قناعات وعقائد واحتياجات..ومشاريع في ظل التهاوي والهيمنة

قناعات وعقائد واحتياجات..

ومشاريع في ظل التهاوي والهيمنة

د. سماح هدايا

هل ستنجح الجهود العالمية في تذويب فكرة الكفاح المسلّح بحجة الإرهاب وتهديد السلم الأهلي؟ وهل يحصل تفكيك بنية الجهاد في سبيل الحرية والحق والعدل وهي جوهر المعتقد الديني الإسلامي وجزء من الثقافة العربيّة؟ وكيف يمكن إلغاء إيمان إنسان بعد أن رسخ فيه اليقين؟

 الإيمان لا يتغيّر. اسمه إيمان.. ولا يكون إيمانا إلا عندما يصبح يقينا. وأيا كانت الحجة في تسويغ إلغاء عقائد الناس؛ فهي لن تلقى نجاحا. مايلقى النجاح هو الاعتراف ببدهيّة الإيمان وإدراك طبيعة المعتقدات وصقلها وتنقيتها من شوائب الجهل والتبعية وتحريرها من الجمود والتقليد. وكل محاولات احتواء الرؤى المبنيّة على الإيمان وحرفها عن اصلها التاريخي والوجداني، مهما حققت نجاحا، فلن تغير جوهر الرؤية وبنيتها؛ لأن الإيمان العريق تجذر فيها. لذلك لا يمكن بسهولة اقتلاع الإيمان العميق. والاعتقاد بنجاح إلغاء عقائد الآخرين من خلال إعادة تشكيل الوعي والإيمان؛ لكي يحملا طابعا جديدا دخيلا لا جذور له وجدانية واقعية؛ خطأ فكري كبير؛ لأنه يريد للفكر أن يخوض التجارب الجديدة من منظور آخر لا يمت للنسيج الأصل بصلة. وهو أيضا خطيئة إنسانيّة، لأنّه تدخّل في الجينات الوراثية الفكرية بما يناسب مناظير دخيلة تلغي المكونات الأصليّة.

الثورات العربّيّة ، وخصوصا الثورة السورّية، قامت لأهداف الحرية والكرامة والعدل. وحوربت منذ اللحظة الأولى باسم العمالة والإرهاب الإسلامي. ومع تفاعل الأمور، أصبح من أهم تداعياتها علو الأصوات المعارضة والأجنبية التي تهاجم الثورات وتتهمها بالإرهاب..واتسعت دائرة الهجوم على الإسلام والعروبة تحت حجج ومسوغات كثيرة، لعل أهمها الانحرافات الكبيرة في الأطروحات العروبية والإسلامية وممارساتها....

 وظهرت محاولات كثيرة، للعمل تحت مسميات مختلفة، على لصق تهمة الإرهاب بالثورة والإسلام، والعنصرية بالعروبة، وذلك لفصل الثورة عن مشروعيتها التاريخية والشّعبيّة، ولفصل كل من الإسلام وبالتحديد الإسلام غير الشيعي، والعروبة عن المخيلة الثقافية للناس. وتكوين بدائل آخرى بمسميات عالمية برّاقة من خلال مشاريع خيرية لها صبغة العولمة القيميّة والحقوقيّة، ولها في الباطن أهداف استعماريّة سياسية وفكرية وثقاقية وحقوقية وهي مدعومة بقوة المال ومنتجات الحداثة والمدنيّة.. ولعل على رأسها مشاريع محاربة العنف والإرهاب والتعصب، ورعاية السلم الأهلي، والدفاع عن حقوق الأقليات وحقوق المرأة وحقوق الشباب والأطفال ونشر التسامح.

 لا يمكن تجاهل مافي هذه المحاولات الناعمة ومافي أهدافها من اختراق حقيقي خطير، لا يخلو من التجسس وحماية المصالح الاستعمارية وتمزيق النسيج المحتمعي. وللأسف كان لها مؤيدون في الساحة السوريّة، فكأن وعاءنا الثقافي الوجداني قد نضب من القيم التبيلة حتى نصبح عاجزين عن الاستلهام، ويلزمنا استنساخ القيم التي يصدّرها الآخرون كحلول لمأزق حضاري وسياسي في المجتمع العربي، وهي ليست اكثر من مواد معلّبة في ماركات مسجلة لحساباتهم. قد أظهرت وقائع الثورات ومايحدث في حواشيها أنّ حالة نقص تسيطر على البعض، فيفقد الإيمان بالجوهر الثقافي التاريخي والمجتمعي، وأن ضعفا في الالتزام الذاتي والأخلاقي والمجتمعي والوطني شائع، وقصور وعي في ممارسة القيم.

 وجداننا التاريخي والثقافي لا يخلو من منظومة القيم الراقية؛ لكن المشكلة الكبيرة أنها مجمّدة في عطالة بعيدا عن التطوير، أو مخزّنة في غبار الماضي من دون تهذيب وتنظيف وتنقية. ونحن نحتاج في مشروع ثورتنا إلى الثقة بطاقاتنا وإخراجها من الأدراج والخزائن وتنويرها، بدل التهديم العشوانئ الفوضوي للذات واستصغارها واحتقار شأنها.

 مصطلح اللاعنف أداة تستخدمها مشاريع التمويل الخيري، مستغلة مخاوف كثيرين وأوهامهم، فترفع راية السلم ومحاربة الإرهاب وشعارات التسامح، وتخص بهم المنخرطين في الثورة أو المرتبطين بها، أو المحسوبين عليها، وذلك للتدخل السياسي وللتلاعب في نسيج المجتمع وسيره. وفي المقابل..فإنّ التسامح قيمة كبرى ومعنى مهم في الثقافة العربية والإسلام؛ لكنّه تسامح القوي لا خضوع الضعيف، إذ يجب أن يقترن بالكرامة والقوة. لأنّ الدفاع عن حقوق الحياة والكرامة والحرية قد يتطلب العنف والقتال..ّ ونيل المطالب يكون بالكفاح؛ فما الحاجة لاستيراد مشاريع اللاعنف، وكثير من مصطلحات العولمة لكي تكون بديلا عن مصطلحات قيمنا؟

حملات التمويل الإنساني المدني تلتقط بذكاء مشاكل الشباب من العاديين والمحبطين ومشاكل النساء من العاديات والمنكوبات وتتبنى القضايا المهمة، وتعبر المسافات الجغرفيّة والثقافيّة لتقدم المساعدة؛ كّأن محتمعاتها لا تعاني من كثير المشاكل ؛ مثل التمييز العنصري والديني والعنف تجاه المرأة والأطفال والاستغلال الاقتصادي الطبقي والجريمة والعنف. وكأنّ ديمقراطيّة بلادها التي يفتخرون بها جاءت هكذا، بسهولة، على طبق من نعيم، وماتأسست على الحروب والصراعات وخوض المتناقضات بالدماء.. ومهما حاول الإعلام العالمي إبراز الجانب المضيء لهذه الدول وإنجازاتها وتعتيم الجانب المظلم لويلاتها؛ فالمشاكل كثيرة ولا يمكن تجاهلها. والأولى ، لمن كان مهتما بحقوق الإنسان والعدالة أن يبدأ بحل المشاكل الاجتماعيّة والاقتصادية قبل أن يستعرض بها على الشعوب الأخرى.

 جاءت هذه الحملات ضمن سياسات مرسومة في بلادها، وفي مراكز القرار السياسي والأمني لتنفيذ مخططات ومآرب لحماية مصالح دولها الحالية والمستقبلية. وقد تتقاطع بعض أهداف حملات التمويل في الدول المانحة مع احتباجات المجتمع المدني ومقهوريه في الدول الممنوحة في بعض الأعمال والأنشطة، لكن ذلك لا يخلو من مخاطر كبيرة تتمثل في التجسس وفي تتبع تطور المجتمع سياسيا واقتصاديا وفكريا وثقافيا واجتماعيّا من أجل احتوائها في خططها لاستصدار القرار الذاتي للشعب والأمّة والتحكم به ليدور في فلكها..

ما لديهم من قناعات قد لا يكون ملبيا لاحتياجات الآخرين وقد لا يكون بالضرورة صحيحا أو ملائما لهم. لأن الناس مختلقون في احتياجاتهم وفي رؤاهم وثقاقاتهم وعقائدهم. ولذلك من غير العدل فرضها عليهم؛ وهم في النهاية لن يستطيعوا تغيير العقل والوجدان. وسيستمر الشعب العربي في نضاله، خصوصا بعد انكشاف هذه التيارات وأغراض حملاتها. هناك إيمان رسّخه الدم المسفوك بأن لا يمكن العودة إلى الوراء وإلى تسامح الضعفاء وسذاجة العقول. ولن يعلم الشعوب العربيّة أحد أكثر مما تتعلمه وتعلمته من تجاربها في التاريخ والواقع والثورة. فهل سيعلمونها الإنصاف والعدل والحريّة وهم كانوا يدعمون أنظمة الاستبداد والظلم والإرهاب.

 إن هذه التمويلات مساع غير شفافة وتجاريّة ونخبوية واستعلائيّة، يسيطر عليها منطق إقصاء المخالف، وتصنيف الناس بين إرهابي وغير إرهابي. وتوجه وعظي فوقي ونخبوي.. إنها أداة للعب في عملية التحوّل التاريخي لكي تكون ملائمة لها وليست ضد مصالحها. وإلا فليقوموا بأنشطة تستجيب للاحتياجات الإنسانيّة الملحة والضرورية الآن؛ مثل المشافي الميدانية، الملاجىء الصحيّة لإيواء المشردين والنازحين، المصانع الكبيرة لتشغيل النساء المنكوبات. المشاريع الزراعية الواسعة لإطعام الجائعين والممكوبين...

 لا يمكن الحديث عن مساعي حيادية لبناء مجتمع مدني مثالي مسالم وسط هذه الوحشية الفظيعة. وسيكون الإخفاق مصير كل المساعي التي تنادي بسلم غير منصف وغير عادل، وتضرب أهم ركائز البناء المجتمعي وهو العدل والحق والحريّة وتمزّق روح الجماعة واللحمة الوطنيّة، ولا تراعي حقوق الوطن كله وعلى قائمتها رد حقوق أغلبية المجتمع المقموعة ..