إسرائيل بين وهم القوة وهواجس النهاية

أحدثت معركة طوفان الأقصى زلزالا قوياً، ما زالت هزاته الارتدادية مستمرة حتى الآن، ليس على المستوى الإقليمي فحسب، وإنما وصلت إلى مختلف بقاع العالم، وقد صدق من قال إن العالم بعد طوفان الأقصى لا يشبه، بأي حال من الأحوال، ما قبله.

الطوفان غيّر قناعات كثيرة، وبدّل يقينيات عديدة، وأنهى سرديات متعددة، فمن كان يتوقع أن نظرة العالم ستتغير إلى إسرائيل بهذا الشكل؟ إذ صارت، بين ليلة وضحاها، كياناً منبوذاً، ممقوتاً، مكروهاً، بعد أن كانت أي إساءة لليهود توصف بأنها معاداة للسامية، وأنهم مهما أتوا من أفعال فهم ضحايا، ومهما ارتكبوا من جرائم في حق الفلسطينيين، فلن ترتقي إلى جريمة هتلر ضدهم.

هم ضحايا بحكم القانون المفروض من طرف جبابرة العالم، وجرائمهم مبررة حتى يدفع العالم ضريبة سكوته على المحرقة التي استهدفتهم، فصارت صورة إسرائيل رديفة للإرهاب، وغدت أفعال حكامها تنافس أفعال النازيين، وجرائمها توصف بجرائم ضد الإنسانية، والمحاكم الدولية تلاحق مسؤوليها، وجنودها يطاردون في كل بقعة يصلون إليها بتهمة الجرائم التي ارتكبوها، لذا ما عادت إسرائيل ذلك الكيان المدلل الذي يفعل ما يشاء، ويقتل من يريد، فالعالم تغير، ليس بالشكل الذي يحلم به الضعفاء، لأن الطريق ما زالت طويلة للوصول إلى ذلك الحلم، لكنها خطوة في تلك الطريق. صارت إسرائيل بعد الطوفان عبئاً ثقيلا على الغرب، وبالأخص على أمريكا، ما عادت خادمة لاستراتيجية الغرب في المنطقة والعالم، بل معطلة لها، فهل تنتهي وظيفتها في المستقبل القريب، لاسيما أن المتنافسين (أمريكا والصين) في حاجة إلى العالم الاسلامي؟ ربما، لكن، لن يتحقق ذلك إلا إذا تحرر المسلمون من الانهزامية والخمول، واعتنقوا روح الحرية، من خلالها سيمتلكون إرادتهم واستقلالهم، وسينفردون باستراتيجية خاصة بهم.

إسرائيل بين وهم القوة وهواجس النهاية

إن إسرائيل دولة احتلال، وأي احتلال إلى زوال، طال الزمن أم قصر، فتلك سنة التاريخ في هذا الوجود، وأن بقاء إسرائيل هذه المدة لم يكن بسبب قوتها، كما يحاول البعض أن يسوّق، القوة رقم واحد في الشرق الأوسط، وليس بسبب بأس مقاتليها؛ جيش إسرائيل الذي لا يقهر، كما أن نسيج تكوينها الداخلي عبارة عن خليط من أجناس مختلفة، جمعها دم واحد، ووعود بمغريات في أرض الخلاص، كل هذه العوامل هي عوامل ضعف وتفكك، وبالتالي، فبقاؤها ليس مرهوناً بعوامل داخلية، وإنما بعوامل خارجية، منها الدعم الغربي اللامحدود لها، بالأخص الأمريكي، ووجود أنظمة ترى أن بقاءها ضروري، لكي لا يؤدي ذلك إلى انهيارها. وقد جاءت معركة الطوفان لتؤكد حقيقة أن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت، مهما حاول نتنياهو بعنجهيته أن يخفي هذه الحقيقة؛ كيف لغزة المحاصرة أكثر من عشرين سنة أن تصمد مقاومتها صموداً أسطورياً، وكيف لكيان يمتلك كل هذه الترسانة من القوة، بالإضافة إلى الدعم اللامحدود من طرف أقوى دولة في العالم، يقف عاجزاً على هزيمة شباب لا يملكون سوى البندقية. صحيح يقف الملاحظ عاجزاً عن تقديم تفسير منطقي لهذا الصمود الأسطوري، لكن عند ربطه بعقيدتنا كمسلمين، بأن النصر لا يتحقق بالقوة المادية فحسب، فهناك عوامل أخرى تتحكم في تحقيق النصر، منها عامل ضروري يحدث الفارق دائماً في أي معركة مصيرية، هذا العامل يتعلق بالروح، فضلا عن ذلك أن هؤلاء الشباب يقاتلون من أجل أرضهم ومقدساتهم، خلافاً للإسرائيلي الذي لا يربطه بهذه الارض سوى وعود بالخلاص معظمها مادية.

إن الحلم اليهودي بإقامة دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، يسقط اليوم في رمال غزة العزة، وأن ما يقوله نتنياهو وبعض وزرائه المرضى من أن خريطة الكيان ستتوسع، وأن الشرق الأوسط سيتغير، وأن إسرائيل القوة العظمى فيه، ما هي إلا محاولة لإخفاء الرعب الذي يعيشه اليهودي من نهاية حلمه في بقاء دولته، ذلك أن هاجس النهاية يطاردهم، وأن العودة إلى حياة الشتات ستكون مصيرهم المنتظر، فكل علو في الأرض، بالتجبر والإفساد، من طرف اليهود، على مر التاريخ، تقابله نهايتهم الموعودة، لقد تحدث عن ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً؛ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً؛ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً).

وسوم: العدد 1130