المنطقة بين الدب الروسي والتشيع الإيراني والنسر الأمريكي

المنطقة بين الدب الروسي

والتشيع الإيراني والنسر الأمريكي

د.غازي التوبة

سقطت دولة الخلافة العثمانية عام 1926، وبقيت الأمة، وكانت الوحدة الثقافية أبرز وأقوى عامل في الدلالة على وجود هذه الأمة، وفي تحقيق وحدتها، وكانت العوامل الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية أضعف في الدلالة على وجودها ووحدتها.

لذلك عندما استلمت انجلترا وفرنسا احتلال المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الأولى، وأرادت أن تسوق نموذجها الحضاري وتفرضه، فاصطدمت بالوحدة الثقافية التي أفشلت هذا الإلحاق الحضاري، فكيف وقع هذا الإفشال؟

لقد كان الفكر القومي هو الأداة التي استخدمتها الدول الغربية من أجل فرض نموذجها الحضاري، فاعتمدت الفكر القومي العربي في العراق، والفكر القومي المصري الفرعوني في مصر، وكان ساطع الحصري رائد الفكر القومي العربي أبرز من نظر لذلك الفكر في العراق، كما نظر عدد من المفكرين في مصر للفكر القومي المصري الفرعوني: أحمد لطفي السيد وطه حسين وعباس محمود العقاد وسلامة موسى إلخ...

وقد دعا أولئك المفكرون القوميون إلى نقل النموذج الحضاري الغربي في مفهوم الأمة، وفي علاقة الفرد بالأمة، وفي دور الدين، وعلاقة الفرد بالدين والدولة إلخ...

فقد وصف أولئك المفكرون الأمة التي ننتمي إليها بأنها أمة عربية أو أمة مصرية لا دور للدين في تكوينها، كما دعا أولئك المفكرون على أن يقتصر دور الدين - كما في الغرب- على المسجد، وأن لا تصبح له أية علاقة بالشأن العام، كما يجب أن تحكم ورغباتنا وأهواؤنا ومصالحنا الشأن العام وتقنن له.

لقد تصادمت تلك الأفكار والآراء القومية، وغيرها من الأفكار الغربية مع منظومة الأمة الثقافية المتغلغلة في كيان أفراد الأمة، لذلك لم تتقبل جماهير الأمة تلك الدعوات والأفكار بل بقيت الأفكار الغربية نخبوية ترعاها نخبة محدودة من المثقفين، وقد ظهر ذلك عندما اكتسحت حركة " الإخوان المسلمين" الشارع في مصر بعد الحرب العالمية الثانية، وعبرت عن رفضها لتلك المبادئ التغريبية، مما اضطر بعض أولئك المفكرين إلى استرضاء الجماهير الإسلامية فاستخدم بعض العناوين الإسلامية من أجل الترويج لكتاباته، فكتب عباس محمود العقاد "العبقريات" وكتب طه حسين "الإسلاميات"، وكتب محمد حسين هيكل عن أبي بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلخ...

لم تنجح الدعوات القومية في تغريب المنطقة بين الحربين العالميتين، لكنها نجحت في تغريب قطاع محدود من الشعوب العربية، وفشلت تلك الدعوات كما رأينا بسبب الوحدة الثقافية الراسخة في وجود أمتنا وكيانها.

وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية أصبحت أمريكا هي القوة الأولى في العالم، وحل الاتحاد السوفييتي في المرتبة الثانية في قيادة العالم، ثم بدأت حقبة الحرب الباردة بين العالم الحر الرأسمالي والعالم الشيوعي، وحلت أمريكا مكان الاستعمار القديم في قيادة العالم العربي، ولكننا نجد أن الاتحاد السوفييتي أخذ وضعا متقدما في العالم العربي، وأصبحت كثير من الدول العربية من مثل مصر وسورية والعراق واليمن والصومال والجزائر على علاقة وطيدة بالاتحاد السوفييتي الشيوعي، وقد شملت تلك العلاقة الوطيدة جوانب متعددة، منها: العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي إلخ......، وقد كان ذلك بعلم أمريكا ودرايتها وحضور نفوذها، وكان ذلك أمراً مستغرباً ومحتاجاً إلى تفسير وتعليل، فما تعليل ذلك؟

لقد علّل جلال كشك –رحمه الله- ذلك، فمثّل روسيا بالدب، وأمريكا بالنسر، وشبّه المنطقة بحبة الجوز المستهدفة للقضم، واعتبر أن الدب أقدر من النسر على كسر حبة الجوز، ولكن النسر قادر على خطف الثمرة والطيران بها بعد أن يكسرها الدب، واعتبر هذا تصويرا لما حدث من تجاذبات بين الاتحاد السوفييتي الشيوعي والولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب الباردة في المنطقة العربية، فأمريكا أسلمت المنطقة للاتحاد السوفييتي من أجل ترويضها وتطويعها وتدمير "الوحدة الثقافية" التي استعصت على انجلترا وفرنسا في مرحلة سابقة، لذلك أخضعت المنطقة للأفكار والمفاهيم الاشتراكية والشيوعية التي عادت الدين، والتي قالت بأنه لا إله والكون مادة، واعتبرت الغيوب من جنة ونار خرافات وأوهاما اخترعها رجال الدين من أجل استغلال الفقراء، واعتبرت الدين أفيون الشعوب، وأنه يجب استئصال الدين من حياة الشعب لأنه مناف للتقدم، ومعرقل لتحرر الإنسان، ومكبل لعقله، ويجب محاربة المتدينين لأنهم حلفاء الرأسماليين وعملاؤهم.

وقد قامت إلى جانب ذلك أفكار دموية تسعى إلى فرض الأفكار الاشتراكية عن طريق العنف والقتل والسحل وتعتبر ذلك مشروعا، وتسمّيه العنف الثوري، وأنه ضريبة لا بد منها من أجل النهوض والتقدم، وقد استفادت في كل تلك الآراء من النظرية الماركسية التي تعتبر أن صرا ع طبقة العمال مع طبقة الرأسمالية هو صراع حتمي، وأنه لا بد من إقامة ديكتاتورية البروليتاريا من أجل تحقيق انتصار طبقة العمّال ومن أجل تحقيق التقدم والنهضة.

في مواجهة تلك الأفكار والآراء الاشتراكية والماركسية واجهت "وحدتنا الثقافية" أشد وأعنف هزة في تاريخ الصراع الثقافي، وقد نجحت تلك المخططات في اقتطاع بعض الأشخاص من منظومة الأمة الثقافية ونقلتها إلى العداء معها، لكنها فشلت في تدمير الوحدة الثقافية للأمة، ودل على ذلك الصحوة الإسلامية التي برزت في سبعينات القرن الماضي، والتي أعادت إلى الواجهة القيم الإسلامية من مثل الحجاب والمساجد والكتاب الإسلامي والبنوك الإسلامية والعمل الخيري الإسلامي، وحصول الإسلاميين على نسبة كبيرة من برلمان الأردن واليمن ومصر والجزائر إلخ....

هذا على المستوى الثقافي و"الوحدة الثقافية"، ولكن على المستوى السياسي استطاع النسر الأمريكي أن يستعيد نفوذه السياسي، فبعد أن جاء السادات وأنهى النفوذ السوفييتي، وربط مصر باتفاقية كامب ديفيد التي وقعتها أطراف ثلاثة: مصر وإسرائيل وأمريكا، ثم تبعت الدول العربية مصر في العودة إلى النفوذ السياسي الأمريكي واحدة تلو الأخرى.

في حقبة الثمانينات بدأت خطة جديدة للنسر الأمريكي، وقد أراد هذه المرة أن يكمل تدمير "الوحدة الثقافية" عن طريق طرف آخر هو إيران الشيعية، وقد بدأت تلك الخطة منذ وصول الخميني إلى الحكم عام 1979، وتقوم على دعامة علنية وهي: تصدير الثورة، وتحويل أمتنا من أمة سنية إلى أمة شيعية، وذلك من خلال نشر المذهب الشيعي، وقد استخدمت إيران من أجل تحقيق هذا الهدف عدة وسائل، هي:

1- إشعال الحروب:

ساعدت إيران أمريكا في احتلال العراق عام 2003، وقد صرح بهاذا أكثر من مسؤول إيراني، وتعاونت بعض الأحزاب والشخصيات الشيعية التي تأتمر بأمر طهران مع أمريكا في احتلال العراق، فمن الأحزاب والتجمعات الشيعية: المجلس الأعلى لقيادة الثورة بقيادة محمد باقر الحكيم، وحزب الدعوة بتفرعاته المتعددة، ومن الشخصيات: ابراهيم الجعفري، علي المهدي، حسين الشهرستاني، نوري المالكي، أحمد جلبي إلخ...

وقد أدى الاحتلال الأمريكي إلى تدمير العراق في كل المجالات: الاقتصادية والعلمية والبنى التحتية والآثار، والأهم من ذلك عشرات الآلاف من القتلى، والأكثر أهمية من كل ذلك هو الاصطراع الطائفي الدموي الذي ما زال مشتعلاً لمدة عشر سنوات بين الشيعة والسنة، والذي لا يهدأ حتى يشتعل مرة ثانية، والذي ستكون إحدى نتائجه تقسيم العراق إلى ثلاث دول.

وأشعلت إيران حرباً ثانية في اليمن فأمدت الحوثيين بالمال والسلاح، وحصلت عدة حروب بين صنعاء والحوثيين حصدت آلاف القتلى وما زال اليمن مرشحاً للانقسام، وهو يعيش حالة صراع طائفي ومذهبي.

2- اضطرابات طائفية:

أشعلت إيران اضطرابات طائفية في كثير من الدول والمناطق: كالسعودية ولبنان والبحرين والكويت وباكستان ومصر وأفريقيا وبعض دول آسيا إلخ...، ولا يتسع المقام لاستعراض كل الاضطرابات الطائفية التي أشعلتها إيران في كل الدول والمناطق وسنكتفي بالحديث عن مثال واحد هو السعودية.

أما السعودية فقد دفعت إيران الطائفة الشيعية إلى التظاهر في كثير من المناطق وبشكل خاص في المنطقة الشرقية.

 كما أقامت مظاهرات في مواسم الحج تحت عنوان: البراءة من الشرك، وقد اصطدم الحجاج الشيعة مع الشرطة في مكة أكثر من مرة، وقتل عدد كبير في مواسم الحج، وأبرزها موسم حج عام 1987، كما أوقع حجاج شيعة آخرون عدة اضطرابات ومظاهرات واصطدامات مع الشرطة عند البقيع في المدينة، كما قام تنظيم شيعي مرتبط بإيران في إحداث تفجير في سكن عسكري في الخبر.

إن هذه الاضطرابات الطائفية في السعودية وغيرها ستؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وإلى تدمير وحدة المجتمع، وإلى الانصراف عن البناء والتقدم.

3- تمزيق وحدة المجتمع:

قامت إيران بنشر المذهب الشيعي في عدد من الدول ذات السنية الراسخة من مثل مصر والجزائر وتونس والمغرب إلخ....، وقد أدى ذلك إلى اصطراع طائفي، وإلى تمزيق وحدة المجتمع، وأصاب تلك المجتمعات بالضرر، وصرفها عن البناء الحضاري، ولن تستفيد من هذا الصراع إلا إسرائيل وأعداء الأمة.

4- استغلال القضية الفلسطينية:

توجهت إيران إلى استغلال القضية الفلسطينية من أجل أن تكسب تعاطف العرب والمسلمين، ولتحسين صورتها، لأن قضية فلسطين كانت مفتاح قلوب العرب والمسلمين خلال الستين سنة الماضية، فاستغلها القوميون والأنظمة الثورية منذ النكبة ثم جاء دور إيران الآن.

لذلك أنشأت إيران حزب الله في لبنان لهذا الغرض، ومما يوشر على عدم مصداقيتها في خدمة القضية الفلسطينية أنها جعلت كل أعضائه من الطائفة الشيعية واستخدمته بعيداً عن القضية الفلسطينية، فاستخدمته ليكون دولة داخل الدولة اللبنانية، ثم استخدمته في احتلال بيروت الغربية عام 2008 من أجل إضعاف السنة وإذلالهم، ثم استخدمته –أيضا- في مقاتلة الشعب السوري لصالح النظام السوري العلماني المعادي للدين، وكان ذلك أوضح ما يكون في جنوب دمشق وفي معركة القصير، فأين كل هذه الأعمال من القضية الفلسطينية؟

5- اختطاف الطوائف الشيعية:

لقد مارست إيران دور الولي والمالك للطوائف الشيعية في العالم، فأقامت علاقات معها، وأمدتها بالأموال والسلاح في بعض الأحيان، وحرضتها على محيطها، ودفعتها إلى التبشير بالمذهب الشيعي لذلك قام الصراع بين الطوائف الشيعية ومحيطها السني في معظم الدول العربية والأفريقية والآسيوية كباكستان وأفغانستان وماليزيا ونيجيريا والسنغال إلخ....، وكانت نتيجة ذلك التفرق والاختلاف والتمزقة وتدمير وحدة المجتمع،  مما اضطر بعض الدول إلى اعتماد تشريعات تمنع التبشير بالمذهب الشيعي.

ليس من شك بأن النسر الأمريكي عندما أطلق يد إيران من أجل نشر التشيع في المنطقة كان يقصد أن تكسر إيران حبة الجوز، ليخطفها بعد ذلك، بعد أن استعصت عليه حبة الجوز: "الوحدة الثقافية للأمة" مرتين: الأولى: بين الحربين العالميتين، والثانية: بعد الحرب العالمية الثانية. لكننا واثقون بأنهما سيفشلان لأن "الوحدة الثقافيةللأمة" أقوى مما يتصورون.

الخلاصة: سقطت الخلافة وبقيت الأمة، وكانت "الوحدة الثقافية" أقوى عامل في التعبير عن وجود هذه الأمة وحقيقتها، لذلك كان هذا العامل مستهدفا بالتدمير خلال المائة سنة الماضية.