وقفة مراجعة مع الدعاة الجدد

وقفة مراجعة مع الدعاة الجدد

وأنموذج عمرو خالد

نجدت لاطة

[email protected]

 منذ سنين وأنا أدرس ظاهرة الدعاة الجدد، وقد تبيّن لي أن هناك نمطين من الدعاة، الأول: يمثله الأستاذ عمرو خالد، ومعه دعاة شباب يحملون وعياً كبيراً بمستجدات العصر، وهم يظهرون في القنوات الفضائية أيضاً. الثاني: يمثله بقية الدعاة الجدد المعروفين.

 فكنت أتابع ما يقوم به الأستاذ عمرو خالد في العمل الدعوي، وأراقب في الوقت نفسه الجمهور الذي يتابعه ويحضر محاضراته حين يأتي إلى الأردن. وكنت أتابع أيضاً الدعاة الجدد حين يأتون إلى الأردن ويلقون محاضراتهم، وأراقب أيضاً جمهورهم الذي يحضر لهم.. فكنت ألاحظ بوناً شاسعاً بين الأعداد التي تحضر محاضرات الأستاذ عمرو خالد، وبين الأعداد التي تحضر محاضرات الدعاة الجدد، ويمكن القول إن عدد الجمهور الذي يحضر للأستاذ عمرو خالد يتجاوز عشرة أضعاف ما يحضر لأكبر داعية جديد.

 فقلت مرةً لأحد الدعاة الجدد: هل تعرف ما الفرق بين الدعاة الجدد وبين الأستاذ عمرو خالد؟ ولماذا تحضر جماهير كثيرة إلى محاضرات عمرو خالد بعكس عدد جمهور الدعاة الجدد؟ فقال لي: لا يوجد فرق، نحن ندعو الناس وهو يدعو الناس، ولكن الأستاذ عمرو خالد موفّق في أسلوب طرحه. فقلت له: الأمر ليس كذلك، وإنما يكمن السبب في أن الأستاذ عمرو خالد يخاطب الملتزمين وغير الملتزمين، وأنتم تخاطبون الملتزمين فقط، والملتزمون قلة في المجتمع، وغير الملتزمين كثر، فيحضر الملتزمون وغير الملتزمين إلى محاضرات عمرو خالد، ولا يحضر لمحاضرات الدعاة الجدد إلا الملتزمون، لذا نجد في جمهور الأستاذ عمرو خالد الفتيات السافرات، ونجد الشباب غير الملتزم، وهذا يظهر من هيئة هؤلاء الشباب في لباسهم وقصّات شعورهم، وهذا شيء رأيته بعيني مرّات كثيرة حين كان الأستاذ عمرو خالد يزور الأردن ويلقي محاضراته. أما جمهور الدعاة الجدد فلا نجد فيهم فتاة سافرة، ولا شاباً غير ملتزم.

 فقال لي الداعية الجديد: إذاً نحن نهتمّ بالملتزمين، وعمرو خالد يهتمّ بغير الملتزمين. فقلت له: الدعوة اليوم بحاجة لمثل عمرو خالد أكثر من حاجتها إلى نمط الدعاة الجدد، لأن معظم الناس اليوم هم من غير الملتزمين، وقد تصل نسبة هؤلاء غير الملتزمين في كثير من المجتمعات الإسلامية إلى تسعين بالمائة تقريباً، فحين يهتمّ داعية واحد بهؤلاء التسعين بالمائة، ويهتمّ بقية الدعاة بالعشرة بالمائة تفشل الدعوة ولا تنجح، وهذا ما نراه في الواقع، فالدعوة لم تستطع استقطاب الجماهير العريضة. فوجود داعية واحد متخصص بالجماهير غير الملتزمة لا يكفي، وإنما نحتاج إلى عشرات من الدعاة مثل عمرو خالد في دعوة غير الملتزمين.

 فقال لي الداعية الجديد: فمَن سيهتمّ بالملتزمين؟ ومن سينمّي التزامهم ويقوّي إيمانهم؟ فقلت له: جمهور عمرو خالد ليس من غير الملتزمين فقط، وإنما نصفه من الملتزمين والنصف الآخر من غير الملتزمين. لأن هناك أعداداً كبيرة من الملتزمين تتابع عمرو خالد في مشاريعه الدعوية كمشروع (صنّاع الحياة) مثلاً، ويوجد مع هؤلاء الملتزمين أعداد أخرى من غير الملتزمين، يشاركون ويتفاعلون مع هذه المشاريع، جنباً إلى جنب مع الملتزمين، وشيئاً فشيئاً نجد غير الملتزمين أصبحوا من الملتزمين قولاً وعملاً وشكلاً ومضموناً، وهنا تكمن أهمية عمرو خالد في العمل الدعوي الحالي.

 والمتابع للسيرة النبوية يلحظ بوضوح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعطي جزءاً كبيراً من وقته في دعوة الناس إلى الإسلام، فكان يلتقي بالوفود القادمة إلى مكة والمدينة المنورة، فيعرض عليها الإسلام ويعلمها تعاليم الدين الجديد. وفي الوقت نفسه كان يهتمّ بالصحابة، فيقوّي إيمانهم ويزيدهم فهماً لتعاليم دينهم. فالرسول صلى الله عليهم وسلم كان يقسّم وقته بين الاهتمام بالصحابة (أي الملتزمين) وبين غير المسلمين لتبليغهم دعوة الإسلام.. وإلا فكيف دخلت الناس في دين الله أفواجاً؟

 إذاً فالاهتمام بالملتزمين وغير الملتزمين هو سمة الداعية الناجح، وتاريخنا الطويل شهد مثل هذه النماذج التي وجّهت خطابها إلى الملتزمين وغير الملتزمين، أي إلى كافة الناس. وأضرب مثالاً قريباً في عصرنا الحديث، وأعني بذلك إمام الدعاة حسن البنا رحمه الله، فمن المعروف أن الإمام حسن البنا بدأ دعوته من المقاهي، أي لم يبدأ من المساجد كما هي عادة الدعاة التقليديين، لأن المساجد فيها أناس ملتزمون، فعلى الأقل هم ملتزمون بأهم شعيرة من شعائر الإسلام وهي الصلاة التي هي عمود الدين، أما المقاهي ففيها ـ في الغالب ـ غير الملتزمين، لا سيما أن المقاهي في زمن الإمام حسن البنا كانت أكبر التجمعات التي يأتي إليها الناس، فيقضون أوقاتهم في لعب النرد والورق (الكوتشينة) وشرب الأركيلة (الشيشة) وغير ذلك.. وروّاد المقاهي آنذاك فيهم المثقف والطبيب والأديب والمدرّس والأمّي والعامي وسائر شرائح المجتمع. فاستطاع الإمام حسن البنا أن ينقل هؤلاء الناس ـ غير الملتزمين ـ إلى المساجد.. ثم تابع تربيتهم في المساجد. ومن هؤلاء ظهر جيل الإخوان المسلمين الذي حمل على عاتقه عبء الدعوة في العصر الحديث كله في شتى البقاع والأصقاع.

 وقد يسأل سائل: ما هي الموضوعات التي كان يتحدث بها الإمام حسن البنا في المقاهي والتي جذبت الناس إليه؟ فأقول: من المعروف أنه كان يوجد في كل مقهى حكواتي يقصّ على الناس قصص عنترة بن شداد والزير سالم وريا وسكينة وشفيقة ومتولي.. فجاء الإمام حسن البنا وتحدث لهم عن خالد بن الوليد وبطولاته في معاركه الكبرى، وتحدث عن القعقاع بن عمرو وضرار بن الأزور وأبي محجن الثقفي وسائر الفرسان من الصحابة، وتحدث لهم أيضاً عن صلاح الدين الأيوبي وغيره من الأبطال الذين امتلأت بهم كتب التاريخ الإسلامي.. وكان الإمام حسن البنا يمزج الوعظ والإرشاد بتلك القصص.. فكانت النتيجة أن الناس تعلّقوا بالإمام حسن البنا وبأحاديثه.

 أعود إلى الأستاذ عمرو خالد.. وأتساءل: هل كان أسلوبه الشيّق وراء نجاحه كما ذكر الداعية الجديد؟ فأجيب: إن أسلوبه لعب دوراً لا بأس به في نجاحه، ولكن هناك ما هو أهم من ذلك، فقد كان ما يطرحه الأستاذ عمرو خالد قريباً من واقع الناس، فكان كلامه يصل إلى قلوب عامة الناس، وكان الشباب غير الملتزم والفتيات غير الملتزمات يشعرون بقربهم من الأستاذ عمرو خالد، فلا يجدون غضاضةً بحضور محاضراته، أو الوقوف معه ومناقشته، أو طرح مشكلاتهم عليه. وأذكر مرةً رأيت فيها الأستاذ عمرو خالد واقفاً مع فتاة سافرة يتناقش معها، فاقتربت منه لأسلم عليه، وبعد أن انتهى منها قلت له على الفور: أنا كلما رأيتك تقف مع الفتيات غير الملتزمات أفرح كثيراً، فضحك، وتابعت كلامي: لأن هؤلاء غير الملتزمات هن اللواتي بحاجة إلى دعوتك أولاً، وهذا يعني أنك داعية ناجح، فضحك مرة أخرى.

 فالشباب غير الملتزم والفتيات غير الملتزمات الذين التفوا حول الأستاذ عمرو خالد كانوا يشعرون بأن هذا الداعية (يطبطب) عليهم، ويحنو عليهم، ويأخذ بأيديهم برفق نحو التديّن.

 والداعية الناجح ينزل في خطابه إلى المستوى الإيماني لدى عامة الناس، ويحاول أن يرفعهم إلى مستوى أفضل، وهو ما يفعله الأستاذ عمرو خالد تماماً مع جمهوره الذي يمتد من دول الخليج إلى بلاد المغرب العربي، بل وحتى إلى الجاليات في أوروبا وأمريكا.

 وإن من الأساليب الدعوية الناجحة التي استخدمها الأستاذ عمرو خالد والتي جعلته أقرب إلى عامة الناس أننا نجده يذهب إلى مصحّة مدمني المخدرات ويرشدهم ويأخذ بأيديهم إلى التوبة والعمل الصالح، بل نجده يلعب معهم كرة القدم، كنوع من كسر الحاجز بينه وبينهم، فيشعر هؤلاء المدمنون بارتياح عجيب إلى هذا الإنسان الذي يأخذ بأيديهم بعدما لفظهم المجتمع في هذه المصحة.

 ونجد الأستاذ عمرو خالد أيضاً يناقش في القنوات الفضائية قضية البطالة ويعقد لها مؤتمرات، فيأتي إليه المسؤولون الحكوميون وبعض المسؤولين في الأمم المتحدة وبعض الاقتصاديين والتجار ويتفاعلون معه في حلّ هذه المشكلة المتفاقمة في المجتمع العربي. فعامة الناس ارتاحت إلى هذا الطرح الإسلامي الجديد الذي يجمع بين الوعظ الديني وبين حل المشكلات المعيشية والحياتية للناس.

 أما الدعاة الجدد، فعلى كثرة عددهم، لم أجد أحداً منهم واقفاً مع فتاة سافرة أو شاباً غير ملتزم، بل لم أجد فتاةً سافرةً واحدةً في كل المحاضرات التي يلقيها الدعاة الجدد.

 ولم أجد أيضاً أحداً من الدعاة الجدد طرح مشكلة البطالة أو مشكلة المخدرات أو مشكلة العنوسة أو غيرها من المشكلات التي تهمّ واقع الناس المعيشي والحياتي.. وكل الذي وجدته منهم أنهم وعاظ دينيون، فهذا يحكي قصص الأنبياء، والثاني يقص أحداث السيرة النبوية، والثالث يحكي قصص الصحابة، والرابع يفتي، والخامس يتحدث عن العبادات، دون أدنى ربط حكيم بحياة الناس اليوم.. فواقع الناس وحياتهم اليومية في سائر نواحيها ليس في أبجديات الدعاة الجدد، فيشعر الواحد منا أنهم دعاة يجلسون في أبراج عاجية ويتحدثون بموضوعات لا تمت إلى واقع الناس بصلة، وبالتالي لا نجد تجاوباً من عامة الناس مع هؤلاء الدعاة الجدد.

 وإن من الحكمة في الدعوة أن نُنزل من تعاليم ديننا على مجتمعاتنا بالقدر الذي تتحمله هذه المجتمعات، فلو أن مجتمعاً لا يحتمل من تعاليم الإسلام في وقته الراهن إلا خمسين بالمائة، فإن من الحكمة أن نُنزل من تعاليم الإسلام على هذا المجتمع خمسين بالمائة. ولو أن مجتمعاً آخر لا يحتمل من تعاليم الإسلام إلا عشرين بالمائة فمن الحكمة أن نُنزل من تعاليم الإسلام عشرين بالمائة.. وشيئاً فشيئاً، وخطوة فخطوة، نستطيع أن نزيد من تعاليم الإسلام. وهذا هو أسلوب التدرّج الذي نجده واضحاً في القرآن الكريم، وفي السيرة النبوية الشريفة.

 والأستاذ عمرو خالد يطبّق ذلك تماماً، فهو يُنزل من تعاليم الإسلام ما تحتمله مجتمعاتنا الإسلامية الحالية، فيأتيهم بالترغيب أكثر مما يأتيهم بالترهيب، ويبتعد كلياً عن استخدام ألفاظ التحريم والمحرمات، ولا يذكر الأمور المستحدثة التي لا يستطيع كثير من الناس تركها، فمثلاً الأستاذ عمرو خالد لا يذكر الأفلام والمسلسلات والأغاني في محاضراته، أي لا يذكر أنها حرام، وفي الوقت نفسه لا يبيحها ولا يدعو إليها، لأن غير الملتزمين لا يستطيعون أن يبدأوا حياتهم في الالتزام بترك هذه المستجدات الجديدة والتي تعلقوا بها بشكل كبير، بل وصارت جزءاً من حياتهم اليومية، فمَن من الناس (وأعني غير الملتزمين) يستطيع أن يحذف من حياته مشاهدة الأفلام والمسلسلات والفيديو كليبات الغنائية؟ ولكن حين يلتزم الإنسان بالصلاة ويبدأ بالقيام ببعض الطاعات يستطيع شيئاً فشيئاً أن يحذف من حياته تلك المستجدات التي تعلّق بها.

 بمعنى آخر، إن عرض الالتزام على الناس لا يبدأ بذكر المحرمات، ولا بذكر مما تعلّق بها الناس من محرمات جديدة، والله تعالى قدّم الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر. فعرض الالتزام يبدأ بذكر الطاعات وضرورتها في حياة المسلم. وممارسة تلك الطاعات تضفي ـ فيما بعد ـ ظلالها وأجواءها على حياة المسلم فيبتعد عن المحرمات (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) أي أنه سيدرك فيما بعد أن تلك المحرمات لا تليق بحياة الالتزام.

 أما الدعاة الجدد فكثيراً ما رأيتهم وسمعتهم يحرّمون المستجدات الجديدة على الملأ من الناس، في القنوات الفضائية وفي المحاضرات وفي المساجد وفي كل مكان يتواجدون فيه، فينفر الناس من الالتزام. فمثلاً قال أحد هؤلاء الدعاة في إحدى القنوات الفضائية عن الفنانين (أي الممثلين) أنهم قوّادون. وقال داعية آخر: إن كلمة (الفنان) تعني في اللغة العربية الحمار، وهو يريد الاستهزاء بالفنانين. وكان داعية ثالث يتحدث في قناة فضائية عن التدخين فأتى بصورة كلب يدخّن سيجارة، ومكتوب في داخل الصورة على لسان الكلب: إذا كنت أنا حيواناً لا أفهم وأدخن.. فلماذا تدخن أنت أيها الإنسان؟ فهل هذه الأساليب الفجة ترغّب الإنسان غير الملتزم بالالتزام؟ وهل هذه الأساليب تُعتبر من الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة؟ إن تنفيراً هائلاً يمارسه كثير من الدعاة الجدد وهم لا يشعرون، مع أن الدعوة اليوم بحاجة إلى استخدام أفضل الأساليب وأحسنها وأَلْيَنِها لدعوة الناس إلى الالتزام والتديّن، لأن أهل الباطل تفننوا في تزيين الشهوات والمعاصي بشكل لا مثيل له من قبل، فمن غير المعقول أن يأتي الداعية ويستخدم أسوء الأساليب في دعوة الناس!!

 وأذكر مرةً أن أحد الدعاة الجدد جاء إلى الأردن وليس له همّ إلا أن يُحرّم الموسيقى على الناس، فألقى محاضرة في ذلك، وتحدث عن تحريم الموسيقى في إذاعة (حياة إف إم) التابعة للحركة الإسلامية في الأردن، بل إنه طلب من إدارة الإذاعة أن تحذف الفواصل الموسيقية بين البرامج. وهو لا يقصد تحريم الموسيقى المرافقة للأغاني فحسب، وإنما يقصد تحريم حتى الموسيقى المرافقة للأناشيد الإسلامية، كتلك الأناشيد التي ينشدها سامي يوسف وموسى مصطفى وعبد القادر قوزع وأحمد الهاجري ويحيى حوى وبقية المنشدين.. فهل من الحكمة أن نحرّم على الناس سماع سامي يوسف؟ وهل من الحكمة أن نقول عن المنشدين أنهم أصبحوا مطربين وليسوا منشدين بسبب استخدامهم الموسيقى؟ ألم يتفق فقهاؤنا على أن لا إنكار في مسائل الخلاف؟.

 وحديثي هنا لا أعني به الدعاة المغمورين الذين لا يعرفهم كثير من الناس، وإنما أعني الدعاة الجدد الذين يظهرون بكثرة في القنوات الفضائية، وهم ممن يشار لهم بالبنان من قِبل الملتزمين، وكلنا نحفظ أسماءهم ونعرف أشكالهم.

 فالمشكلة الكبرى في هؤلاء الدعاة الجدد أنهم لا يعيشون عصرهم، ولا يواكبون مستجدات الحياة، ولا يطوّرون أساليبهم، لذا تجد أحاديثهم بعيدة عن واقع حياة الناس الحقيقية.