شيء عن الهوية ...

شيء عن الهوية ...

عقاب يحيى

يكثر الحديث عن الهوية السورية والمخاطر التي تعانيها...

عبر التاريخ كانت سورية جزءاً من بلاد الشام ..وحتى الأمس القريب ظلت هكذا، رغم بعض الاستقلالات المؤقتة التي كانت تتم لهذه المنطقة أو تلك..في إطار توزيعات السلطنة العثمانية الإدارية والسياسية، أحياناً ك " متصرفية لبنان"، أو وضع فلسطين، وغيرهما .

حين عملت اتفاقية سايكس ـ بيكو مبضعها القاسي، المدروس بتفتيت بلاد الشام وتقسيمها لأربع دول.. رفضت الوطنية السورية ذلك، ورغم تكريس التجزئة واقعاً، وكيانات سياسية، وتاجها اغتصاب فلسطين .. إلا أن مشاعر عموم السوريين كانت ترفض ذلك التقسيم وتداعياته، خصوصاً وأن فلسطين واغتصابها مثلت الموقد والفتيل الذي لا يسمح بالنسيان..أو الابتلاع .

ـ الاتجاهات القومية شددت على عروبة سورية، والكثير كان يستهجن أن يقال عن المواطن بأنه سوري وحسب.. والسوري كان يشعر بأنه فوق سوري، وأنه عربي، حتى بالنسبة للمكونات الأخرى من غير الأصول العربية.. وحدثت مغالاة كبيرة، وتطيّر في الشعارات الملوثة بالشوفينية وبشيء من عنصرية نتاج، في حين لم ينجح القوميون في تكريس أهم مبررات وجودهم وصعودهم : الوحدة وتحرير فلسطين.. بل تمت على يدهم، وفي عصرهم أكبر وأهم هزيمة مع إسرائيل، وانتكست قبلها الوحدة المصرية ـ السورية وتكوّرت عديد تلك القوى الحاكمة، والمحسوبة على الخط القومي داخل فكرها وحدودها الإقليمية، بل إن أجنحتها المرتدة، الاستبدادية ـ الفئوية أوغلت بعيداً في التدني إلى درك خطير باستناداتها المذهبية والعشائرية، وكل المكونات ما قبل وطنية، وقومية.. في حين ظلت الشعارات المفرّغة تخفق للتزييف والتمرير والغش والتدليس . وحدث الاختلاط في مفهوم الانتماء وتجسيده، وصولاً إلى "كفر" عديد الأجيال بالعروبة، والانتماء لوطن الحلم ..

+++++

مع الثورة السورية العظيمة... خاصة أشهرها الأولى : السلمية، الشعبية برزت الوطنية السورية حاضنة، وإطاراً لا يخلوان من بعض المغالاة والمبالغة.. إلى درجة أن كثير العرب وجهوا انتقاداتهم نحو غياب البعد القومي، وخاصة القضية الفلسطينية وموقعها ..وكان يمكن فهم ذلك عبر الانشغال بالراهن الذي يستوجب العمل حتى الانتصار، مع تأكيدات عابرة عن الهوية العربية، وعن موقع فلسطين الذي رضعها السوري حليبا أصيلاً دخل الجينات وتركيب الوعي .

لكن دعوات كثيرة تبرز وتتنافس شدّاً وجذباً حول الهوية، ومستقبل سورية، وموقعها.. من محاولات الاشتلاع والعدمية، إلى مادون سوري .. إلى الهوية الإسلامية ..

ـ المكونات القومية ـ في معظمها ـ تريدها ـ في أحسن الحالات ـ سورية  خالصة لا علاقة لها بأي بعد عربي، حتى بالجغرافيا، ولا بالقضايا العربية وفلسطين إلا من زاوية عامة، ومعظم الإسلاميين، خاصة الاتجاهات المتشددة تنسف البعد العربي تماماً وتستبدله بالإسلامي،والقوميون العرب، على مختلف اتجاهاتهم يشعرون أنهم مبعدون، وهامشيون، وبعضهم طوّرمفاهيمه وحدّثها، وهناك من ما زال يغني على "ليلى" والذي كان من عشق لم يثمر ..

ـ نعم سورية الوطن، والهوية القطرية ظلمت حين لم ينجح القوميون بتحقيق أي خطوة وحدوية، وحين انكفأ من حكم باسمهم نحو الزواريب والطوائف،وأسهم في تلغيم الوحدة الوطنية، والنسيج الاجتماعي المتعايش، وارتكز إلى كل التكوينات ما قبل قومية، ووطنية، وشعر كثير السوريين أنهم بلا هوية، وأن العودة لسوريتهم هي المنطلق، والحاضن، وهي التي يجب تأكيدها في الثورة، ومستقبل القادم للدولة المدنية الديمقراطية، التعددية .

ـ وعلى ذكر التعددية والإقرار بها فهناك  من يفهمها على أنها كيانات ملصوقة، أو حالة كونفدرالية، أو فيدرالية، رافضاً أية هوية عربية، بما في ذلك الدعوة لحذف كلمة العربية من اسم سورية الرسمي الذي تكرّس عام 1962 " الجمهورية العربية السورية".. من قبل حكم الانفصال رداً على اسم" الجمهورية العربية المتحدة"، وليس بعد حكم البعث ...

ـ الانتماء هو الهوية المميزة للدول والشعوب بغض النظرعن أصولهم القومية حين يرتضون الانتساب للصفة الغالبة، وبما يمنحهم أبعاداً أهم، واستنادات تاريخية . وحين تفهم العروبة على أنها انتساب إلى لغة رسمية واحدة، وكيان سياسي واحد يعترف بتعددية الإثنيات وحقوقها الطبيعية، وبأن سورية جزؤ من وطن كبير تسعى إلى التعاون والعمل المشترك، وإقامة ما يمكن من كيانات اتحادية منطلقة من الواقع، وباتجاه تحقيق مصالح  كبرى للجميع.. حينها يكون الانتماء غير متعارض مع التعددية الإثنية، ولا يؤدي إلى الظلم والعسف والإلحاق، أو إلى اضطهاد الآخرين وعدم منحهم حقوقهم .

ـ سورية الدولة المدنية الديمقراطية لا يمكنها أن تعيش في جزيرة معزولة، أو تعطي ظهرها للدور التاريخي الذي مارسته، أو تتجاهل موقعها بالنسبة لأمتها، وفلسطين وقضايا العرب المحقة، وحقوق الشعوب في الحرية والاستقلال .