استذكار الهولوكوست: إسرائيليات عجائب
لامرئ أن يضرب كفّاً بكفّ، عجباً أو سخرية أو حيرة، إزاء تصريح من رئيس بلدية مدينة إسرائيلية يقول التالي: «سوف نعمل على إعادة بناء دولة إسرائيل وتطويرها كمجتمع نموذجي، يشكّل الوطن الأفضل لأبنائنا، يكون وطناً قوياً في النواحي الأخلاقية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية، ويكون دائماً نوراً لليهود وغير اليهود على حدّ سواء».
هل يعيش القائل على كوكب آخر؟ كلا، بل هو أمير كوخافي، عمدة بلدية هود هشارون التي تأسست سنة 1964 باتحاد أربع مستوطنات؛ ومناسبة التصريح هذا ليست عادية، لأنها تصادف مراسم إحياء ذكرى الهولوكوست. السياق، أيضاً، كان الباعث وراء أقوال أخرى عجيبة أطلقها كوخافي، مثل: «لا ينبغي لنا أن نصمت أمام الفظائع التي تُرتكب بحقّ أناس من قوميات أخرى، حتى حين يجري ارتكابها باسمنا»؛ أو: «الأخلاق اليهودية تفرض علينا ألّا يتكرر ذلك أبداً، ليس فقط لنا، بل لكلّ الشعوب، كضرورة أخلاقية وإنسانية من أجل مجتمع عادل وسليم».
مبعث العجب، في مستوى أوّل، هو صدور هذه المقارنة بين الهولوكوست وفظائع أخرى تُرتكب ضدّ شعوب أخرى، حيث يصعب ألا يكون الفلسطينيون في عدادهم اليوم؛ وهذا تشخيص محرّم في دولة الاحتلال والأدبيات الصهيونية، فكيف وأنه يصدر عن رئيس بلدية تحديداً. ومن الثابت أن «ثقاة» الإفتاء حول الهولوكوست (إيلي فيزل، في المثال الأشهر) يرفضونه رفضاً قاطعاً، ولا يتورعون عن إلصاق تهمة العداء للسامية بكلّ من ينادي به؛ حتى إذا كان يهودياً، أو بالأحرى خاصة إذا كانت هذه ديانته.
لا عجب، في المقابل، أن تثير تصريحات كوخافي زوبعة من الانتقادات، في صفوف اليمين الإسرائيلي المتطرف قومياً ودينياً، وأن يتولى قيادة حملات تأثيم عمدة هود هشارون أناسٌ من أمثال وزير الثقافة والرياضة، الذي ذهب إلى درجة اعتبار التصريحات «بصقة في وجه الناجين من الهولوكوست»؛ أو وزير الطاقة، الذي اتهم كوخافي بـ«التماهي مع أعدائنا وإلحاق الأذى بجنودنا الأبطال»، مضيفاً بأنّ «كراهية اليهود ذاتها التي قادت النازيين إلى قتل ستة ملايين يهودي، ما تزال تسري في دماء أعدائنا، الذين يقاتلهم جنودنا في هذه الأيام تحديداً».
وأمّا في مستوى ثانٍ فإنّ مبعث العجب يدور حول شخص كوخافي نفسه، الذي يصعب أن يكون من طينة فريدة، عجيبة بدورها، استفاقت بغتة على ما ترتكبه دولة الاحتلال من جرائم حرب في قطاع غزّة؛ فتهرّبت من تسميتها بمسميات فعلية من طراز الإبادة الجماعية وحروب التجويع والتطهير الإثني والتهجير، ورحّلتها إلى نظائر مثل الهولوكوست، تظلّ «ماركة مسجّلة» باسم اليهود في نهاية المطاف. ذلك لأنّ كوخافي مؤسس وزعيم حزب «كتزيف»، المنضوي اليوم في صفوف تجمّع المعارضة بقيادة يائير لبيد… هذا الذي لا تُعرف عنه شفقة على الشعب الفلسطيني، ومعارضته لائتلاف نتنياهو كانت من نوع «ناعم»، انتهازي وصولي غالباً، وهكذا تظلّ.
في مبعث ثالث للعجب أنّ كوخافي اقتبس العالِم الهنغاري اليهودي إيهودا إلكانا، الناجي وأهله من معسكر أوشفتز، وصاحب رأي حول الهولوكوست (يبغضه يهود كثر وصهاينة أكثر) يقول إن أبناء المحرقة وأحفادها ينقسمون إلى نوعين من البشر: أناس قرروا ألا تتكرر أبداً، وأناس قرروا ألا تتكرر بالنسبة لنا نحن اليهود فقط. ليست هذه هي «النغمة» التي اقتاتت عليها أجهزة التحشيد الصهيونية طيلة عقود، وربما منذ كرّاس تيودور هرتزل حول الدولة اليهودية وليس ابتداء بمعسكرات الهولوكوست النازية.
الأرجح أنّ وزير ثقافة نتنياهو فاته استنباط بصقة أخرى، مصدرها إلكانا هذه المرّة، حتى إذا كان قد رحل عن عالمنا منذ 13 سنة؛ إذْ ثمة، دائماً، مرصد صهيوني راهن يخوّن الأحياء، وآخر بمفعول رجعي يقضّ مضاجع الأموات.
وسوم: العدد 1124