من هم صانعو السّلام

مادونا عسكر

كثرٌ هم قادة الحروب، وكثرٌ من يساندونها، إنّما قادة السّلام وصانعوه فنادرون، لأنّهم يتّسمون بميزات خاصّة. وقادة الحروب كثيرون لأنّهم يحملون في داخلهم نزاعاتهم وصراعاتهم الخاصّة الّتي تنعكس على سلوكهم الحياتيّ والخارجيّ، كما أنّهم يترجمون اضطراباتهم النّفسيّة ولا نقول أمراضهم النّفسيّة، على محيطهم ومجتمعهم، بل وإذا تمتّعوا بالقوّة والسّلطة، امتدّت انعكاسات سلوكيّاتهم إلى خارج مجتمعاتهم.

أمّا صانعو السّلام، فمن هم؟ وكم هي نسبة الفرص المتاحة لنا اليوم لنتمتع بسلام غير متزعزع أو مهدّد بنزاعات وصراعات لا تنتهي، لنحيا سلاماً طويل الأمد وليس لسنين معدودة فقط.

فلنتأمّل عمقنا الإنسانيّ، ولنلقِ نظرة على من هم حولنا من زعماء وقادة، ومن منهم يتمتّع بميزات فاعلة للسّلام، لعلّنا نجد من نستبشر به خيراً. فنترجّى سلاماً حقيقيّاً وقد تعبنا من أكذوبة السّلام الّذي يمنحنا إيّاه ذوو الأيادي الملطّخة بالدّماء وذوو العقول المنغلقة والمتقوقعة.

ذكرنا أنّ صانعي السّلام قليلون فهم النّخبة، وذلك لأنّ صانع السّلام ينعم بميزات خاصّة. وهي ليست خاصّة بمعنى حصريّة؛ فكلّ منّا وإذا أراد يمكنه أن يتّسم بتلك الصّفات ليستحق لقب فاعل سلام. كما أنّه ليس بالضّرورة أن يكون قائداً لشعب، فالقيادة تبدأ من العائلة الصّغيرة ثم تنطلق إلى المجتمع.

نقسم ميزات فاعل السّلام أو قائد السّلام إلى قسمين: في القسم الأوّل نسرد ميزاته الشّخصيّة الّتي يحياها بداخله، ثمّ في القسم الثّاني الميزات الشّخصيّة الّتي يعيشها عامّة مع الآخرين. وكلّ شخص لا يتمتّع بهذه الميّزات لا يمكنه أن يأتي إلّا بسلام مؤقّت ومنقوص وغير مستقرّ. وذلك لأنّه يبتغي مصلحة معيّنة سوف تنقلب يوماً ما أو تتبدّل، فنقع مجدّداً في خطر الحروب والمخاطر.

- الميزات الشّخصيّة:

1- ينعم فاعل السّلام بحياة داخليّة متّزنة ورصينة، تسمح له بأن يعود إليها كلّما شعر بأنّه يواجه أزمة شخصيّة أو عامّة. فلا يسمح لنفسه أن يتصرّف بردّة فعل، ويقف على مسافة معيّنة من الأحداث كي يتمكّن من السّيطرة عليها. وبالتّالي يسيطر على كل صعوبة أو إشكاليّة تواجهه فيتحكّم ويستحكم بها. فلا تعود تؤثّر سلباً على اتّزانه ورصانته وحكمته. 

2- التّواضع، ونتحدّث هنا عن التّواضع الإنسانيّ الّذي يتحدّد في ثلاث نقاط:

- تواضع الفكر، وهو الّذي يسمح للإنسان أن يعرف محدوديّته ويعي قيمته كإنسان كما قيمة الآخرين. فيحجب عن عقله كلّ خيال يسمح له أن يعتبر نفسه محور الكون والكلّ يخضع له. فمتى أدرك الإنسان محدوديّته احترم رأي الآخر وتفاعل معه لأنه يساهم في بنائه، ومتى وعى قيمته الإنسانيّة احترم وصان قيمة الآخر.

إنّ خطأ قادتنا الأكبر، هو أنّهم ومتى اعتلوا سدّة القيادة، سمحوا لخيالهم أن يأخذهم بعيداً عن أرض الواقع، فيتناقض فعلهم وقولهم. كما أنّهم يعتقدون أنّ عقولهم وحدها القادرة على إنجاز المعجزات.

- تواضع القول، وهو الّذي يجعل القول حقيقة واضحة كفكره المتواضع، وبالتّالي لا يبني لشعبه قصوراً رمليّة، تهدمها رياح شديدة أو موجة عاتية. فكثيراً ما نسمع قادتنا يبنون لنا ولأوطاننا المشاريع ويعدوننا بالأمن والأمان، ويبهرون مسامعنا بخطابات رنّانّة عن الحرّيّة والكرامة وإلى ما هنالك من كلام يرفعنا إلى العالي ثمّ ما يلبث أن يسقطنا إلى الأرض.

- تواضع الفعل، وهو الّذي يترجم الفكر والقول بفعل واضح وصريح وبنيّة سليمة تتناسب مع الذّات ومع الآخر، فيأخذ بعين الاعتبار كلّ من هم حوله ويتحمّل مسؤوليّتهم.

من هنا الإنسان المتواضع وبقدر ما يعرف حجمه بالنّسبة للآخر، يمنح الآخر مكانته بالنّسبة لذاته.

3- الخوف، الّذي يجعل من الكائن البشريّ إنساناً مدركاً لإنسانيّته الّتي تخضع للضّعف. هذا الخوف لا يربك الإنسان ولا يعقّده، وإنّما يدفعه لتحويل كلّ قوّته إلى طاقة بشريّة يصبّها في مواجهة الأزمات ويسعى لإيجاد حلّ لها.

القائد الّذي يريد أن يصنع السّلام، يؤكّد لذاته أنّه يخاف ولكنّ دون أن يشكّل له هذا الخوف عائقاً في طريقه إلى صنع الحلول. فيحوّل خوفه إلى طاقة جبّارة تمنحه القدرة على التّفكير والتّخطيط والسّعي الدّؤوب إلى إيجاد الحلول لكلّ أزمة.

4- الشّجاعة، وهنا يجب أن نميّز بين الشّجاعة والتّهوّر. ونلاحظ جيّداً أنّ انطلاقة كلّ حرب تفترض تهوّراً، ولكنّ السّلام يفترض الكثير من الشّجاعة الّتي تترجم بجرأة اعتراف القادة أنّ الحروب لا تؤدّي إلى أي مكان وإنّما ومهما كانت إنجازاتها فهي تشكّل خسارة فادحة سواء انتصر المحارب أم هزم.

- الميزات العامّة:

1- يتمتّع صانع السّلام باللّيونة دون الانكسار، فالانكسار ينتج عنه الحسرة والحرمان وبالتّالي فكلّ غلبة في الحروب تحضّر لحرب جديدة.

2- التّواصل دون الإلغاء، وقادة السّلام هم الّذين يتواصلون مع الآخر رغم اختلافه عنهم ولا يطالبون بموته ولا يسعون إلى قتله لإلغائه ليستمرّوا هم.

3- التّحلّي ببعد الرّؤيا، والأفق الواسع، وبذلك يتعالى صانع السّلام عن أيّ هاجس شخصيّ أو نفسيّ، وينزع من داخله الخوف المرضيّ الّذي يربكه ويكبّله. فكل عمليّة سلام هي مغامرة بحدّ ذاتها وتتطلّب أن يثق الإنسان بذاته ويندفع نحو الآخر مهما كان انتماؤه أو معتقده أو أفكاره.

4- المبايعة دون التّملّك والاستعباد، فالقائد الّذي يريد أن يصنع السّلام لا يفرض نفسه على شعبه ولا يتحايل على القوانين، ولا يسعى إلى تضليلهم بوعود وهميّة. وإنّما ينتظر حكم الشّعب ومبايعته. ومتى تحوّل القائد إلى مُستعبد لشعبه، مارس ديكتاتوريّة عمياء خوفاً على مركزه ومنصبه ومصالحه.

قائد السّلام وإن ندر وجوده، هو من أدرك في فكره وقلبه وروحه أنّه خادم للنّاس ومسؤول عنهم وعن حياتهم، فطوبى لفاعلي السّلام، لأنّهم هم أبناء الله الداعون له.