أغلال الثقافة وإكراهات المجتمع

أغلال الثقافة وإكراهات المجتمع

د. خالص جلبي

[email protected]

نحن نولد مسجونين بحكم مؤبد في قفص البايولوجيا، مربوطين الى سلاسل النسبية للبعد الرابع (الزمن)، أسرى في أغلال الثقافة واكراهات المجتمع.

نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلناأمثالهم تبديلا.

ندخل أجسادنا فنتسربل فيها محكومين بالجينات تشكل قدرنا من صحة ومرض وجمال وعرض وتشوه واستقامة.

هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

فأما (الجينات) فهي الشيفرة السرية للخلق، تعطينا لون العينين وطول القامة وقسمات الوجه ولحن الصوت والزمرة الدموية والاستعداد لمرض السكري والزهايمر والعته الشيخوخي والميل للتسرطن وخلل فقر الدم المنجلي، كما تحدد طول العمر من خلال ساعة مبرمجة على رنين منبه الموت مع كل انقسام كرموسومي.

خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير.

نحن سجناء عالم بيولوجي بقفل أثقل من نجم نتروني في قدر لافكاك منه.

علينا أن نتنفس والا اختنقنا. أن نأكل ونشرب والا هلكنا. وأن نمارس الجنس والا انقرضنا. يطحننا المرض وتفترسنا الشيخوخة، نحيا ونموت، نتألم ونسعد،  نخاف ونغضب في عواطف سيطرت على قدرنا.

علينا أن نمشي على الأرض  كي تبنى عظامنا وتترمم فتقسو، محكومين بقانون الجاذبية فلانستطيع الانتقال بسرعة الضوء، في استحالة رباعية يفرضها قانون النسبية، باستهلاك طاقة لانهائية، وتوقف كامل في مربع الزمن وانضغاطنا إلى الصفر وزيادة وزننا بقدر الكون وأكثر.

 نحن نرزح تحت ثقل قوانين الفيزياء، تحكم بقبضتها على رقابنا في أغلال الى الأذقان فهم مقمحون. 

نحن نأتي الى الحياة  بدون ارادتنا، ونخرج منها بدون ارادتنا ورغبتنا،  بعد أن ذقنا حلاوتها، في نقطة ضعف تسلل منها الجبارون لمسك رقاب العباد بالخوف من الموت والتهديد بفقدان الحياة.

نحن نولد في (عصر) نعيش ثقافته، لانتحكم في وقت المجيء اليه ولا في ثانية واحدة منه تقديماً وتأخيراً، تدفعنا يد جبارة الى مسرح الأحداث الدوارة؛ فنشارك على خشبة مسرح  عظيم غير مرئي، ثم ينتهي دورنا فنمضي وندلف الى مستودعات النسيان فلاتسمع لهم ركزا.

اعتبر الفيلسوف الفرنسي (باسكال) أن الانسان يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية، فهو كل شيء إذا قيس بالعدم، كما أنه لاشيء اذا قيس باللانهاية، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين؛ فنهاية الأشياء وأصلها يلفهما سر لاسبيل الى استكناهه، فأحدنا عاجز عن رؤية العدم الذي خرج منه وهو أعمى عن اللانهائي الذي يغمره وإليه المصير؟ 

نحن لانستطيع ركوب آلة الزمن فنعود الى زمن الانبياء، كما لايمكن القفز فوق حاجز الزمن فنعيش بعد ألف سنة.

نحن محكومين بأجل لافكاك منه، وزمن نعيشه مفروض علينا، لايخترق الا بطريقة واحدة: الخيال.

هكذا تصور دافنشي الطائرة، وكتب جول فيرن قصة عشرين ألف فرسخ تحت الماء، وفكر الفارابي في المدينة الفاضلة، وتصور ابن طفيل حي بن يقظان، ورفض المسيح عليه السلام مملكة بيلاطس بقوله: مملكتي ليست من هذا العالم.

نحن أسرى (ثقافة) تبرمجنا وننتسب الى حوض معرفي يشكل عقليتنا، ويمنحنا الدين الذي نمارس طقوسه، ويشكل شجرة المعرفة عندنا محروسة بلهيب نار  وسيف يتقلب.

نحن نستحم فنخلع كل ملابسنا، ولكننا في الشارع نلبس كل الملابس. تحت مفهوم اجتماعي هو ستر العورة.

المجتمع يمنحنا الدين فنعتنقه؛ فمن يولد في بافاريا في جنوب ألمانيا قد يخرج كاثوليكاً، ومن يولد في طوكيو قد يكون من جماعة سوجو جاكا البوذية، ومن يولد في جنوب العراق قد يكون شيعيا من أنصار مقتدى الصدر، ومن يولد في نجد السعودية قد يكون سلفيا وهابيا.

كذلك كان الانتساب الى منطقة ما قدراً ندفع فيه الثمن من مصائرنا؛ فمن يولد في رواندا في تسعينات القرن العشرين يهرس كموزة في حقل ويطير حلقه بضربة ساطور ومنجل، أو يمشي بساق خشبية وذراع معدنية وعين صناعية من ولد في افغانستان مع كارثة السوفيات والأمريكان، ومن كان ألبانياً في كوسوفو يخسر كل شيء ليقرر مصيره أساطين السياسة في لوكسمبرغ  أو لاحقا بمحكمة لاهاي في عام 2010 للميلاد، أو يعتلي صهوة سيارة جيمس في الخليج، ترجع رفاهيته الى صدفة جيولوجية بحتة أكثر من عرق الجبين والكفاءة والتحصيل العلمي؟

ومن يحالفه سوء الحظ فيولد في بعض مناطق العالم العربي من الجملوكيات قد يكون رهين الاعتقال، مهان الجنان، مكسور الأسنان مطحون العظام، يعس في الحبوس ويرفع على الفلق...

وقل أعوذ برب الفلق؟

لايرى خروجاً من ظلماتٍ بعضها فوق بعض، في حالة استعصاء ثقافية بدون أمل في الخروج من النفق المسدود إلا بيد الأمريكان والشيطان؟ لايستطيع فتح فمه الا عند طبيب الاسنان، أو هارباً خارج وطنه بجواز سفر من الارجنتين أو الدومينيكان، أو لاجيء سياسي في السويد وفرنسا وبلاد الجرمان، أو مهاجر كندي إذا أسعفه الحظ والمال، أو قد يكون من السعداء النجباء من شريحة الـ 5% من المافيا والعصابة له كل البلد له كل المال، وكل الامتيازات، في جمهورية الرفاق الثورية، يساق له رزقه رغداً بالعشي والابكار، في بلد أضحت مزرعة له ولعائلته وذراريه من بعده إلى يوم الدين... بكلمة أدق إلى يوم الزلزلة؟؟.

مع هذا فإن هامش الحركة في (المكان) و (الفكر) و (اللغة) أفضل من البيولوجيا؛ فقد يفر عراقي الى بريطانيا مبدلاً وطنه كما حصل مع أبو كمران، وقد يعتننق فنان بريطاني الاسلام مغيراً عقيدته كما في كات ستيفان، كما قد يتعلم طبيب أردني يختص في الغرب اللغة الألمانية كما مع الدكتور شريعة بنيان، ويرتفع الانسان بالعلم بدون حدود فيتخلص من الطبقة والفقر، كما حصل مع عمو خاروف (حمادة) الفنان، كما كانت تسميه ابنتي له وهو يجرب أبحاثه على الخرفان، في مدينة جيسن من بلاد الجرمان، ثم يضرب ضربته مع أبحاث الاستنساخ فيصبح أستاذا جامعيا في الزارلاند قريا من الفرنسيسكان ..

نحن نظن أننا أحرار في المجتمع، وهذا أكبر من هلوسة؛ فنحن في الواقع مكبلين بأشد من أصفاد اليدين والرجلين؛ فالوسط ينحت لغة الطفل في تلافيف الدماغ.

وآباؤنا يحددون لنا القدر البيولوجي لأجسادنا ومعها المجال مفتوحاً لكل الاحتمالات والاستعدادات.

والمجتمع يهبنا المعادلة الاجتماعية بعد البيولوجية فيجعل من الفرد بشراً سوياً، أو قردا خاسئا كما في جملوكيات الرعب والبطالة؟

كما يفرض علينا المجتمع السلوك السوي، ويعاقبنا إذا خرجنا عن القانون بأشد من معاملة الدجاج، وهي تبصر الدم في دجاجةٍ مجروحةٍ فتنقرها حتى الموت؟!

وعندما يشذ الفرد عن القطيع يعامل بالسخرية والاذى والاتهام بالجنون والنفي على ثلاث أشكال: فإما نفاه من ظهر الأرض الى قبر السجن كما حصل معي أربع مرات، ومن دفء الجماعة الى برد العزلة، أومن شاطيء الحياة الى سفينة الأموات مع أنوبيس في العالم السفلي.

إذن هامش الحرية كما نرى كالصراط يوم القيامة أرفع من الشعرة وأحدّ من السيف، ونحن نعيش إكراهات متتالية من المهد حتى اللحد، في قبضة الجينات، وزنزانة الزمن، وقفص الثقافة، ومعتقل المجتمع.

إنه كلام محبط أليس كذلك ؟؟

تمهل قليلا فالصورة ما زال فيها بعض الإضاءة ولكنها واقعية جدا..  

مع هذا فلايتقدم المجتمع الا بهامش الحرية الضئيل هذا من خيال الأفراد المبدعين، يتجاوزون بخيال مجنح إشكاليات القضبان والمعتقلات، فيتنسم في حديقة الدماغ رؤى المستقبل في إمكانيات جديدة واختراعات مبتكرة ونشأة محدثة في تطور سفر الانسان.

وعند هذه الزاوية الضيقة تتشكل جدلية الحركة بين ثبات المجتمع وتطوره كعلاقات تشريحية وحركته كفيزيولوجيا نامية قلوبة.

العقارب تعيش على ظهر البسيطة بدون تغير يذكر في نمط حياتها منذ 400 مليون سنة، ولكن الحيوانات محكومة بنسيج فولاذي آسر للتصرفات، تعيد دورة إنتاج نفسها بدون أي تقدم، مثل القطار المحكوم بالمشي على القضبان لايخرج منها الى لمواجهة حادث مروع.

وحيوان العجل يمشي بعد الولادة بساعات، والارانب تنضج في شهر فتسعى، والقطط تبقى على حليب أمها زمنا قصيرا.

ويبقى الانسان الكائن الوحيد الأضعف طراً في مملكة الحيوان، ولكن الفرد يمتص خلال سنوات قليلة خبرة كل الجنس البشري المتراكمة في ثلاثة ملايين من السنين؛ فينطق ويحمل الكراهيات وأخطاء الثقافة من خلال ثلاث لغات متتالية (سيميائية) من تكشيرة الوجوه وحركات اليدين و(صوتية) بالصراخ أو الاستحسان، وثالثة بـ (الكتابة) وهي القشرة السطحية لنقل النظام المعرفي، وتبقى الطبقات الكتيمة العفوية من التشكل الاركيولوجي الثقافي خلف الكثير من سلوكنا اليومي.

نحن والحيوانات نعيش على ظهر الأرض منذ ملايين السنين، ولكن الانسان وضع قدمه على القمر، وفتت الزمن إلى الفيمتو ثانية، وبرد المادة حتى قاربت الصفر المطلق 273,15 تحت صفر الثلج، وفهم منظومة النطق بعلم الألسنيات، ويعرف عن تاريخ الفراعنة وزمن بناء الأهرامات أكثر من كهنة خوفو وخفرع ومنقرع، ويعرف عمر الأرض بتقنية النظائر المشعة أنها 4,6 مليار سنة، وامتلك أعتى الأسحلة بما يمكن أن يفني نسله ويمحو أثره، ويتكلم مع أخيه بالصورة والصوت  بسرعة الضوء في المعمورة المضاءة بالنت والكمبيوتر، ونزلت مراكبه على سطح المريخ، ويرسو اليوم على ظهر الكروموسومات؛ فيكتشف أسرار الشيفرة السرية للوراثة وتصرفاته الحافلة بالأسرار، ويعرف أن 95% من حركة الانسان يقودها ( لاوعي ) أعمى.

ثقب العين صغير ومنه يرى الانسان العالم، ومن هذا الثقب لايرى الا الضوء العادي في شق ضيق من عالم فسيح من طيف الموجات، مايرى منه عشر معشار ما  لايرى.

لم يكن غريباُ أن أقسم القرآن على ماتبصرون ومالاتبصرون.

مع كل هذه المحدودية للرؤية فإنه يفهم قوانين الكون ويطور ببصيرته بصره؛ فيرى توهجاً لامعاً للنجوم من عمق المحيط الكون على مسافة تسعة مليارات سنة ضوئية.

الانسان كمبيوتر مختزل لكل الوجود في داخله، يحمل إمكانيات تطور بدون توقف، فيه شريحة كمبيوترية من روح الله تهبه الخلود، مزود بوثيقة وكالة عامة من الخالق لاستخلاف الكون؛ فالكون كله مسخر له بسنة لاتحيد ولا تبيد .

كان الفيلسوف إقبال يناجي ربه حزيناً: يارب هذا الكون لايعجبني؟؟

فيأتيه الجواب من الرب: اهدمه وابن أفضل منه .