“ألبانيزي” أدت واجبها.. فهل نؤديه نحن؟
لم تكن الإيطالية فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الأممية المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، التي فرضت عليها الإدارة الأمريكية عقوبات ومنعتها سلطات الاحتلال من دخول فلسطين، سوى واحدة من هؤلاء النبلاء الكُثر الذين راعهم حجم الإجرام الصهيوني الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، فنزعوا رداء المصالح الشخصية والفكرية والدينية والثقافية والسياسية، وقرروا الانتصار للإنسانية، والقتال بمفردهم في المحافل السياسية الدولية كلها من أجل ترميم ما تبقى من احترامها، وإنقاذ إنسانية هذا العالم.
العقوبات الأمريكية تأتي في إطار الإنكار الغربي المستمر للحق العربي، وعصفهم بمنظومة العدالة الدولية التي أسسوها بعد الحرب العالمية الثانية، وهو العصف الذي ازدادت فداحته بعد حرب الإبادة الصهيونية على غزة المستمرة منذ سنة 2023، رغم أن هذه المنظومة هي ذاتها التي دلسوا بها على العرب والمسلمين ونقلوهم عبرها من الحراك المسلح نصرة لفلسطين إلى الانبطاح فوق طاولات منظماتها وتحتها، بدعوى السياسة.
وثقت ألبانيزي جرائم الكيان الصهيوني في العشرات من تقاريرها، وكشفت عن تورط 60 شركة غربية عابرة للقارات في دعم إسرائيل وتسليحها وتزويدها بأدوات وتقنيات القتل والإبادة في غزة، بل وطالبت المحكمة الجنائية الدولية بسرعة التحرك لملاحقة المسؤولين الإسرائيليين، كما طالبت فرنسا واليونان وبلدها إيطاليا بتوضيحات حول فتح مجالها الجوي لعبور نتنياهو، في مخالفة لقرارات المحكمة الدولية التي توجب اعتقاله، فضلا عن توثيقها عمليات الفصل العنصري التي تمارسها إسرائيل في الضفة الغربية.
أهمية نشاط المسؤولة الأممية أنه جاء في إطار طبيعة عملها الرسمي، ما يعني أن تلك التوثيقات لم تصدر عن أطراف خارج أجهزة منظومة العدالة الدولية، أو من متطوعين حقوقيين، أو من متضررين أصحاب مصلحة قد يسهل على إسرائيل -كعادتها- اتهامهم بالتشنيع والتشهير، ولكنها جاءت من داخل أخص المتخصصين بالشأن الفلسطيني في أهم منظمة دولية، ما يجعلها أدلة دامغة على الجرائم، وسيقتص لها التاريخ إن عجز الحاضر.
ألبانيزي ولدت عام 1977 في إيطاليا، ونشأت في أسرة ليبرالية مهتمة بحقوق الإنسان، وبسبب تعليمها في مجال الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن، تعرفت إلى تفاصيل القضية الفلسطينية والمذابح التي يتعرض لها الفلسطينيون، وتخصصت في هذا الشأن، وحاضرت فيه في العديد من المحافل الأكاديمية والحقوقية الدولية، حتى اختارتها الأمم المتحدة لمنصبها الأممي، ولما أوجعت صراحتها إسرائيل، أمسكت واشنطن لها عصا التخويف والإرهاب بعقوبات تشمل تجميد أرصدتها وأرصدة ذويها في “البنوك”.
جائزة نوبل: تكريم وتخليد
إذا كان هذا ما قدمته الإيطالية الحرة من أجل نصرة المستضعفين في غزة الذين خذلهم العالم الإسلامي، فيتوجب علينا -كنظم حكم وشعوب نُعد الحاضنة الطبيعية للشعب الفلسطيني- أن نرد لها المعروف بالمعروف، ونتمترس خلف الدعوات التي انطلقت لمنحها جائزة نوبل للسلام.
وهناك العديد من الرسائل التي يمكن إرسالها للعالم كله، وخاصة لقوى التكبر فيه، مفادها أن العالم الإسلامي ومعه أحرار العالم لا ينسون أبدا من ينحاز لحقوق المستضعفين، وأن الدفاع عن فلسطين وحقوق شعبها المهدرة لم يعد خيارا يعود على صاحبه بالغُرم والخسارة كما كان في السابق، بل إنها قضية عادلة تنصر من ينصرها.
من أهم الرسائل أن حصول من وثقت -رسميا وأمميا- جرائم الإبادة الإسرائيلية على هذه الجائزة الكبيرة، التي يدور حولها نقاش نخبوي دائم في المحافل العالمية كافة، سيسهم في نسف المظلومية التي تقوّى بها الصهاينة على مدى عقود في مسألة “الهولوكوست”، لنستكمل بذلك نسف ما أغفلته تداعيات توثيقها “إعلاميا”.
وإذا كان مجرد طرح اسمها لدى العديد من الجهات الحقوقية في العالم لنيل الجائزة قد أوجع إسرائيل ورعاتها، فإن حصولها عليها فعليا سيكون طعنة قوية وتاريخية للمشروع الصهيوني برمّته.
وكما أن طرح اسم فرانشيسكا ألبانيزي لنيل الجائزة يُعد دعما للقضية الفلسطينية وتقديرا لمن يدافعون عن المظلومين في وجه ظالميهم، فإنه سيكون أيضا فرصة نادرة للجهة المانحة للجائزة لتُمسح عنها الاتهامات التي لطالما وُجّهت لها بأن ترشيحاتها في المجالات كافة تخضع لاعتبارات سياسية ولـ”لوبيات” صهيونية.
أما إذا قامت هذه الجهة برفض ترشح ألبانيزي، فإننا لم نخسر شيئا، وإنما فقط كشفنا حقيقة المعايير المزدوجة لـ”جائزة نوبل”، لتنضم إلى القائمة الطويلة لتلك المؤسسات والجهات العالمية الكبرى التي حطم “طوفان الأقصى” وحرب الإبادة الصهيونية سمعتها، ولم يتبقَّ لها إلا الوأد للأبد.
الدور الإسلامي: الدعم المؤمَّل
قد يبرر البعض انعدام دعم العالم الإسلامي “العسكري” لغزة تحت دعاوى نختلف فيها أو نتفق، إلا أن تواضع الدعم الرسمي والشعبي “السلمي” أيضا محل تساؤلات، إذ تحركت دول لا تنتمي لهذا العالم لدعم غزة في المحافل الدولية، كما جرى في المحكمة الجنائية ومحكمة العدل الدولية، بينما بقيت 57 دولة مسلمة تشاهد المذبحة التي تُرتكب بحق الأشقاء من بعيد دون أن تحرك ساكنا.
الآن جاءت الفرصة من جديد لحفظ ما تبقى من ماء وجه أمة المليارين، وبكلفة أقل، عبر دعم ألبانيزي لنيل جائزة نوبل للسلام، بما يحمله ذلك من اعتراف غربي رسمي ونخبوي بالإبادة في غزة، وأن من قام بها هم هؤلاء “الناجون من الهولوكوست” المزعوم.
ومن حسن الحظ أن لجنة حكماء يختارها البرلمان النرويجي (وليس السويدي) هي من تختار الفائزين بالجائزة في مجال السلام، بخلاف باقي اللجان، والنرويج أصلا من الدول الأوروبية القريبة جدا من القضية الفلسطينية، علما بأن اللجنة المشرفة على الجائزة تلقت طلبات ترشيح لـ338 مرشحا هذا العام، بينهم 244 فردا و94 منظمة، ويمنع نظام اللجنة الإفصاح عن الأسماء.
وسوم: العدد 1129