عندما تراجعت الأنوثة في مجتمعاتنا البشرية

د. هاشم عبود الموسوي

بمناسبة عيد المرأة العالمي

حلت بنا الوحشية والحروب

د. هاشم عبود الموسوي

أستطيع أن أجزم بأن الوجود بمجملهِ قد أتى من تفاعل بين عنصرين رئيسيين، إنه ليس الذكر والأنثى بالذات، بَلْ الأحرى أن نقول أنهما عنصرا (الفحولة) و (الأنوثة).

والعنف على سبيل المثال هو عنصر ذكوري في الإنسان حتى لو قامت به أنثى، وهناك البُخل وهو عنصر أنثوي حتى لو إذا كان البخيل رجلاً، فأين البُخل من الرجولة؟ إنني أتناول عنصري الفحولة والأنوثة كعناصر وقوى مجردة. وكما نعرف أن كل ذكر فيه نسبة معينة من الأنوثة، وأن كل أنثى فيها نسبة ما من الفحولة زادت أم نقصت، وأعتقد أن العنصرين المذكورين هما العنصران الأساسيان في هذا الكون، الأنوثة والفحولة، المانح والمستقبِل (بكسر الباء) الفعال الدافع العنيف والمستقطب الساكن الهادئ(1).

تعتبر نظرية باخوفن حول (حق الأم) التي صدرت عام (1681م) أول وأهم نظرية درست مكانة المرأة وسلطتها في المجتمعات القديمة. وقد اعتبر باخوفن أن السلطة التي تمتعت بها المرأة في العصور الغابرة كانت حقاً طبيعياً لها، لأن الأنثى هي الأصل. وبالرغم من أن المرأة أضعف من الرجل فسيولوجياً، إلا أنها احتلت في الأزمنة الغابرة مكانة اجتماعية واقتصادية ودينية عالية في العائلة والمجتمع والسلطة وبذلك انتصرت على قوة الرجل الفسيولوجية، وذلك لأن المرأة، تتماثل مع الطبيعة والأرض، فهي أصل الخصوبة وإنتاج الحياة. كما أن الزراعة كما يشير باخوفن، قامت على اكتاف الشعوب الأمومية، لأن الأنثى تقلد الأرض، والزواج إنما يمثل منذ أقدم الأزمنة علاقة زراعية بين الأم والأب. وأن مبدأ الزراعة هو الذي رفع الأنثى إلى رمزٍ مقدس(2).

والحقيقة أن نظرية باخوفن كانت قد حددت عام (1861م) بدء تاريخ العائلة، وهو العام الذي صدر فيه كتاب (حق الأم) لباخوفن. وقد أشار أنجلز في كتابه (أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة) إلى أن هذا الحدث انما يعني (ثورة كاملة)(3).

مكانة المرأة في العصور القديمة

تركت لنا الحضارات القديمة في وادي الرافدين منذ العصر الحجري الحديث )النيوليتي) عدداً مهماً هاماً من المعلومات الأثرية كالتماثيل والرقم الطينية والرموز والأساطير والملاحم التي كانت تعبيراً عن الديانات الزراعية الأولى التي تمحورت حول إلهة واحدة أطلقوا عليها (الأم الكبرى( أو (سيدة الطبيعة) التي تظهر في أغلب الأماكن على شكل امرأة حبلى أو مرضعة أو امرأة عارية الصدر وهي تمسك بثديها بكفها في وضع عطاء تارة، وترفع بيدها الثانية باقة من سنابل القمح أو باسطة ذراعيها في وضع من يستعد لاحتواء العالم تارة أخرى، أو راكبة ظهور الحيوانات المفترسة.

والعصر الحجري الحديث هو العصر الذي اكتشف فيه الإنسان الزراعة وتدجين الحيوانات وظهور أولى القرى الزراعية وتطور صناعة الفخار وظهور الآلات الحجرية المصقولة الذي استمر حوالي ثلاثة آلاف سنة، أي في الفترة الزمنية الممتدة بين (5000-8000 ق.م.) التي تعتبر طفرة في تاريخ التطور البشري، وهي الفترة التي يفترض فيها أن المرأة كانت قد احتلت مكانة عالية في أغلب المجتمعات البشرية القديمة(4).

حدثت بدايات الثورة الزراعية في شمال وادي الرافدين وفي الأراضي الفلسطينية، كما في حضارة جرمو(5) فالنساء اللواتي قمن بجمع الحبوب والفواكه تعلمن غرس البذور في التربة للحصول على ما يكفي لمعيشتهن. لقد خلفت الزراعة أول شكل من أشكال ‌)اقتصاد الوفرة) الذي وفر الطعام للعائلة البشرية. كما تعلمت المرأة تدجين الحيوانات والسيطرة عليها ومن ثم عمل الأواني الفخارية لحفظ الطعام، إضافةً إلى استخدام الأواني الطينية والحجرية وكذلك استعمال الأدوات الحجرية المصقوله في قطع الأشجار وغيرها(6).

لقد كانت الزراعه عاملاً مهماً في نشر وتداول واتساع عبادة الآلهة الأم التي ارتفعت إلى مستوى التقديس وأصبحت الأم هي سبب اخصاب الأرض لأن القدسية تكمن في صفات الاخصاب والحمل والولادة، التي هي من اختصاص المرأة وحدها. وتظهر إحدى الدمى الطينية للآلهة الأم والتي اكشفت في تل حسونة بوضوح الأعضاء الأنثويه البارزه.

وتأتي أهمية فكرة الخصوبة عند المرأة من أهمية التكاثر الذي يعتبر جوهر حياه الإنسان المادية والروحيه وكذلك من الزراعه الي تعتمد على خصوبة الأرض، وأخذ الإنسان يربط بين الخصوبة والمرأة التي تزرع الأرض وترعاها. وبذلك تحولت الخصوبه إلى رمز مقدس تمثلها المرأه الأم ثم الإلهة حيث لم يكن الرجل يعرف دوره في الإخصاب، إلا بعد أن تعرف على دور المطر في اخصاب الأرض والزراعه(7). وقد أشارت معظم الأساطير القديمه وفي جميع الحضارات التي تعود في تاريخها إلى العصر الحجري الحديث إلى وجود علاقه ثنائيه بين الأرض والمرأة وبين المرأة والقمر، مثلما هناك علاقة بين الشمس والقمر. والعلاقة الأقوى نجدها بين المرأه والقمر، التي تكشف عن حقيقة واحده ومبدأ واحد هو أن القمر من أديم الأرض وجزء تابع له. ولكون القمر من القوى الغيبية الغامضه التي أثارت رهبه الإنسان وروعه وخيالاته وكذلك رغبته في الكشف عن أسراره، فقد توجه الإنسان إليه بالتقديس ولم يتوجه إلى الشمس، التي لم تثر في نفس الإنسان التساؤل والخيال، ولأن الشمس أكثر ثباتاً وانتظاماً ورتابةً، في الوقت الذي يكون فيه القمر اكثر حركة وتألقاً وتغيراً وتغييراً. فالقمر يدور في حركة أزلية هي أشبه بحركة الطبيعة في تغير فصولها مثل الأنثى في دورتها الشهرية الأزلية. ولهذا اعتبر الإنسان القمر أُنثى كونية، وهو في ذات الوقت الأم الكبرى، والدة الكون وواهبة الحياة. وهكذا ساد الاعتقاد بأن القمر أنثى وأنه يجسد الآلهة الأنثى أو الأم الكبرى، مثلما ساد الاعتقاد بأن القمر هو الذي ينفخ الحياة في أرحام النساء(8).

ومن الملاحظ أن أغلب التماثيل والمنحوتات والرموز التي اكتشفت في الشرق القديم عموماً وفي بلاد الرافدين خصوصاً جاءت على شكل إلهة أنثوية ترمز إلى الأم الكبرى التي أُطلق عليها اسم (عشتار)، أو (أنانا) أو ‌)تيامات). وفي كنعان أُطلق عليها عشتروت وفي مصر ايزيس وعند الأغريق ارتميس وفي روما القديمة افروديت وديانا وفينوس وفي الجزيرة العربية اللات والعزى ومناة. وما زالت خصوبة الأرض في المجتمعات الزراعية مقترنة بخصوبة النساء.

وعشتار في وادي الرافدين هي الإلهة الأم وهي الأخت والحبيبة والزوجة، وهي ربة الحياة ومنبع الخصوبة، وهي في ذات الوقت، رمز الدمار والهلاك. فهي ربة الحرب والحب وسمير اللذة، وهي القمر وكوكب الزهرة ، وهي البتول الطاهرة والبغي المقدسة في آن واحد.

تقول عشتار:

أنا الأول، وأنا الآخر

أنا البغي، وأنا القديسة

أنا الزوجة، وأنا العذراء

أنا الأم، وأنا الإبنه .. إلخ

إن أهمية عشتار تعكس مكانة المرأة التي كانت تحتلها دينياً واجتماعياً واقتصادياً. فقد كانت موضع رغبة واحترام وتقديس. فمن جسدها نشأت الحياه ومن صدرها انبثق نبع الحياة.

وقد اتفق أغلب الاثنولوجيين على أن الديانة التي سادت في العصر الحجري الحديث الأول كانت ديانة زراعية ارتبطت بالطبيعة. وكان جوهر تلك الديانات البدائية هو تقديس المرأة، وهذه القدسية إنما تعبر في الحقيقة عن المكانة الاجتماعية والدينية العالية التي كانت تتمتع بها المرأة انذاك.

وقد عزز الدور الاقتصادي الذي حملته المرأة على عاتقها منذ البداية دورها ومكانتها الاجتماعية والدينية العالية، حيث كانت المرأة المسؤول الأول عن الاستقرار، والمُنتج الأول للغذاء ورعاية الأطفال والدفاع عنهم وتأمين سُبل العيش والحماية لهم، في الوقت الذي ما زال فيه الرجل صياداً أو راعياً للمواشي وليس له دور متميز في العائلة. فالمرأة هي أول من اكتشف الزراعة وأول من صنع الأواني الفخارية وأول من دَجَّن الحيوانات الأليفة. كما تميزت المرأة عن الرجل بخصائص أُخرى وذلك بسبب دورها كأم تحمل وتلد وتربي الأطفال وترعاهم وتحميهم. ولهذا كانت المرأة ومنذ البداية مسالمة وضد العنف دوماً.

الإنقلاب على مكانة المرأة وسلطتها الدينية

إن تطور الزراعة والرعي والاستقرار في حواضر زراعية، وتشكل التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية وتطور مُلكية الأرض والمواشي، كانت قد ساعدت الرجال في السيطرة على وسائل الإنتاج الجديدة. فمع بداية الألف الخامس ق.م. توصل الرجال إلى اكتشاف المعادن وتطويعها واستعمالها في صناعة الأدوات المختلفة وخاصة المحراث وتسخير الثيران في حرث الحقول الكبيرة إضافة إلى ترويض المواشي التي اصبحت تكفي لسد حاجة الناس من اللحوم، في الوقت الذي كانت فيه النساء تزرع الأرض بأيديهن. وبعد امتلاك الرجال قطعاناً كبيرة من الماشية لم يعودوا صيادين، بل استقروا في أماكن ثابتة. وهكذا توسعت القرى لتصبح مدناً كبيرة تضم الرعاة والصيادين والفلاحين، وأخذ الرجال من الآن يتولون مقاليد الأمور، وبدأ الانقلاب الفعلي على سلطة المرأة من قبل الرجال، الذين استخرجوا المعادن من باطن الأرض وطوعوها وطوروا الزراعة وامتلكوا المواشي واكتشفوا المحراث ثم العجلة التي أصبحت وسيلة فعالة لصناعة الأواني الفخارية ومن ثم تطور صناعة الأسلحة والأدوات ذات الطابع الرجولي كالرمح والفأس والمطرقة والسكين التي تتفق مع القوة العضلية للرجال. ومذاك حولوا القرية الزراعية إلى مدينة وجعلوا المعبد مر كزاً لها(9).

كما تطورت الحياة الدينية بالتدرج مع سيطرة الرجال على وسائل الإنتاج. فبجوار الإلهة الأم ظهر الأله الأب والأله الأبن، وأصبح أب السماء في نفس أهمية أم الأرض، وقام بالتدرج بإزاحة دور المرأة المركزي من الحياة الدينية وهكذا حَلّت المأساة الكُبرى.

وهكذا يؤكد لنا التاريخ بأن المجتمع الذكوري (القبيلة) هجمت على المجتمع الأنثوي (القرية الزراعية أو المدينة) فجرى العنف والإكراه وسالت الدماء، لكن في النهاية أنتج ذلك إخصاباً مُعيناً ظهر على شكل حياة جديدة أو مجتمع جديد ذي علاقات وثقافة ولغة وروح جديدة، باختصار أنه إنتماء وهوية جديدة.

واليوم فأن المجتمعات التي تعيش في ظل طبيعة اقتصادية صعبة (وأستطيع أن أجزم بأن أكثر مجتمعاتنا العربية الحالية اليوم هي منها)، تتطلب العمل الشاق والعضلات والعنف شئنا أم أبينا فأن شأن الأنوثة فيها يتناقص. وهناك نماذج لا حصر لها يتدنى فيها شأن المرأة والأنوثة إلى الحضيض، وقد تُعامل معاملة الأنعام فتُضرب وتُقتل لأبسط الأسباب. أما في المُدن المُرفهة والمتقدمة اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، حيث تتجمع الثروات البشرية والمادية، فهناك تفقد القوة العضلية قيمتها ويُصبح التفوق رهناً باللسان والحكمة بل وحتى بالمكر والدهاء والتصنع، ولطالما تفوقت المرأة في تلك الميادين لدرجة أنها سادت وعُبدت فساد التقزز والنفور من كل أنواعه الفحولة والعضلات والحركة والعنف. وهاهي المجتمعات الغربية اليوم شاهدة حية على سيطرة الأنوثة (الأنوثة وليس بالضرورة المرأة). هناك أكثر التيارات الثقافية والرغبات العامة والتيارات الاجتماعية والأعراف والقوانين تكون لصالح الأنوثة.

المصادر

1-  د.هاشم عبود الموسوي، المرأة في الشرائع القديمة لحضارات وادي الرافدين، مقالة نُشرت على موقع مركز النور الإلكتروني، 17/11/2012، www.alnoor.se/article.asp?id=177733

2-  Bachofen, Das Mutterrecht, Frankfurt,m,1980

3-  إبراهيم الحيدري، النظام الأبوي وإشكالية الجنس عند العرب، دار الساقي، بيروت، 2003.

4-  كافين رايلي، النظام الأمومي والنظام الأبوي، ترجمة عبد الوهاب المسيري، عالم المعرفة، الكويت، Kuwait culture org، خزعل الماجدي، أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ، عمان 1997، ص27.

5-  خزعل الماجدي، نفس المصدر، ص78-79.

6-  كافين رايلي، نفس المصدر.

7-  خزعل الماجدي، نفس المصدر، ص90-121.

8-  إبراهيم الحيدري، أثنولوجيا الفنون التقليدية، دار الحوار 1884، ص 103 و ص125.

9-  كافين رايلي، نفس المصدر.