تساريح

تساريح

جواد بولس

ولّى عيد الفطر. عادت الناس إلى رمل ساعاتها. جديدنا قديمنا. وجع من ماض ووجع على حاضر. فرح باسم الغيب ينطق وبهجة مثقلة تزاحِم لتطرد عتمةً لم تبرح عتبات البيوت وصدور البشر.

ها عدت يا عيدنا فلنذكر الموتى والأحياء منهم ولنترحم عليهم. رحمة الله على أحبابنا وعلى أعزائنا من مات منهم ومن يموت ومن يبقى حيًا. رحمة الله على عاشق "جنان" وبنات العنب، أشهر ندمان العرب وعلى أشهر فرسانهم، فمنذ تشاقى وتحرّش لائمًا عودة عيده كدورة الوجع يجدد شباب امرأة، هكذا تعود أعيادنا وتصاحبها اللازمة متشاقية تمامًا كما في زمن الأولين وتسأل: بأية حال عدت يا عيد؟.

يأتي الكلام ويغيب صاحبه فلا "نواس" أبقى لنا الظلام ولا أبوه، لا صاحبته الصفراء ولا قينة تروح وتجيء "ببردٍ ومجسد". تقويمنا تخثٌر. وكأن أيّامنا علّقت في غمام من غبار. عباءات من وبر شرّعها وكلاء الردى فكتمت أنفاس الصباح وأرخت على الشرق حلكتها فصارت أعيادنا أماني العنادل تترقب فتحة القفص.

جاءنا الفطر هذا العام، نحن المحظوظين في أراضينا المقدّسة، كجورية أهداها الندى لعاشق هائم اختطفها بشوق مدنوف وجوعِ نار، قرّبها إلى وجهه، حرّضه شوكها وأذابه عطرها القاني. عيد نابلس وأخواتها جاء قشيبًا. بطعم السمك يتنطنط من شواطئ يافا ليرتاح في حضن أصحاب أسلافه. آلاف من الراقدين على حلم ووعد أفاقوا وكأن الرحمن أنصف بعد إعراض وأمطر بعد جدب.

آلاف سبقوا الشمس. لم يناموا. خبّأوا تحت وسائدهم دمعة وقطعة من سحر وأقدامهم لترتاح وتكون على أهبة رحلة وسفر. خفُّوا من خوفهم، فلربما سيصحو السلطان ويأمر بإغلاق باب الحارة وتعود أيام الحشر وعد نجمات السماء. بضربة نرد ذهبية في ذلك الصباح الأرجواني رُتِقت فلسطين وصارت كجسد من زئبق. شمخت أحلى من كل حوريات البحور تمايلت، أميرة ميّاسة اعتلت صهوة شهبائها وتمخترت. من قال إنّها سليبة ومن بكاها؟. سيّدة ولا مثلها كانت فلسطين في هذا الفطر، فما الغرابة؟! سيشتهيها كل رانٍ وسيهتدي الأعمى إلى غناء كرمتها وغنج رمانها.

 

من صاحب السحر هذا؟ ومن صانع ذلك الفجر؟ كيف، يا للمفاجأة، صار بعض من حلم هناك في جرزيم شطيرة ورد وموائد من عُمرٍ ورملِ عكا ويافا؟!

جاءنا العيد، في فلسطين، هذا الصيف دفعة كولادة فرس، وبغتة كولادة قصيدة. أربكها وهي التي تمرّست بالشقاء وشبّت عليه. عيد سقطت به المتاريس وفتحت القلاع أبوابها للريح. اختفت الأقفاص والأصفاد فطار الطير في جنّاتها التي على مد النظر وحلّقت الحيرة. شهق الكلام وردد صيحة الجرح، فهل عدت لما مضى، يا عيد، أم لأمر فيه تشكيك؟

العيد ولّى. حط المساء في ساحاتنا وتربع فاتحًا صدره ليستقبل الليل متعبًا يجيء ويوحي أنه باقٍ. العائدون من الأزرق يدخلون بيوتهم كالفراش. صامتين. لا يفتحون أفواههم خشية أن تهرب زنبقة التقطوها هناك. أسرعوا والحلم حشروه تحت الوسائد وعليه ناموا وغفوا.

فرحة نامت فصارت لعنة ونقمة. نعمة لم تدم فحوَّلها بعضهم مصيدة وطُعمًا. لماذا فتحت أبواب الجحيم وكيف؟ ما القصد ومن المقصود ولماذا؟ كثرت الأسئلة والتساؤلات. كل علامات التعجب والدهشة والاستنفار والاستغاثة لم تعد تكفي. وكعدد حبات رملك يا يافا تهافتت الأجوبة وفاضت فلسطين بكم من التحاليل والتهاليل. الكل يجتهد. والكل يصبح عالمًا ومستهدفًا. تشكيك وتقريع. همس ولغز وما رتق من جلد العروس فتق مجدّدًا والريح عاودت صفيرها والذئاب عواءها وعويلها.

إسرائيل تكشف مجددًا عن خبثها وقرفها وتتصرف برعونة وتستهدف هيبة السلطة الفلسطينية وخصوصًا الرئيس محمود عباس. إسرائيل استهدفت الربح الاقتصادي، فمليون فلسطيني محرومين من لحم وشحم وحليب هبّوا ودرّوا مليارًا من الكواكب والشواقل. إسرائيل خطّطت، استدرجت، استفحلت، تمادت، غارت، هاجت، ماجت، عبّأت، غرّرت، كسبت، أكسبت غنمت. إسرائيل فعلت وفاعلت وانفعلت وفعّلت وتفاعلت، إسرائيل كانت وبقيت وستبقى إسرائيل دولة قوية محتلة متسلطة حاكمة متفرعنة، صاحبة سطوة وحظوة وتدبير فهي التي تأخذ وهي التي تعطي وما لفعلها سد ولا رادع ولا مانع. ببساطة هي مروِّضة النمور كما في قصتك يا ابن الشام وهي حاملة العصا وهي مطعمة الحشا، هكذا يا سادة، تبدأ الحكاية وهكذا تنتهي، وما سرده المجتهدون والمحللون يبقى هوامش على رقعة من "فرمان سلطاني".

هي "تساريح"/تباريح وليست تصاريح. ومن لم يصدّق كيف روَّض زكريا تامر نموره في اليوم العاشر فليتّعظ من "قناديل ملك الجليل" حينما يروي لنا ابن فلسطين كيف حاول الوالي أن يوقع بين الإخوة وأن يؤلب الضحية على أختها الضحية فأوحى للظاهر عمر الزيداني أن يهاجم شيخ عرب الصقر وأوحى لهذا أن يهاجم عمر ومن حساب الدم المسفوك في أرض الجليل تعلمّت الناس أن تسهر على قناديلها وأن ترعى زيتونها ومنه تملأ خوابيها زيتًا كي لا تخبو شعلة قناديلها، ويحل الظلام ويفرح السلطان ويأكل وينعم والرعية تنام وتحلم بعجيبة تفتح أبواب القفص ويأكل الناس سمكًا على شاطئ يافا وشطائر من ورد وحسرة. فرحم الله من علّمنا أن نداوى بالذي كان هو الداء.