الإخوان المسلمون وما وراء المحاكم العسكرية في مصر

الإخوان المسلمون

وما وراء المحاكم العسكرية في مصر

 وكأنها جاءت لإحياء ذكرى اغتيال مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الإمام الشهيد (بإذن الله) حسن البنا، فقد تعمد الحكام العسكريون في مصر يوم 16 فبراير 2015م إلى إعلان تقديم المرشد العام الثامن للجماعة الدكتور محمد بديع عبد المجيد سامي ومجموعة من إخوانه الذين سبق إصدار أحكام بحقهم جميعا منها الإعدام والحبس المؤبد إلى محكمة عسكرية بتهم لا أساس لها كباقي الاتهامات التي تم توجيهها إليهم في محاولة فاشلة أيضا لاستفزاز الحراك الشعبي السلمي المستمر ضد حكم العسكر طوال أكثر من 18 شهرا لإسقاطه رغم آلاف الضحايا وعشرات الآلاف ممن يلاقون أسوأ أنواع العذاب في سجونه وبما لم تشهد له مصر مثيلا لتسترد مصر استقلالها، ويسترد شعبها بكل طوائفه وتياراته السياسية والفكرية حريته التي سلبها الحكم العسكري الفاسد المستمر طوال أكثر من ستين عاما.

 عسكر مصر أصحاب الانقلاب على أول حكم ديمقراطي في تاريخها كله والذي وقع عام 2013م، لم يخوضوا مطلقا (كبيرهم وصغيرهم) أي معارك خاصة باستقلال بلدهم أو حماية حدودها بعد إعلان الرئيس العسكري الأسبق أنور السادات عام 1973م وبعد انتهاء المعارك مع الكيان الصهيوني أنها آخر حروب مصر، وبعدها تم التركيز في بناء القوات المسلحة على أن تكون عقيدتها العسكرية الوحيدة هي حماية النظام العسكري المفروض على مصر منذ عام 1952م وحتى الآن واعتبار أن أي خروج عليه سيكون الهدف الوحيد لنيرانها، وتم اعتماد المحاور التالية لبناء هذه العقيدة:

 أولا: أن مصر هي القوات المسلحة وأنها الوحيدة صاحبة القرار على أرضها وهي التي ترسم استراتيجياتها وسياساتها الداخلية والخارجية بما يتناسب مع مصالحها.

 ثانيا: أن عسكرة باقي هياكل الدولة (القضائية والإعلامية والتشريعية) إضافة إلى السلطات التنفيذية المختلفة (وزراء – محافظين – رؤساء مدن – بلديات) عن طريق تطعيمها بعسكر سابقين ومدنيين موالين، هي ضرورة حيوية لاستقرار القوات المسلحة.

 ثالثا: أن التجنيد الإجباري للشباب المفروض بقانون هو ضرورة لإيجاد فائض قوة تستطيع القوات المسلحة عن طريقه السيطرة التدريجية على مقدرات مصر الاقتصادية والاستثمارية ليشكل عائدها مع ما يتم تخصيصه لها من ميزانية الدولة استقلالا اقتصاديا داخل مسمى هذه الدولة.

 رابعا: أن الإنكار الصحيح الواضح لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وبما تعارفت عليه الإنسانية الآن إضافة إلى ما أقرته الأديان من حرية الاعتقاد والالتزام بما رسمته من سلوكيات، هذا الإنكار قد لا يكون مناسبا بالطريقة المباشرة ولابد من استمرار العمل على تفريغ كل هذه الحقوق الإنسانية أو الدينية من مضمونها ورسم أشكال جديدة لها، مع العمل على أن تظل العلاقات المجتمعية بين فصائل الشعب المصري وطوائفه متوترة مع منعها من الاستقرار ليظل الجميع في حاجة إلى قوة ضاربة لإخماد جذوتها، ولا يملك هذه القوة غير كيان القوات المسلحة.

 خامسا: اعتماد القوانين الإستثنائية وقوانين الطوارئ والمحاكم العسكرية كجزء أصيل من النظام القضائي الخاضع لها، لإرهاب أو قمع أي معارض أو أي ممارسات مخالفة لتوجهات قيادات القوات المسلحة وممارسات كبار الجنرالات فيها.

 هذه الصورة أو الملامح الغائبة عن أنظار الناس التي شكلت بها القوات المسلحة وجه مصر خلال الستين عاما الماضية لم يعد في إمكانها الاختباء أو المناورة أمام أول تجربة ديمقراطية في مصر كانت في سبيل كشفه، فحدث الانقلاب مستصحبا يقينا أن الشعب المصري لن يجرؤ كعادته وكما صوره لها جهلة مثقفيها على الاعتراض وأنه سيظل خانعا مستكينا فكانت المفاجأة الأولى، ثم تأتي المفاجأة الثانية أو الصدمة التي أفقدت كبار الجنرالات الرشد والتفكير عندما أعلن المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع من فوق منصة الاعتصام السلمي في ميدان رابعة العدوية الإصرار على التصدي للانقلاب العسكري وبصيحته (سلميتنا أقوى من رصاصهم) فعلموا أنهم أمام معركة لم يشرح لهم أحد من كهنتهم كيفية مواجهتها أو التعامل معها، ولم تكن في بنود عقيدتهم العسكرية التي لقنوها لهم، وحسبوا أن صيحة المرشد هي العدو فانطلقت رصاصاتهم التي تزيد غزارتها بازدياد تمسك الحراك الشعبي بها، حتى وصل بهم الحال الآن بعد فقدان الرشد وفشلهم في إدارة دولة بعد أن تحولوا من اختزالها في كيانهم إلى إدارتها فأصابت نيرانهم بعض حلفائهم ويعملون على الهروب خارج الحدود بمعارك يفتعلونها تعلقا بحبل يلتف حول أعناقهم بإذن الله سبحانه وتعالى ظانين أنه حبل نجاتهم.

 يظن البعض أن خلاف جماعة الإخوان المسلمين مع الانقلاب العسكري واستمرار حكم العسكر أنه خلاف حول وجودها ككيان، وهو الظن الخاطئ الذي سارت تقريبا كل الدراسات الخاصة بالحالة المصرية عليه، والعودة المجردة من أي هوى أو ميل إلى فكر الجماعة وتاريخها المفترى عليه منذ محنة 1948م التي فرضها المجتمع الدولي عليها في مصر تؤكد أن الدفاع عن ما تراه الجماعة من فكرها لصحيح الإسلام والعمل له داخل حدود الدول والأقطار كان هو الهاجس الحقيقي، ومن داخل هذا الفكر وأسلوب الإصلاح والتغيير للمجتمع الذي رأت أن السلمية فيه هي الطريق الصحيح وأن الأمة الإسلامية كلها والعالم في حاجة إلى تبيان هذا الفكر وتحديده، ثم ضرب المثل بالتمسك به وعدم الحياد عنه تحت أي ضغط حتى ولو كان الثمن هو الدماء والسجون والمعتقلات، والتجارب كثيرة نذكر بها الناس أجمعين.

 أولا: في ذروة انقضاض الدولة المصرية والعالم كله على الجماعة في مصر عام 1948م والاعتقالات الظالمة للذين شاركوا منهم في الجهاد على أرض فلسطين مشاركة لجيش مصر غير منفردين بقرارهم عن الدولة والتنكيل بهم، حدث اغتيال رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النقراشي (الحاكم العسكري وقتها) والذي قام على تنفيذ المؤامرة بحل الجماعة ومصادرة دورها، من شباب ينتمون للجماعة كانوا قد فقدوا الصلة بقيادتهم واستفزتهم الإجراءات الظالمة، وكانت هي الثانية بعد حادثة القاضي الخازندار الخارجة عن فكر الجماعة، فجاء رد فعل المرشد والمؤسس الشهيد حسن البنا القوي إنصافا للحق ببيانه الذي استنكر فيه الأمر وتبرأ منه وعنوانه (ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين).

 ثانيا: سار على نهجه المرشد الثاني الأستاذ حسن الهضيبي عندما حدثت الأزمة عام 1954م مع العسكر الحاكمين، وكانت الجماعة وقتها قد استردت عافيتها واستكملت هياكلها وعلم الجميع أن الصدام قادم، فتقدم إليه بعض الشباب القادرين على الفعل والرد للسماح لهم بالخلاص من العسكر قبل أن يُقْدم هؤلاء على الهجوم على الجماعة فكان رفضه القاطع ورفض مكتب الإرشاد وقتها لأسلوب العنف في العمل واضحا لخصه المرشد (عليه رحمة الله) بقوله لهم: (لأن يقتلوا منا ألفا خير لنا من أن تُسَال بأيدينا قطرة دم واحدة) وتغافل كل الباحثون والدارسون هذا الموقف وصوروه على أنه كان انتصارا للعسكر وفشلا للجماعة، ولا مجال للحديث الآن عن نهايات الأحداث.

 ثالثا: وفي عام 1965م لم تكن يد الجماعة أبدا بعيدة عن رئيس الجمهورية وقتها جمال عبد الناصر حيث كان أحد حراسه هو الشهيد بإذن الله إسماعيل الفيومي، امتلكه هاجس الثأر للجماعة ولإخوانه ولما كانوا يلاقونه في السجون بقتل الرئيس حيث كان في مقدوره ذلك، وجاءه الرد الحاكم مباشرة من الشهيد سيد قطب الذي كان يتولى مسؤولية العمل في ذلك الوقت أنه ليس هذا من فكر جماعة دعوية ولا أسلوبها ولا أهدافها التي تسعى إلى إحياء مجتمع مسلم على فكر وعقيدة صحيحة، وأن الصبر على ما قد يقوم به النظام أولى من أن يخون أمانة أُوكلت إليه، وكان قدره أن يُقْتل في يوم اعتقاله صبرا بسياط من كان حريصا على أمنه.

 رابعا: ويتكرر الأمر في مصر في عهد المرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني (يرحمه الله رحمة واسعة) عندما قام بعض الشباب عام 1974م بالهجوم على الكلية الفنية العسكرية للاستيلاء على ما فيها من أسلحة لحرب النظام بها، وعندما استفزت سلطة العسكر بعض الشباب الإسلامي في السبعينيات من القرن الماضي فسعوا إلى قتل الرئيس العسكري وقتها (أنور السادات) ظانين أن بمقتله ستنتهي دولة الباطل وجرت الأحداث وسالت دماء مع اتهامات للجماعة بالنكوص والتخاذل والعمالة للنظام، ولم يكن لدى الجماعة ما تملكه غير النصيحة بالحسنى والصبر على المكاره وظلت كاظمة غيظها معلنة رأيها محافظة عليه مرجعة أمرها وأمر كيانها إلى الله سبحانه وتعالى.

 خامسا: في العشرية السوداء التي أصابت الجزائر بعد انقلاب العسكر على إرادة الشعب في انتخابات 1991م والتجاء بعض الشباب الثائر الذي استفزته إجراءات العسكر إلى حمل السلاح، بقي الشيخ المجاهد العالم محفوظ نحناح (عليه رحمة الله) قابضا مع إخوانه على جمر التخوين واتهامات العمالة للباطل صابرا على ما أصابه وأصاب إخوانه ومنهم من لقي ربه بعد أن استحل البعض دمه، إلى أن أزاح الله الغمة وكان كل ذلك حتى يبقى الفكر صحيحا قائما إعذارا إلى الله سبحانه وتعالى، ليس دفاعا عن هيكل تنظيم أو حزب أو جماعة وإنما دفاعا عن دين هو للإنسانية جمعاء.

 فَلْيُقِم العسكر محاكمهم ولتزداد رصاصاتهم في صدور الأبرياء فلن يفعلوا شيئا لم يكتبه الله على عباده، ونعلم ويعلم كل منتمٍ إلى جماعة الإخوان المسلمين أو إلى فكرها أو إلى صحيح الإسلام أن هذا الفكر تحتاجه الأمة ويحتاجه العالم كله، وسيكتب المنصفون في تاريخ الأمة والدنيا أن جماعة الإخوان المسلمين ليست فصيلا يتأرجح يمينا أو يسارا وستظل قائمة بأماناتها دون تراجع أو انحراف، وأن فكرها هو الذي يحكمها في كل حدث وليس العكس، وأن قضايا الأمة الفكرية وقضايا الحكم والتواصل مع الإنسانية كلها وأصحاب الضمائر الحية فيه هو طريق مرسوم خطواته واضحة معالمه يحمل الخير للناس بإذن الله وكما ذكر مؤسس الجماعة الشهيد حسن البنا عليه رحمة الله (كونوا كالشجر يرميهم الناس بالحجر وترميهم بالتمر).

 ولا حول ولا قوة إلا بالله.