوجود تارة كقتلى وتارة كمدربين ومشاركين ومحرضين على الإبادة.

الحقيقة أن أمريكا خططت لهذا العدوان على غزة منذ زمن بعيد، حينما ضمّت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إلى قائمة الأنظمة المارقة التي ابتدعها مطلع القرن الجاري، والتي هي في الأصل مارقة على الانضواء ضمن الحظيرة الأمريكية، ولعلها كانت تنتظر الوقت المناسب لتشن هذه الحرب من أجل تنفيذ “صفقة القرن” التي نعلم جميعًا أنه كان يجري الإعداد لها من قِبل أطرافها منذ نحو عشر سنوات، وهو ما كشفت عنه وثائق قيل إن حماس حصلت عليها في معسكرات غلاف غزة أثناء الطوفان.

أمريكا انتهزت الفرصة ورأت أن الأكاذيب التي يمكن لهم إلصاقها بطوفان الأقصى، كقتل الأطفال والمدنيين واغتصاب إسرائيليات، قد تعطيها المسوغ الشعبي الغربي للتعجيل بتنفيذ هذا المخطط.

لماذا الآن؟

ولعل السبب الوجيه الذي جعل الولايات المتحدة تؤجل عقاب حماس على مروقها عن حظيرتها كل هذا الوقت هو أنها ظنتها ضعيفة عسكريًّا، ومحاصرة، وكانت تتوقع سقوط حكمها في غزة تحت وطأة التذمر الشعبي جراء هذا الحصار المحكم الخانق طيلة أكثر من 17 عامًا، ولكن بما أنها صمدت ولم تنقلب عليها حاضنتها الشعبية، وجب على الولايات المتحدة حينئذ أن تعجل بوضع خطة لإقصائها عسكريًّا، تنفذها في أقرب فرصة وتنفذ معها “صفقة القرن”.

ثم جاء طوفان الأقصى، وظهرت معه قدرات حماس العسكرية الحقيقية التي أخفتها في جولات نزال سابقة مع إسرائيل، فصدمت أمريكا بهذا التطور العسكري والاستخباري الخطير، وكان لا بد من التعجيل بتنفيذ المخطط مهما كانت الأثمان.

في البداية سارعت بأساطيلها وأساطيل حلفائها الأوروبيين، وراحت تصرّح بأنها تسعى لبناء تحالف عالمي للقضاء على حماس، تمامًا كما فعلت في العراق وليبيا، لكن يبدو أنها رأت أن هذه الأمر العلني سيبقى وصمة عار في جبينها وجبين من يتبعها، نظرًا للاختلال الكبير في موازين القوى كقوى عالمية عظمى تحتشد ضد فصيل مكون من بضعة آلاف مقاتل مسلح بأسلحة بسيطة نسبيًّا، لذلك ارتأت أن تجري المهمة القذرة كليًّا تحت الستارة الاسرائيلية، مع أنها وحلفاءها جميعًا حاضرون في حلبة النزال.

محظورات حماس

تجمع حماس بين العديد من المحظورات الأمريكية فيمن يجب أن يترك ليحكم في نظم المنطقة العربية، فهي حركة إسلامية، تعادي إسرائيل صراحة، مارقة عن الحظيرة الأمريكية، وليس خافيًا على أي مراقب منصف أن يرصد أن هناك اعتراضًا باتًّا وحاسمًا على “وصول” أي تيار إسلامي حقيقي إلى السلطة مهما كانت قوة حاضنته الشعبية واتساعها، وهناك حظر أقل صرامة على “بقاء” أي تيار قومي حقيقي في السلطة طالما سعى لدعم استقلال بلاده وتسليحها، ومن غير المحبب أن “يُترَك” الاشتراكيون المؤدلجون ليستقروا في الحكم.

على أي حال، المقاومة تُبلي بلاءً عظيمًا في غزة، وتؤلم العدو كما تتألم، ولكنها مع ذلك لن تُهزم أبدًا، وذلك ببساطة لأن جميع سكان قطاع غزة هم حماسيون دون أن يكونوا أعضاء في الحركة، بل وكل أحرار الوطن العربي صاروا أكثر اقتناعًا بوطنية حماس ونضالها.

ولعل الولايات المتحدة ستدرك في وقت ما أن هناك منافسين كبارًا كُثرًا على النفوذ في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وأنها بحاجة ماسّة إلى تحديث سياساتها السابقة التي تتبعها في المنطقة بحيث تكون أكثر تعبيرًا عن حاجات الشعوب العربية وتوجهاتها الفكرية.

فقد تسببت ازدواجيتها تلك في انهيار ما حاولت أن تبنيه من ثقة لدى المواطن العربي بها بعد دعمها المطلق لإسرائيل، وأدرك حتى أكبر المدافعين عنها أنها هي من تفجر الحرائق في المنطقة، وتدعي إطفاءها، وأنها غير مهتمة بأي حال بقضايا حقوق الإنسان العربي إلا إذا كانت ستستخدمها في إطار براغماتي لهدم أنظمة غير راضية عنها.

الأنظمة المارقة

وقصة الأنظمة المارقة بدأت بعد زوال الاتحاد السوفيتي في أواخر العقد الماضي، إذ كادت أمريكا تفرض وصايتها المطلقة على العالم، لكنها سرعان ما وجدت تمردًا من بعض الأنظمة العربية و”العالمية”، إما بسبب النزعة القومية لقادتها الجدد كما في سوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان، وعالميًّا كإيران وكوريا الشمالية والصين وروسيا، وإما لأن هذه الأنظمة لم تولد أصلًا داخل الحظيرة الأمريكية كما في حماس وحزب الله وطالبان الأفغانية.

هنا كان يجب على أمريكا إظهار العين الحمراء للمتمردين على النظام الذي أسسته، فعربيًّا بدأت بمعاقبة نظام الرئيس الراحل صدام حسين بوصفه الأقوى عسكريًّا والأكثر إخلاصًا لفكرة التحرر الوطني، قاصدة ترويع من تسول له نفسه السير في ركابه، ثم استغلت ما يسمى “الربيع العربي” لتفجير بقية الأنظمة العربية المارقة من الداخل، وتحويل ثوراتها ضد الاستبداد إلى اقتتال داخلي عنيف لا يُبقي ولا يذر، كما حدث في ليبيا وسوريا واليمن والسودان، وما حدث لحزب الله عام 2014 وفشلت فيه، وما يحدث الآن في غزة وستفشل أيضًا.

والغريب أن الخطط الأمريكية نجحت مثاليًّا في الدول العربية، وتحققت سيناريوهات “الفوضى الخلاقة” التي بشرت بها وزيرة خارجيتها عام 2005، لكنها فشلت مثاليًّا أيضًا في الدول غير العربية كإيران التي ازدادت نفوذًا في العراق وسوريا واليمن، وطالبان التي أجبرت الولايات المتحدة على الاعتراف بسلطتها والانسحاب من أفغانستان، في حين تعززت مواقع ومواقف الصين وروسيا وكوريا الشمالية في العالم.

البراغماتية الأمريكية ستكون معول الهدم الأول لنفوذها الخارجي.

وسوم: العدد 1062