العلاقات غير الصحية وأثرها النفسي: بين التراث والحكمة الحديثة
هل فكرت يومًا كيف يمكن لصديق واحد أن يرفعك نحو السعادة، أو يسحبك إلى القلق والتوتر؟ العلاقات غير الصحية ليست مجرد خلافات عابرة، بل هي جسرٌ لاستنزاف الطاقة العاطفية وتشتيت الصفاء النفسي.
في هذا المقال، أود أن أستعرض كيف تربط الحكمة القديمة من التراث العربي بين اختيار الصحبة وعافية النفس، وما تؤكده الدراسات الحديثة حول العلاقات السامة وأثرها النفسي.
في زحمة الحياة وتشابك العلاقات، نصادف أشخاصًا يضيفون إلى حياتنا نورًا، وآخرين يظلون في الظل، يثقلون كاهلنا دون أن نشعر. فالعلاقات غير الصحية ليست مجرد خلافات عابرة، بل هي نمط متكرر من السلوكيات التي تستنزف طاقتنا العاطفية وتعبث بأمننا النفسي، حتى نصبح غرباء عن ذواتنا.
والقرآن الكريم يحثنا على مراعاة الصحبة الصالحة لما لها من تأثير مباشر على النفس والقلب، فقال تعالى: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا" (الكهف: 28) هذه الآية تحث على مرافقة الصالحين وتجنب أصحاب القلوب الغافلة، لأن الصحبة الصالحة تدعم السلام النفسي والارتقاء الروحي.
وقد ورد عن النبي ﷺ قوله الشريف: "الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" (رواه أبو داود) ويعني الحديث أن الإنسان يتأثر بصحبه، ويجب أن يختار أصدقاءه بعناية لما لهم من أثر على سلوكه ونفسيته.
وقد أشار الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى تأثير الصحبة السيئة بقوله:
"ولا خير في ود امرىء متلون ... إذا الريح مالت مال حيث تميل"
هذا البيت يوضح أهمية اختيار الأصدقاء المخلصين، ويؤكد أن الصديق المتلون لا يضيف إلى حياتنا إلا الاضطراب وعدم الاستقرار النفسي.
ومن منظور علم النفس، تُعرّف العلاقات غير الصحية بأنها تلك التي يغيب عنها الاحترام المتبادل، ويسودها التلاعب العاطفي أو السيطرة أو التجاهل المستمر لاحتياجات الطرف الآخر. وقد أظهرت دراسة نشرتها المجلة الأمريكية للصحة النفسية عام 2024 أن التعرض المستمر للتقليل من الشأن أو النقد الجارح في العلاقات يؤدي إلى ارتفاع مستويات هرمون الكورتيزول في الدم، مما يسبب القلق المزمن واضطرابات النوم والاكتئاب. (jetir.org)
ويصف المتنبي هذا الاستنزاف النفسي في قوله:
"إذا غامَرتَ في شَرَفٍ مرُومِ ... فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ"
علماء النفس ينصحون هنا بما يسمى إعادة بناء الحدود النفسية، أي وضع مسافة آمنة بيننا وبين مصدر الأذى، حتى لو كان قريبًا أو عزيزًا. وهذا ليس أنانية، بل حفظ للروح من الانكسار.وقد لخص جبران خليل جبران أهمية البُعد عن كل ما يطفئ الروح بقوله: "ولا تجالس أنصاف العشّاق، ولا تصادق أنصاف الأصدقاء، ولا تحيا بنصف قلب، ولا تمُت بنصف حلم"
بين التراث والحكمة الحديثة ، لقد أدرك العرب منذ قرون أثر العلاقات على صفاء النفس، فجاء في أمثالهم: "الصاحب ساحب". واليوم، تأتي البحوث النفسية الحديثة لتؤكد هذه الحكمة، مبينةً أن بيئة الإنسان الاجتماعية تترك أثرًا مباشرًا على صحته النفسية، بل وحتى على جهازه المناعي. وهكذا تتلاقى حكمة الأسلاف مع العلم المعاصر: أحط نفسك بمن يمنحك الأمان، وابتعد عمن يسلبك راحة البال.
وختاما، يتضح لنا أن العلاقات ليست مجرد تفاعلات عابرة، بل هي نسيج يؤثر على نفوسنا وعقولنا وقلوبنا. فالاختيار الواعي للصحبة الصالحة هو استثمار في صحتنا النفسية وسعادتنا الروحية. كما جاء في حكمة التراث العربي: "الصاحب ساحب". وأكد الحديث الشريف أن الإنسان على دين خليله، فاختيار الصديق الصالح يرفع من شأننا ويعيننا على الصبر والاستقرار، ويجنبنا التوتر والاضطراب. فلنجعل من قلوبنا بستانًا يزهر بالأصدقاء المخلصين، ونحميها من كل من قد يزرع فيها الحزن أو القلق. وبينما تتلاقى الحكمة القديمة مع العلم الحديث، يصبح لنا الدليل العملي لبناء علاقات صحية ترفعنا وتمنحنا صفاء النفس، وتجعل حياتنا أكثر سعادة واتزانًا.فلنحسن اختيار مَن يرافقنا، ونبني حدودنا بوعي، ونحيَا حياةً مليئة بالطمأنينة والسلام النفسي.
د. سندس اللامي
رئيسة جمعية المرأة العربية في جويلف
مديرة أكاديمية القلم للغات
المراجع:
- Kumari, M., & Bhandarkar, K. M. (2024). The Psychological Effects of Toxic Relationships on Mental Health: A Review. Journal of Emerging Technologies and Innovative Research (JETIR), 11(10).
- Rahimah, S., Abidin, M. Z., & Fadhila, M. (2022). The effect of toxic relationships in friendship on the psychological well-being of Islamic University Students. TAZKIYA (Journal of Psychology), 10(2), 155-164.
Dr. Sundes Alammi,PhD
President of the Arab Women's Society of Guelph (AWSOG)
arabwomensocietyofguelph@gmail.com
ssultan@uoguelph.ca
وسوم: العدد 1130