ماذا جرى في مدينة حلبجة الكردية عام 1988؟

حقائق لا يعرفها الناطقون بالعربية

أ. د. محمد العبيدي

سمعنا إبان دخول القوات العراقية للكويت عام 1990 بقضية حاضنات الأطفال حين ادعى كويتيون "أن نظام صدام قد سرق تلك الحاضنات من المستشفيات عند احتلاله للكويت مما أدى لوفاة الأطفال الرضع الذين كانوا يعالجون بها"، ثم تبين أن الفتاة واسمها (نيرة) التي صرحت بتلك المعلومات للجنة في الكونغرس الأمريكي والدموع تتساقط من عينيها والتي انقلبت على أثرها الدنيا ولم تقعد، لم تكن إلا ابنة السفير الكويتي في واشنطن (سعود ناصر الصباح) التي لم تكن في الكويت حينذاك على الإطلاق. كما ثبت بعدئذ أن هذه التمثيلية كانت من نسج خيال شركة علاقات عامة أمريكية تدعى (شركة هيل أند نولتون) التي (دفع لها الكويتيون مليون دولار شهرياً من أجل تأليب المجتمع الدولي، والأمريكي بالذات، على نظام صدام. تلك الحادثة تراودني كلما فكرت بتداعيات أحداث حلبجة عام 1988 وما جرى فيها من قتل لأبنائها والتي أصبحت فيما بعد، وخصوصاً بعد ما سمي بـ"حرب تحرير الكويت"، عنواناً استخدمه ويستخدمه القادة السياسيون الأكراد لتنفيذ مآربهم في الانفصال عن العراق. فقد أصبح واضحاً الآن وبما لا يقبل الشك أن القادة الأكراد ومن خلال شبكة واسعة في أوروبا وأمريكا وبمساعدة المخابرات الأمريكية و((الموساد الإسرائيلي)) قد وظفوا أيضا شركات متخصصة بالعلاقات العامة لتضخيم وتحريف حقيقة ما جرى في حلبجة ذلك العام.

قبل أكثر من ثلاثة أعوام سألني صديق أمريكي اسمه "جود وانسكي" عن حقيقة ما جرى في حلبجة عام 1988، وذلك نظراً لما كان الرجل يقرأه من أنباء متضاربة عن حقيقة ما جرى هناك والتي كانت تنشرها ولحد الآن أجهزة الإعلام الغربية والأمريكية منها بوجه خاص. والسبب في سؤاله ذلك هو أنه كان من كبار رجال الإعلام الأمريكان، حيث كان يشغل منصب مساعد رئيس تحرير صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية الشهيرة، وعمل بعدها مستشاراً اقتصادياً للرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان. بعد ذلك، ولحد الآن، ترأس شركة استشارات اقتصادية/سياسية خاصة تتمتع بموقع متميز وذلك لما له من خبرة اقتصادية وسياسية جعلته متفوقاً على الكثيرين من أقرانه العاملين في هذا المجال. ولكون "وانسكي" استمر بالكتابة عن قضايا الساعة الساخنة، فقد كانت اهتماماته بما كتب ويكتب عن حلبجة تؤرقه لما في الموضوع من فجوات لم يجد الإجابة عليها في ذلك الحين رغم كل ما اطلع عليه مما نشر حول الموضوع. وفي ذلك الوقت كانت أسئلته التي وجهها لي عن هذا الموضوع تجعلني في حيرة من أمري لأني لم أكن أيضاً ملما بالكثير من المعلومات عن هذه القضية، خصوصاً وأني مقيم في إحدى الدول الأوربية وبعيد عن موقع الأحداث في العراق، ولم أستطع في حينه أن أزوده بمعلومات قاطعة عن حقيقة أشياء كثيرة تخص هذا الموضوع كنت أجهلها آنذاك.

وكانت هذه مناسبة بدأت معها رحلتي مع هذا الإعلامي والسياسي البارز في سبر أغوار كل ما نشر عن قضية حلبجة، ولم يفتنا في ذلك حتى الإطلاع على أبسط الأخبار والمعلومات سواء التي نشرت حول الموضوع في وسائل الإعلام الغربية، الأمريكية منها والأوربية، أو لدراستنا المعمقة لآلاف الوثائق التي حصلنا عليها من هنا وهناك. كما واستطعت شخصياً الاتصال بأصدقاء وأقارب لي في العراق كانوا ضباطاً في الجيش العراقي طيلة الحرب العراقية الإيرانية، ومنهم ضباط كانوا على معرفة وثيقة بما جرى في تلك الفترة في حلبجة لقربهم من مواقع الحدث.

وطيلة حوالي ثلاثة أعوام من البحث والتمحيص استخدم "وانسكي" المعلومات التي توصلنا إليها في كتابة عدة مقالات أدهشت محتوياتها كل الساسة ورجال الإعلام الأمريكان وحتى مسؤولي البيت الأبيض والخارجية الأمريكية، ذلك لأن المعلومات الموثقة التي نشرها "وانسكي" لا يمكن لأحد إلا أن يعترف بصدقيتها وحقيقة وقوعها، وسألخص في هذه المقالة ما توصلنا إليه من حقائق وفقاً لما نشره الرجل من معلومات.

ولكن قبل ذلك، لا بد لي من أن أضع النقاط على الحروف حول الكيفية التي عمل فيها الأكراد على تحريف حقيقة ما حدث في حلبجة عام 1988 وكيف سوقوا لها في الإعلام الغربي والأمريكي بالذات.

البداية

في عام 1993 تأسست في تل أبيب منظمة صهيونية باسم "جامعة الصداقة الكردية الإسرائيلية" التي يرأسها الصهيوني اليهودي الكردي (أصلاً من مدينة زاخو العراقية) "موتي زاكن"، والذي عمل ولا زال يعمل مع اللوبي الصهيوني الأمريكي. انتهى الأمر في عام 1996 إلى تشكيل مؤسسة في واشنطن تحمل اسم "معهد واشنطن للأكراد" والذي أسسه، بمساعدة مالية وإشراف من "الموساد" الصهيوني المعروف "مايك أميتاي" ابن الصهيوني المعروف موريس أميتاي الذي عمل كمشرّع قديم في الكونجرس الأمريكي وعضو اللوبي للجنة الشؤون العامة "الإسرائيلية" الأمريكية المؤثرة ومستشار لمركز "فرانك جافني" للسياسة الأمنية ونائب الرئيس السابق لـ"المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي" (مؤسسة صهيونية في الولايات المتحدة تتولى الدفاع عن "حزب الليكود" وتتخصص في التعاون المشترك بين كبار ضباط الجيش الأمريكي ونظراءهم في القوات المسلحة "الإسرائيلية"). ومن أعضاء "المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي" المعروفين هم كل من ديك تشيني (نائب الرئيس الأمريكي حالياً)، جون بولتون، دوغلاس فيث وريتشارد بيرل. كما أن "أميتاي" أيضاً عضو مهم في الجناح المؤيد لنزعة المحافظين الجدد الذين يدافعون عن التدخل الأمريكي الواسع والمباشر في "الشرق الأوسط"، ويشرف على "معهد واشنطن للأكراد" مجموعة من الأكراد المعروفين باتصالاتهم وولاءهم للمخابرات "الإسرائيلية" والأمريكية أمثال د. نجم الدين كريم (رئيس المعهد الحالي)، عمر حلمت، د. عثمان بابان، د. أسعد خيلاني، د. كندال نيزان، د. إسفنديار شكري و د. محمد خوشناو.

هل قام صدام حسين باستعمال الغازات السامة ضد الأكراد أثناء ارتكابه لجريمة "الإبادة الجماعية" للأكراد العراقيين؛ والتي هي الصورة السائدة في أمريكا عن العراق؟

إن منظمة مراقبة حقوق الإنسان (Human Rights Watch) تلك المنظمة الأمريكية غير الحكومية قد ناصرت تلك الادعاءات. ووفقاً لتقاريرها "فقد قتل 50.000، وربما 100.000 شخص، معظمهم من النساء والأطفال بعد أن فلت زمام الأمور في الفترة ما بين فبراير/شباط وسبتمبر/أيلول 1988، وأن الضحايا كانوا من الأكراد العراقيين الذين قتلوا بطريقة منظمة حيث استهدف القتل أعداداً كبيرة بناء على أوامر الحكومة المركزية في بغداد".

وزعمت المنظمة أن العراق قد استخدم الأسلحة الكيمياوية في أربعين محاولة لشن هجوم على الأهداف الكردية خلال حملة وصفتها منظمة مراقبة حقوق الإنسان بأنها إبادة جماعية. ويعد أهم هجوم ذكر في تلك التقارير هو هجوم بالسلاح الكيمياوي الفتاك الذي وقع في مارس/آذار 1988 والذي راح ضحيته، وفقا لدراسة أعدتها منظمة مراقبة حقوق الإنسان أكثر من 3.200 شخص أو ربما يصل عدد الضحايا إلى 5.000 شخص أو حتى إلى 7.000 شخص كما يزعم جوست هلترمان كاتب التقرير الأصلي الخاص بحلبجة لمنظمة مراقبة حقوق الإنسان.

حقا إنها مزاعم مخيفة، ولكن هل هي حقيقة ؟ تلك هي المسألة.

نحن نعلم جيداً باستخدام كل من العراق وإيران للأسلحة الكيمياوية ضد بعضهما البعض في الحرب الضروس التي استمرت بينهما طوال ثماني سنوات والتي انتهت في 20 أغسطس/آب عام 1988 حيث تم إعلان وقف إطلاق النار. فمعظم الهجمات العراقية المزعومة على الأكراد حدثت بينما كانت تلك الحرب مشتعلة بالرغم من أن منظمة مراقبة حقوق الإنسان إدعت أن الهجمات امتدت حتى شهر سبتمبر/أيلول. ولقد أقر النظام العراقي باستخدامه غاز الخردل ضد الجيش الإيراني ولكنه أنكر الاستخدام المستمر والمتعمد للأسلحة الكيمياوية ضد المدنين.

ولكن ماذا حدث في حلبجة؟

إن أهم أحداث قتل للمدنيين الأكراد من جراء استخدام الأسلحة الكيمياوية قد وقعت في حلبجة التي هي قرية عراقية تقع بالقرب من الحدود الإيرانية حيث قتل عدة مئات من الأفراد إثر تعرضهم للغازات السامة في منتصف مارس/آذار 1988. ولقد علمنا أن إيران اكتسحت القرية بما فيها من أعداد قليلة من أفراد القوات المسلحة العراقية؛ ولكن نشب الخلاف حول من هو المسئول فعلياً عن الضحايا : إيران أم العراق ، وكم عدد القتلى.

إن أفضل دليل كان ذلك التقرير الذي صدر عام 1990 عن معهد الدراسات الإستراتيجية بكلية الحرب العسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد خلص التقرير إلى أن إيران وليس العراق هي التي ارتكبت جرائم حلبجة !

أما "ستيفن بلتير" الذي كان كبير المحللين السياسيين في وكالة الاستخبارات المركزية ومسؤولاً فيها عن مكتب العراق أثناء الحرب العراقية-الإيرانية قد وصف النتائج التي توصل إليها فريق العمل لما حدث في العراق خلال الحرب العراقية-الإيرانية كما يلي:

"إن الغالبية العظمى للضحايا - كما رأى المقررون والمراقبون الآخرون الذين شهدوا على الأحداث – قد مُثل بهم وارتكبت ضدهم فظائع وقتلوا بواسطة سلاح فتاك، ربما بواسطة غاز كلوريد السيانوجين أو هيدروجين السيانيد ولكن العراق لم يكن يستخدم تلك الأسلحة الكيمياوية من قبل بل كان تنقصه القدرة على إنتاج تلك الأسلحة الكيمياوية في حين أنها كانت في حوزة الإيرانيين، وهكذا يكون الإيرانيون هم قتلة الأكراد.

ذكر "بلتير" أن عدد القتلى كان بالمئات وليس بالآلاف كما زعمت منظمة مراقبة حقوق الإنسان والإدارة الأمريكية وإلى يومنا هذا تتفق وكالة الاستخبارات المركزية مع هذا الرأي.

بينما يقر تقرير كلية الحرب بان العراق استخدم غاز الخردل خلال الهجوم على حلبجة. كما ذكر التقرير أن ذلك الغاز يصيب المصاب بالضعف، ولكنه ليس فتاكاً، أما معدل الوفيات من جراء استخدامه فيصل فقط إلى 2% وبذلك لا يمكن أن يكون قد تسبب في مصرع آلاف القتلى وهذا عكس ما ذكرته منظمة مراقبة حقوق الإنسان.

بينما أقر تقرير كلية الحرب الذي استهدف إعادة صياغة الأحداث أن إيران هي التي بدأت بالهجوم واستولت على المدينة، وقام العراقيون بهجوم مضاد باستخدامهم لغاز الخردل ثم هجم الإيرانيون ثانية، وفي هذه المرة استخدموا عنصراً فتاكاً ألا وهو كلوريد السيانوجين أو هيدروجين السيانيد. واستولوا ثانية على المدينة وأحكمت إيران قبضتها عليها لعدة أشهر.

وبعد أن سيطروا على القرية وأصبح عدد القتلى كبيراً ألقت إيران باللوم على العراقيين وتأصلت الادعاءات الخاصة بالإبادة الجماعية (التي ارتكبها العراقيون) من خلال الصحافة العالمية، والأمريكية منها بشكل خاص. وبعد ذلك بفترة وجيزة، تم وضع تلك المزاعم في إطار ساخر من قبل وزارة الخارجية الأمريكية ومجلس الشيوخ الأمريكي وذلك لدواعي سياسية.

وصف "بلتير" مستنداته في آخر عدد من "النيويورك تايمز" - الذي أصبح عرضة للبحث - قائلا: "إنني في وضع يجعلني أعلم بكل صغيرة وكبيرة لأنني كبير المحللين السياسيين في الشؤون العراقية في وكالة الاستخبارات المركزية خلال الحرب الإيرانية – العراقية وكأستاذ في كلية الحرب منذ عام 988 إلى عام 2000. كما كنت مهتماً بالاطلاع على الكثير من المعلومات المحظور نشرها والتي تسربت من واشنطن وكانت كلها معنية بحرب الخليج".

"بالإضافة إلى ذلك كنت رئيساً لتحقيقات الجيش في عام 1991 فيما يتعلق بكيفية دخول العراق في حرب ضد الولايات المتحدة، ولقد تم سرد تفصيلات كثيرة تخص موضوع حلبجة في النسخة المحظور الاطلاع عليها".

هل كانت هناك حقاً حملة للإبادة الجماعية؟

رفض "بلتير" أيضا الإدعاء المؤكد بأن – بالرغم مما حدث في حلبجة – صدام حسين قد تورط في شن حملة طوال أشهر عديدة من الإبادة الجماعية ضد الأكراد العراقيين وقتل فيها 50.000 أو 100.000 شخص أو أكثر. ووصف ذلك بأنه خدعة تفتقد إلى الوقائع ؛ وجاء شرحه كالآتي:

يمثل هذا الموضوع معضلة لعدم وجود أي ضحايا للغازات السامة. أما الواقعة الوحيدة التي تثبت أن الغاز قد استخدم فهي شهادات شهود عيان من الأكراد الذين هربوا إلى تركيا جمعها موظفي مجلس الشيوخ الأمريكي. ولقد أرينا تلك الشهادات لخبراء عسكريين ذكروا لنا أنها لا تحمل أي قيمة. أما الأعراض التي وصفها الأكراد فلا تتفق مع أي سلاح كيمياوي أو مجموعة من الأسلحة الكيمياوية. ذكر "بلتير" أيضا أن منظمات الإغاثة الدولية التي فحصت حالات اللاجئين الأكراد في تركيا قد فشلت في اكتشاف وجود أية غازات سامة.

ويعد "ميلتون فيورست" مفكراً مشككاً آخر، وهو مراسل الشرق الأوسط لمجلة "نيويوركر" ومؤلف لعدد كبير من الكتب، حيث أنه قد زار مناطق الأكراد في العراق عندما ظهرت على السطح ادعاءات استخدام الغازات السامة في عام 1988 وأقر بالآتي:

"مما رأيته ومن واقع مشاهداتي، استنتجت أن الغاز الفتاك إذا تم استخدامه فإنه لا يستخدم في الإبادة الجماعية فالأكراد يمثلون خمس السكان العراقيين وهم جماعة مترابطة للغاية. وإذا كانت هناك عملية قتل واسعة النطاق كانوا سيعلمون بها ويشهدوا للعالم كله على ذلك. ولكنني أو أي شخص غربي آخر لم نسمع بمثل تلك الادعاءات !".

وفي صميم الموضوع، ذكر فيورست أن "الصحفيين الذين زاروا مواقع الأكراد رأوا اللاجئين بقرح في الجلد ونظراتهم زائغة. وكما يبدو فهي أعراض تدل على تعرضهم للغازات السامة. وذكر أنها قد تكون أعراضا ناجمة عن غازات مسيلة للدموع قوية ولكنها ليست فتاكة."

وفي كتابه "قلاع الرمال" الذي صدر عام 1994 أضاف فيورست لتقريره:

"عندما عدت للمنزل تحدثت مع خبراء أكاديميين لم يستبعدوا بشكل قاطع استخدام الغاز ولكن كان أصوب شيء الاعتماد على رأيهم لأنهم كانوا متشككين. وحدها واشنطن وخاصة الكونجرس هم المتأكدون بالرغم من أن السفارة الأمريكية في بغداد (والتي كانت في أفضل موقع لمعرفة أهم الأحداث والاطلاع عليها) قد أصرت على القصة الأصلية وحيّر هذا الإصرار العراقيين أنفسهم.

وفي الكتاب المذكور نفسه وصف فيورست برنامج إعادة الاستيطان الخاص بالأكراد العراقيين فأوضح "أن صدام قد أرسل - بعد وقف إطلاق النيران – جيوشه لقمع عصيان الأكراد نهائياً، وأمر جيوشه بالوصول إلى الحدود الإيرانية وإخراج السكان الأكراد من الإقليم إلى بعد ثمانية أو عشرة أميال في العمق مع تحييد منطقة كان يستخدمها اللاجئون كملاذ."

"كانت أهداف صدام مفهومة ولكن الأهداف التكتيكية كانت وحشية. وقام الجيش بنسف عشرات القرى بالديناميت حتى تركوها أنقاضاً ونقل آلاف السكان من بيوت أجدادهم إلى قرى إعادة الاستيطان في داخل المنطقة الكردية."

في هذه العملية قام 60.000 كردي بعبور الحدود مع تركيا حيث ذكروا للصحفيين أنهم يهربون من الهجوم بالغازات، وأنكر العراقيين بغضب هذا الاتهام ولكن وزير الخارجية الأمريكي "شولتس" ادعى بأنها صحيحة، وأن لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ وبدون إجراء أية تحقيقات اقترحت مشروع قانون لفرض عقوبات مشددة على العراق. وأجج اللوبي الموالي "لإسرائيل" نيران الصراع وتمت الموافقة على القانون وتمريره. ولكن في معسكرات اللاجئين الأتراك كانت فرق الأطباء الدولية أكثر تشككاً بادعاءات اللاجئين وذكروا أن الفحوصات لم تؤكد استخدام الغاز على الإطلاق.

واجه كل من "بلتير" و"فيورست" الادعاءات الخاصة بإطلاق العراقيين للغازات السامة على الأكراد كونه كان المحور الرئيسي لادعاءات الإبادة الجماعية. فقد تحولت تلك الادعاءات إلى مزاعم بأن طرق قتل العراقيين تضمنت استخدام الغازات والنسف بالقنابل وإعدام أعداد كبيرة من الأكراد.

وهناك صوت معارض لذلك غريب جداً وهو خاص بوكالة الاستخبارات المركزية في ملف أكتوبر/تشرين الأول 2002 عن "برنامج أسلحة الدمار الشامل الخاص بالعراق". حدد هذا الملف عشرة حالات فقط لاستخدام العراق للأسلحة الكيمياوية، ولم يتم استعمال أياً منها ضد الأكراد وبشكل خاص خلال الحرب الإيرانية – العراقية. تمت الإشارة إلى سبعة هجومات استخدمت ضد الإيرانيين وثلاثة فقط كان ضحاياها من الإيرانيين والأكراد بما فيها حلبجة، ودعم هذا إدعاء العراق بأنه استخدم غاز الخردل فقط في العمليات الحربية ضد إيران.

والأهم من ذلك زعمت وكالة الاستخبارات المركزية إصابة 20.000 شخص ما بين قتيل وجريح في الحملة العراقية المزعومة ضد الأكراد، بعكس تأكيد منظمة حقوق الإنسان على وفاة 50.000 أو 100.000 شخص. إن تقديرات وكالة الاستخبارات المركزية يجب أن يتم تفسيرها كأرقام قصوى ممكنة.

تحليل تقارير عن الإبادة الجماعية:

أصدرت منظمة مراقبة حقوق الإنسان عدة تقارير تشكل العمود الفقري لموضوع الغازات السامة وادعاءات الإبادة الجماعية، وأن تقريرها الرئيسي كان عن "الإبادة الجماعية في العراق"، إضافة إلى تقرير عنوانه "حملة الأنفال ضد الأكراد" لمنظمة أطباء لحقوق الإنسان وهي منظمة أطباء ملحقة بمنظمة مراقبة حقوق الإنسان وتتعاون معها ولكن تقريرها ليس على أساس من البراهين وإنما واهي بشكل كبير ويتكون من لقاءات مع 350 من الأكراد في كردستان في عامي 1992 و1993 بعد أربع وخمس سنوات من وقوع الأحداث ونبش للقبور في ثلاث قرى وفحص وثائق حصل عليها المتمردون الأكراد من موظفي الحكومة العراقية الذين تم اعتقالهم.

إن البيئة السياسية التي تم في إطارها إجراء اللقاءات تتمثل كونها أجريت من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وهى بالطبع دولة تدعم بقوة حركة الأكراد وتتعاون مع ممثلي وزارة الخارجية الأمريكية ولجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وهذا ما يضعف من مصداقية كل ما تم ذكره عن اللاجئين. كان لدى الذين أجروا هذه اللقاءات الدوافع الكاملة لإرضاء منظمة مراقبة حقوق الإنسان التي كانت في وضع يتطلب منها مساعدة الأكراد ولم تجد للقيام بذلك سوى نشر تقارير عن تلك الجرائم الوحشية.

وما لا يصدقه عقل هو تأكيد تلك المنظمة على وقوع عمليات إبادة جماعية بالرغم من الصعوبة الشديدة في العثور على دليل مادي. ومن خلال نبش ثلاث مقابر تم إخراج 26 جثة لرجال وفتيان تم إعدامهم. بالفعل كان هذا عملاُ وحشيا ولكنهم تركوا 99.974 جثة لم يتم التعرف على ظروف وفاتها. كما أن هناك مقبرتان، وجد بهما جثث لعدة أفراد تم دفنهم على حدة وتوفوا لأسباب غير معروفة، الأمر الذي لم يقدم أي دليل يدعم المزاعم الخاصة بالإبادة الجماعية.

إن قول منظمة مراقبة حقوق الإنسان بأن حوالي مائة ألف شخص (99.974) تم نقلهم إلى مناطق بعيدة وإعدامهم رميا بالرصاص في مقابر جماعية، هذا القول ليس هناك ما يدعمه من أدلة. كما ادعت منظمة مراقبة حقوق الإنسان بأن القوات الإيرانية في حلبجة قد تمكنت من دفن 3.000 ضحية تحت طبقة رقيقة من الرمال في 16 مارس/آذار في مقابر جماعية في مجمع عنب، وبعد أربع سنوات كانت الجثث لا تزال هناك وقد بدأت في تلويث المياه الجوفية.

كيف علموا بذلك؟ إننا لا ندري، كما أنه لا توجد أية أدلة تثبت تلك الادعاءات.

وننتقل إلى سؤال المحلل السياسي الأقدم لوكالة الاستخبارات المركزية "ستيفين بلتير" حين قال، "إذا كان قد تم قتل 100.000 شخص فأين جثثهم؟"

 

هناك عدة أسباب أخرى للتشكيك في دقة تقارير منظمة مراقبة حقوق الإنسان:

1 - ثمة آخرون حققوا في الموقف ولم يصلوا إلى نتائج مماثلة عدا جماعتين أمريكيتين فقط هما (منظمة مراقبة حقوق الإنسان وأطباء تابعون لها) وهؤلاء يعملون مع أعداء صدام حسين الذين هم المعارضة الكردية والحكومة الأمريكية.

2 - بالرغم من أن تقرير كلية الحرب الذي يقع في تسعين صفحة هو في متناول عامة الشعب طوال ثلاث سنوات عندما نشرت منظمة مراقبة حقوق الإنسان تقريرها المعنون "الإبادة الجماعية في العراق" عام 1993 إلا أن التقييم الأول لم يذكر عنه شيء. ولم يهتم أحد بملاحظات "ميلتون فيورست" المتزامنة والمباشرة. كما لا يوجد تقييم جاد لأي تساؤل عن الأدلة المضادة للإبادة الجماعية.

3 - إن التقارير والكيفية التي تناولتها بها منظمة مراقبة حقوق الإنسان تظهر تحيزاً سياسياً مقصوداً لصالح حركة الأكراد في العراق. يصور تقرير "الإبادة الجماعية في العراق" الحكومة العراقية وسيادة الدولة العراقية التي يعترف بها العالم "كإدارة دمى". بينما عملت منظمة مراقبة حقوق الإنسان بقرب مع الاتحاد الوطني الكردستاني وهو أحد الجماعات المعارضة الأساسية.

4 - وبكل بساطة لا يوجد دليل على استخدام أي عنصر من المواد الكيمياوية كالغازات المسيلة للدموع وهى العناصر المحرم استخدامها قانونا أو حتى عنصر غير كيماوي يؤدي إلى حدوث أعراض من التي تم وصفها في تقارير منظمة مراقبة حقوق الإنسان. أما أفظع ما ذكره التقرير فهو أن الإصابات التي تم نقل وصفها عن الأكراد كانت تتماشى مع تعرضهم لغاز الخردل. وهذا ما يثبت الفشل التام في إدراك أية أسباب أخرى ممكنة. علاوة على ذلك، نحن نعلم وعلى حد قول "ستيفين بلتير" بأن غاز الخردل لا يقتل أعدادا كبيرة من الأفراد. وفي كل الأحوال كانت إيران أيضا قد استخدمت غاز الخردل.

وكمثل للاستنتاجات التي تم التوصل إليها بدون دليل مقنع – أو أي دليل مادي – هو ما يخص سبب أوردته منظمة مراقبة حقوق الإنسان في تقريرها "تدمير كوريم خلال حملة الأنفال". هذا التقرير يشرح عملية نبش القبور وإخراج جثتين زعموا أنهم قد قتلوا خلال هجوم بالأسلحة الكيمياوية في القرية الكردية برجيني. ومع ذلك تذكر المنظمة أن الفحص الهيكلي لعظام الجثتين اقتصر على تحديد ما إذا كانت هناك إصابة أو آثار تحيط بظروف الوفاة يمكن أن تتناقض مع ما قاله أهل القرية بأن المتوفيان قد تعرضا لأسلحة كيماوية. ولم توجد أية شواهد تدل على وفاتهما بسبب الأسلحة الكيمياوية، وفي الواقع لا توجد هناك أي علامة عن كيفية وفاة هذين الشخصين. ومن المحال استخدام هذا كدليل قاطع على شن هجوم بالأسلحة الكيمياوية.

5 - تظهر قرارات منظمة مراقبة حقوق الإنسان -المبالغة في إطلاق المزاعم- الميل للتأكيد على أن هناك أعدادا أكبر من الضحايا. وحدث تغير جذري في طبيعة هذا الإدعاء في تقرير عام 1993 تحت عنوان "الإبادة الجماعية في العراق" ادعت فيه المنظمة أن عدد الضحايا كان على الأقل 50.000 وقد يصل إلى 100.000 شخص. وفي عام 2003 ارتفع العدد فجأة إلى 100.000 شخص بشكل مؤكد. كما وحدث تغير في وصف الإصابة لجنس دون الآخر. مثلا في عام 1993 كان الكثير من الضحايا نساء وأطفال، أما في عام 2003 كان كل المائة ألف ضحية من الرجال والفتيان. وربما في عام 2003 أيضا تم نقل الرجال والفتيان إلى مناطق بعيدة وتم قتلهم رميا بالرصاص، ثم نقلت جثثهم إلى مقابر جماعية. ولم تذكر لنا منظمة مراقبة حقوق الإنسان إطلاقا لماذا لم تكن هناك جثث، سواء أكانت لذكور أم إناث لإثبات تلك المزاعم.

6 - في عدة مواقف، دعت تقارير منظمة مراقبة حقوق الإنسان بوضوح إلى أنه كانت هناك محرقة تماثل محرقة النازيين، وأن النظام العراقي أخفى أفعاله وسط استخدام العبارات الرقيقة وكان هناك توازي بين المحرقة والحملة المزعومة ضد الأكراد. إن اللجوء إلى هذا البئر العميق من المشاعر ضروري فقط عندما تكون الحقائق غير كافية للإقناع.

اعتمدت منظمة مراقبة حقوق الإنسان على وثائق الحكومة العراقية التي استولت عليها المعارضة الكردية. وتم حفظ هذه الوثائق داخل مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفارد. إن هذا المشروع - الذي يمثل تعاون المنظمة مع وزارة الخارجية الأمريكية- قد وضع عدداً من الوثائق في موقعه على الإنترنت، بعد إضافة عبارات مستفزة لتلك الوثائق مثل "الإعدام البيروقراطي" و "المغتصب المحترف" وذكروا في ذلك الموقع الإليكتروني بعض الادعاءات الوحشية وأهمية بعضها. ولكن ماذا لو تأملنا الوثيقة المعنونة : "الاعتراف باستخدام السلاح الكيمياوي" والتي يذكر فيها ما يلي:

من أمن شقلاوة، العدد 2034، التأريخ 10/5/1987 علمنا ما يلي:

"1 - قام العدو الإيراني بتزويد عائلات المخربين في القرى والأرياف الحدودية بعقاقير طبية وخاصة أدوية ضد المواد الكيمياوية ويتدربون على زرق الإبر التي تستعمل لهذا الغرض وكذلك التدريب على كيفية إرتداء أقنعة الوقاية في الرأس.

2 - يوجد هناك حوالي مائة مخرب من مختلف زمر التخريب في منطقة "ورته" التابعة لقضاء "الصِدّيق" على طريق "خانقاوه" وذلك لصدّ القوة التي ترافق ترحيل القرى، علماً بأن أغلب العوائل في تلك المنطقة قد غادروها إلى إيران.

يرجى تدقيق صحة المعلومات وإعلامنا خلال 24 ساعة لطفاً.

توقيع: رائد الأمن، مدير أمن شقلاوه."

وقد تم تفسير هذه الوثيقة كما يلي: "إن الوثيقة هامة للغاية لأنها تفسد أي ادعاء من قبل حكومة صدام حسين بأنها لم تستخدم الأسلحة الكيمياوية ضد الشعب الكردي. أما التاريخ ومصدر ونص الوثيقة فكانوا إثباتا لا يقبل الشك عن حملة الإبادة الجماعية التي يقوم بها النظام العراقي، والمعروفة "بالأنفال" ضد الأكراد. إن موضوع استخدام النظام العراقي للأسلحة الكيمياوية كجزء من حملة الأنفال قد انتشر للغاية، وكان لزاماً على الإيرانيين تزويد الأكراد بمواد تحميهم وتقيهم من المواد الكيمياوية.

بينما كان ذلك هو التفسير الممكن، يمكن أن تكون الوثيقة إما: (1) تقريراً للواقع أو (2) تحذيراً من أن الإيرانيين إستخدموا أيضا تلك الغازات (مواد مميتة أو غاز الخردل) وقد أنتجوا مواد طبية وثياباً واقية لكل من يساندهم، ويمكن أن يعدوا أنفسهم لشن هجوم كيماوي. إننا لا ندري حقاً ومن السخف أن نقدس هذه الوثيقة الهينة عن "الموافقة على استخدام الأسلحة الكيمياوية من قبل العراق".

ادعاءات عن استخدام غازات الأعصاب:

إن الأطباء التابعين لمنظمة مراقبة حقوق الإنسان والذين تعاونوا مع منظمتهم قد أصدروا عدداً من التقارير كانت معظم إدعاءاتهم فيها مماثلة للتقارير الصادرة عن منظمة مراقبة حقوق الإنسان وهى خاضعة لنفس الاعتراضات.

أحد هذه التقارير هام للغاية ويتطلب فحصاً مشخصاً وهو بعنوان "غازات الأعصاب المستخدمة في شمالي العراق ضد الأكراد" وصدر في 29 إبريل/مايس 1993.

ووفقا لهذا التقرير "قام فريق من الأطباء التابعين لمنظمة مراقبة حقوق الإنسان بجمع عينات من التربة في 10 يونيو/حزيران 1992 من فجوات حدثت بسبب انفجار قنابل بالقرب من قرية برجيني الكردية شمالي العراق ادعى فيه أن الجيش العراقي قام بإلقاء قنابل على برجيني في 25 أغسطس/آب 1988. وتم تحليل تلك العينات بواسطة مختبر بريطاني والذي أقر بوجود دليل قاطع لبقايا من حوامض ميثايل فوسفونك وآيزوبروبايل ميثايل فوسفونك ومنتجات مشتقة من غاز الخردل. فحامض ميثايل فوسفونك هو ناتج عن التفاعل مع الماء وليس من الغازات أو المواد المؤثرة على الأعصاب، أما حامض آيزوبروبايل ميثايل فوسفونك (والذي أطلق عليه التقرير بشكل خاطئ اسم حامض آيزي بروبايل ميثايل فوسفونك) هو مادة ناتجة عن تفاعل الماء مع السارين."

إذا اعتبرنا أن العينات صحيحة والظروف المناسبة (فى حالة وجودها) للتفاعل بالماء كانت متاحة، تكون هذه النتيجة هامة. حيث يمكن للسارين أن يكون عاملا في وقوع وفيات لأربعة أفراد من قرية برجيني وقد أعلن ذلك في نفس اليوم.

ومع ذلك فإن السارين ليس له رائحة، ووفقا لمنظمة مراقبة حقوق الإنسان، ذكر سكان القرية أنهم قد شمّوا روائح مختلفة ومحددة بعد القصف بالقنابل. قالوا: كانت الرائحة طيبة فى البداية مثل رائحة التفاح أو شيء حلو المذاق، ثم تحولت إلى رائحة تشبه رائحة مبيد الحشرات فى الحقول، ثم أصبحت كريهه للغاية. وللموافقة على هذا التقرير يكون من الممكن القول أن العراق قد خلط السارين وغاز الخردل معاً أو مع عنصر ثالث، كما ذكر كاتبوا التقرير وجود ثلاث موجات لأربع قنابل، وكلها كانت تبدو متطابقة.

وتدعي مصادر أخرى أن العراق قد استخدم غاز الأعصاب. فتقول وكالة الاستخبارات المركزية أن العراق استخدمه ست مرات: خمس مرات ضد القوات الإيرانية والمرة السادسة في حلبجة ضد الإيرانيين والأكراد. وتتضمن ست مرات أو أربع منها على الأقل استخدام غاز التابون الخام وليس السارين، وزعموا أن تلك العناصر التي استخدمت في الحالتين الأخيرتين لم يتم تحديدهما. ذكر "ريك فرانكونا"، وهو ضابط أمريكي متقاعد باستخبارات القوات الجوية وعمل كضابط إتصال حول الجيش العراقي، بأن تلك الوقائع قد حدثت أربع مرات في عام 1988.

مساندون آخرون لادعاءات وقوع عمليات إبادة جماعية:

هناك آخرون تبنوا إدعاءات ومزاعم وقوع عمليات إبادة جماعية، على رأسهم "جيفرى جولدبرج" الذي كتب قصة في 18 ألف كلمة أسماها: "الرعب الأكبر" في 25 مارس/آذار 2002 ، وصدرت عن مجلة "نيويوركر"، ووضعت على الموقع الإليكتروني لوزارة الخارجية الأمريكية عن عمليات الإبادة الجماعية المزعومة. فقصة "جولدبرج" مليئة بالأحداث المثيرة حيث ذكر من خلالها على سبيل المثال، أن امرأة تدعى "حميدة محمود" ماتت وهى ترضع طفلتها ابنة العامين، ثم ذكر قول منظمة مراقبة حقوق الإنسان "إن حملات الهجوم التي شنها صدام حسين على مواطنيه تؤكد أن هذا هو الزمن الوحيد منذ محرقة النازيين الذي استخدم فيه الغاز السام لإفناء النساء والأطفال".

ولم يذكر "جولدبرج" لقرائه، أنه مزدوج الجنسية ويحمل جنسيته "الإسرائيلية" بجانب الجنسية الأمريكية، وكان يعمل في قوات الدفاع "الإسرائيلية" قبل ذلك بعدة سنوات أو أنه تجاهل عن عمد تقرير كلية الحرب والذي بالطبع طرح نتائج أخرى لم تكن على هواه.

وبتفصيلات غريبة إتبع "جولدبرج" ما ذكرته منظمة مراقبة حقوق الإنسان عن حلبجة وأكد أن العراقيين قد أسقطوا وابلاً من قنابل الغاز على المدينة الكردية بعد أن سيطر عليها الجيش الإيراني بالرغم من أن الإيرانيين لم يذكروا أي إصابات بالغاز.

كما أن هناك جزء مهما من سرد "جولدبرج" لم يكن مناسباً على الإطلاق له ولكل من ساند الإدعاء بقيام العراقيين بارتكاب عمليات إبادة جماعية ضد الأكراد، وهو أن الأكراد فى رواياتهم ذكروا أنهم أصيبوا بقرح جلدية وفى بعض الأحيان سقط منهم قتلى على الفور بسبب غاز الخردل على الرغم من أن غاز الخردل لا يظهر أعراضاً فورية.

ووفقا لمذكرة واقعية صدرت في ديسمبر/كانون الأول 2002 من وزارة الصحة البريطانية "إن غاز الخردل عادة لا يسبب ألماً وقت التعرض له، وقد يتأخر ظهور الأعراض لأربع أو ست ساعات، وفى بعض الأحيان تظهر على الفور أعراض مثل: الغثيان، الدوار، القيء وألم بالعين".

وبالمثل ذكرت مراكز الولايات المتحدة للسيطرة على الأمراض أن "غاز الخردل يحرق الجلد ويسبب قرحاً خلال أيام قليلة". وقد وافقت مصادر أخرى على ذلك.

وعلى نحو مثير، تم زج قصة "جولدبرج" على الفور في حملة إدارة بوش ووضعت مقالته في قسم "الحقائق" في مجلة نيويوركر. ويمكن تفسيرها كجزء من الحملة الأمريكية – الإسرائيلية المشتركة ضد صدام حسين حيث يدعم "جولدبرج" بحماس شديد فكرة الإطاحة بصدام.

أما "كرستين جوسدن" وهي أستاذه فى علم الوراثة الطبية فى جامعة ليفربول البريطانية، فكانت مدافعة عن تلك الادعاءات رغم أنها قد بدأت تهتم بذلك فقط بعد زيارتها لحلبجة عام 1998. إنها مؤمنة حقا بالوضع السائد هناك فى تلك السنوات العليلة وحولت نفسها إلى خبيرة فى الإرهاب وأيدت ذلك أمام الكونجرس. ثم شاركت فى تأليف عمل ظهر مؤخراً (وهو شديد الإثارة) مع الصهيوني المعروف "مايك أميتاي" المدير التنفيذي لمعهد واشنطن للأكراد.

لم تقم "جوسدن" بإضافة أي دليل لفهمنا للوقائع سوى أنها رفعت عدد إجمالي الوفيات إلى 200 قتيل علاوة على أنها أضافت استخدام أسلحة بيولوجية وإشعاعية لقائمة العناصر التي يزعمون أنها قد استخدمت بواسطة النظام العراقي ضد الأكراد.

هناك خبير انتقد بشدة ادعاءات "جوسدن" هو "د. جوردون براثر" وهو عالم بالفيزياء النووية كان سكرتيراً مساعداً للجيش الأمريكي للعلوم والتكنولوجيا في فترة رئاسة الرئيس الأمريكي ريجان والذي أدلى به بنفسه عن المواد الكيمياوية حينئذ لما كان يضطلع به من مسؤوليات وبصيرة نفاذة في ذلك العالم، وأكد "براثر" في تعليقه التالي على ادعاءات الإبادة الجماعية كرد منه على مزاعم الدكتورة "جوسدن":

(إن تأكيد الدكتورة "جوسدن" بأن 280 قرية قد قصفت بالغازات السامة ما هي إلا مزحة وكان لزاماً عليكم أن تعرفوها دون مراجعة الحقائق. لقد كانت هناك مئات القرى على الحدود العراقية قد أزالتها بغداد ولكن المقيمين فيها تم نقلهم لقرى جديدة تم بناؤها خصيصاً لهم فى الداخل (داخل البلاد في المنطقة الكردية). وتمت دعوة الصحفيين الغربيين لتلك الأماكن ليشاهدوا عن كثب تلك العملية، بما فيهم "كارين اليوت هاوس" التى تعمل في "وول ستريت جورنال" وهي الآن رئيسة لمجلة "دو جونز" الدولية).

كما وأن هناك "جوين روبرتس" وهو مراسل التليفزيون البريطاني الذي زار معسكرات اللاجئين الأكراد في عام 1988. لقد دخل "روبرتس" أيضا الإقليم العراقي وأخذ معه بقايا قنابل وجد بها المختبر البريطاني أجزاء من غاز الخردل. ولكن "روبرتس" لم يحدد على الإطلاق من أين أحضر تلك البقايا، ومن المعروف أن إيران والعراق لديهما غاز الخردل.

لقد كان أغرب تقرير قدمه "روبرتس" عما أسماه بالمذبحة في شمال العراق في 29 أغسطس/آب 1988، وراح ضحيتها كما هو مفترض من 1.500 إلى 4.000 قتيل معظمهم من النساء والأطفال قتلوا جميعاً بواسطة مزيج من غازات الأعصاب المختلفة. ولقد تم تفسير عدم وجود الجثث بأن الجنود العراقيين قد أحرقوها بينما هم كانوا يرتدون أقنعة واقية على وجوههم.

ونعود مرة أخرى إلى "ستيفن بلتير"، محلل وكالة الاستخبارات المركزية، حيث يقول أن الجيش الأمريكي قد درس بدقة تلك التقارير ووجد أنها تفتقد إلى المصداقية والأساس السليم.

ويضيف "ستيفن بلتير" في تعليقه على تقرير منظمة مراقبة حقوق الإنسان الأمريكية بأنه مرعب جداً. كما وأضاف يقول، "هناك إيمان راسخ كما أنا أؤمن به اليوم من أن ما حدث في حلبجة لم يحدث بالطريقة التي وصفها تقرير منظمة مراقبة حقوق الإنسان الأمريكية، وأن هذه المسألة حساسة جداً حالياً". وأضاف يقول، "نحن نقول بأن صدام وحشي ومهووس لأنه قتل أبناء شعبه بالغازات السامة وأن العالم يجب أن لا يتحمله، ولكن السؤال هو لماذا؟ والجواب هو لأن ذلك هو الجدل الأخير الذي تستخدمه الولايات المتحدة لشن الحرب على العراق."

كما يقول تقرير المخابرات المركزية الأمريكية عن أسلحة الدمار الشامل العراقية والذي نشر في أكتوبر/تشرين الأول 2002 أن هناك فقط دليل على أن المئات قد قتلوا في حلبجة في مارس/آذار 1988، وأن غاز الخردل وغاز الأعصاب فقط قد استخدما من قبل العراقيين. يبدو من ذلك أن المخابرات المركزية الأمريكية تساند الآن ما جاء بتقرير كلية الحرب الأمريكية الذي أصدرته في إبريل/نيسان 1990 من أن عنصراً في الدم يعتمد على السيانيد وليس غاز الخردل أو غاز أعصاب هو ما قتل الأكراد في حلبجة. كما أنه لا يوجد هناك في تقرير المخابرات المركزية الأمريكية ما يشير إلى أنه كان هناك هجوم بالأسلحة الكيمياوية على 40 قرية عراقية كردية كما يشير تقرير منظمة مراقبة حقوق الإنسان الأمريكية وادعاءات الجماعات الكردية.

وفي 3 مايو/مايس 1990، أشارت صحيفة "الواشنطن بوست" إلى دراسة أخرى تقول فيها أنه في عملية إحياء وتقييم للمراحل النهائية للحرب العراقية الإيرانية أجرتها وزارة الدفاع الأمريكية أجمع فيها المحللون من أن المعلومات المخابراتية الحاسمة تؤكد أن ما حدث في حلبجة هو أحد أسوأ المذابح المدنية في الحرب العراقية الإيرانية، والتي كان سببها استعمال القذائف الكيمياوية من كلا الجانبين المتحاربين.

هذا وكتب "روجر تريلينغ" في صحيفة Village Voice الأسبوعية بعددها الصادر في 1-7/5/2002 معلقاً على التقرير الذي نشرته منظمة مراقبة حقوق الإنسان الأمريكية في الفصل الخاص بالأسلحة الكيمياوية من أن ذلك الفصل كان مخصصاً للتكتيكات العسكرية العراقية، باستثناء جملة واحدة تسترعي الانتباه تقول: "أن عنصرا خاصا بالدم (كلوريد السيانوجين) كان مسئولاً ظاهرياً عن غالبية الاستعمال سيئ السمعة للمواد الكيمياوية في الحرب، ألا وهو قتل الأكراد في حلبجة. وبما أنه ليس لدى العراقيين أي تأريخ عن استخدام هذه المادة، في حين كان للإيرانيين ذلك، فإننا نستنتج أن الإيرانيين هم من ارتكبوا ذلك الهجوم."

والنتائج أعلاه التي توصلت إليها وزارة الدفاع الأمريكية تفرض الآن سؤالاً ملحاً عن أسباب المبالغة التي أدت بمنظمة مراقبة حقوق الإنسان الأمريكية والجماعات الكردية إلى تحميل العراق مسئولية وفاة المئات من الأكراد العراقيين نساء وأطفال وعجائز ممن يقال انهم قضوا نحبهم في حلبجة.

هل هناك دليل قوي على ذلك؟

تم العثور في المنطقة على مقبرة بها 26 (أو 27) جثة لأفراد أطلق عليهم النار، ولم يصابوا بأي مادة كيماوية؛ وبقايا نوعين من الغاز فى موقع واحد به أربعة أفراد متوفين. هذا كل ما فى الأمر.

لا يمكن إلا لشخص يسهل خداعه فقط أن يجد فى هذا دليل كاف للإبادة الجماعية.

ورغم تشكيكات الخبراء الواردة أعلاه، وبعد سنوات من حملة قادتها لحساب القيادات الكردية شركات العلاقات العامة بالتعاون والتنسيق مع المخابرات الصهيونية تم تسويق موضوع "الإبادة الجماعية" للأكراد على المجتمع الدولي.