ردّ الاعتبار للشهيد سيّد قطب

عبد العزيز كحيل

[email protected]

بقي الموقفان الشعبي والرسمي من سيد قطب رحمه الله على طرفي نقيض منذ استشهاده ، فهو في نظر أبناء الحركة الإسلامية في العالم كلّه شهيد باع نفسه لله وقضى في طريق الدعوة، بينما تعتبره الحكومات العربية – وفي مقدّمتها السلطات المصرية في العهد الاستبدادي البائد - و من حام حولها من المثقّفين وحتى بعض علماء الدين إرهابيًا ومجرمًا أو – على الأقلّ – صاحب انحراف عَقَدي وفكري.

إنه إذَن في نفس الوقت رمزٌ للتضحية من أجل المبدأ ومتاجرٌ بالدين لأغراض شيطانية، كُتُبُه - وخاصة منها في ظلال القرآن ومعالم في الطريق – تشكّل دليلاً يهدي الدعاة لمَا تحويه من تجديد فكري قويّ، وهي دعاية سياسية ضدّ الدولة والمجتمع وإحياءٌ لأدبيّات الخوارج... وهكذا تستمرّ المقابلات وتؤشّر على معركة حامية الوطيس بين التصوّر الإسلامي للإنسان والدين والكون والحياة، وبين الطرح العلماني المتحكّم في البلاد العربية منذ قرنين من الزمن،وقد طال أمد هذه المقابلات ، وكان الطرف الإسلامي هو الأضعف لا يمكَّن من الإدلاء برأيه وافيًا ولا الدفاع عن رموزه وأطروحاتهم ،في حين تولّى الطرف الرسمي والعلماني مهامّ الاتهام والإدعاء والتحقيق وإصدار الحكم معًا، أمّا الآن وقد تخلّصت مصر من النظام العسكري الاستبدادي بعد ستّين سنة كاملة من التحكّم في الحياة السياسية والثقافية فينبغي التوجّه نحو مقاربة فكرية جديدة لتراث سيد قطب وإضافاته الدعوية وتأثيره على أجيال من الدعاة والعاملين للإسلام والشباب المتحمّس الذي بهره استشهاده كما بهرته النقلة الكبيرة التي أحدثها في الفكر الإسلامي الحديث.

·  تجديد مستنده القرآن: منذ انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين لم يستلهم سيد قطب غير كتاب الله، انكبّ عليه وأخرج منه الموازين والمقاييس والمناهج والتصوّرات والمقوّمات، وخاض معه تجربة رائدة في تجديد الرؤى والأطروحات وطرُق التعامل وأساليب الدعوة، فجاء كتابه " في ظلال القرآن" سفرًا ضخما ممتعا، فيه عصارة فكر الشهيد رحمه الله الذي "عاش مع التنزيل لحظة لحظة ولقطة لقطة " كما يقول شقيقه محمد، وكان مادة لجميع كتبه الفكرية والحركية، وقد سعى من خلاله إلى إزالة الفجوة بين المسلمين والقرآن، لنَقلهم من التعامل العاطفي السلبي إلى التفاعل مع الوحي المنزّل وتعريفهم بالمهمة العملية الحركية لكتاب الله وتزويدهم بدليل عملي مكتوب يهدي إلى بناء الشخصية الإسلامية والدولة الإسلامية، كما سعى إلى وضع برنامج نظري عام للتربية الإسلامية المتكاملة بيَّن من خلاله ملامح المجتمع الإسلامي ومعالم الطريق إلى الله، وقد عمد- رحمه الله- إلى ربط نصوص الكتاب بالواقع المعاصر ووقف بقوة وحزم في وجه المادية الجاهلية وأطروحاتها وبريقها وطغيانها، و أبدع في كل هذا، ولعلّ إبداعه كان أعظم عندما نقل القرآن الكريم من صحائف تُتلى للتبرّك أو المُماحكات التجريدية إلى مصدر فعلي للمعرفة والحركة والسلوك والتغيير،وذلك من خلال تزويد القارئ بمنهج للنظر في الآيات يجمع بين أصالة السلف الصالح ومقتضيات العصر بحيث أعاد الاعتبار للإنسان(وللمسلم بصفة خاصة) وعرّفه بمجالات التناغم بينه وبين الكون والعلاقة بينه وبين الخالق عزّ وجل، وكذلك بينه وبين الحياة كلها، لذلك نجده تعامل مع آيات العقيدة تعاملا حيًّا بعيدا عن الكلام المجترّ والتناول البارد وجدل المتكلمين، و ركّز على الثمرات التربوية للعقيدة وترسيخها في الأذهان والقلوب وترجمتها إلى واقع حيّ يحرّك الحياة نحو الانسجام مع آيات الله المتلوّة والمجلوّة، وقد خصّص كتاب" خصائص التصور الإسلامي ومقوماته " لهذا الجانب أي توضيح خصائص الفكرة الكلية للإسلام عن الله والكون والحياة والإنسان فكان- إلى جانب وقفاته مع آيات العقيدة في الظلال- أحسن مرجع حديث لدراسة العقيدة الإسلامية علمًا ومعرفةً وشعورًا حارًّا ودليلا عمليًا،وهذا في ذاته جزء من التجديد الفكري الذي ندين به للمفكّر الشهيد.

·  بصمة شخصية: لكن هل يعتبر فكر سيد قطب امتدادا للفكر الإخواني أم أنه لم يبدع إلا بعد تجاوز أدبيات الجماعة كما يزعم بعضهم؟

يتأكّد المتتبّع لحياة سيد قطب الفكرية أنّ انضمامه إلى الجماعة أثرى أفكاره أصالةً وعمقًا وحيويةً ونضجًا واستقامةً وفاعليةً، غاية ما هنالك أنه مع التزامه بمبادئ الإخوان ومنهجهم أبدع وجدّد وأضاف الكثير من الجيّد المفيد، أي أنّ له بصمته الشخصية الواضحة، وليس هذا عيبًا ولا نكوصًا ولا خروجًا عن شروط البيعة، بل هو المنتظر من رجل له وزنُه الأدبي والدعوي والسياسي ، ومن طبيعي أن يكون في فكر الرجل ما يثير النقد بل والرفض أيضا كبعض آرائه المتصلّبة في مواجهة المجتمع المنحرف وكيفية التعامل معه وطرق إقامة المجتمع الإسلامي، وقد بيّن قادة وعلماء الجماعة وجه الحق فيها مبكّرا.

 وقد تعدّت شهرة سيد قطب حدود العالم العربي والبلاد الإسلامية- حيث درس فكره من جميع الجوانب وشغل المدارس الفكرية والحلقات العلمية والمحاضن التربوية والمجلات الإسلامية- ولفَتَ أنظار الدارسين من أوروبا وأمريكاوغيرهما، وما زال مادّة للدراسات الأكاديمية والبحوث الجامعية فضلا عن بقائه على رأس المراجع داخل الحركة الإسلامية.

·  محور حياته وفكره: مهما اختلف الناس مع سيد قطب فلا يسعهم إلاّ التسليم بأنّه - منذ انضمامه للحركة الإسلامية في مطلع خمسينات القرن الميلادي الماضي - عاش من أجل قضية واحدة لا ثاني لها ألا وهي الإسلام، فكان دينُ الله هاجسَه وشغلَه وهو يرى أكثر المسلمين في غفلة واستسلام بينما الخصوم في هجوم متعدّد الأشكال حامي الوطيس، لقد أمسك بالقلم وكأنّه سوّط بيده يواجه به هؤلاء وأولئك، و ركّز على مسألة الولاء والبراء ، و نادى بقطع العلاقة مع الجاهلية كلّها وتبنّي الإسلام كلّه، ورفع من شأن قضيّة الحاكميّة وخصيصة الربانية ودعا إلى إحياء معاني العقيدة لتكون حيّةً وفعّالةً، وركّز على تميّز المسلم واستعلائه بالإيمان لاستئناف الحياة الإسلامية على المنوال الأوّل.

إن الّذي يميّز سيد قطب - في تقديري - هو أنّه رجل بالمعنى القرآني، عاش لقضيّة هي الإسلام والدعوة إلى الله بكلّ إخلاص وصدق وحماس وثبات، تُغتفَر هنّاتُه في بحر ما فتح الله عليه من أفضال انتصر بها لدين الله ولو قاده ذلك إلى حبل المشنقة ظلماً وعدواناً، وكان يمكن له أن ينال رضا الحكّام بعد انقلاب 23 يوليو 1952 بمصر ويتبوّأ المناصب ويُخلد إلى الدنيا، وهو الأديب الكبير والسياسي الملتزم والصحفي المهاب، لكنّه اختار شيئاً آخر هو العيش مع القرآن" بروحه وفكره وشعوره وكيانه كلّه، " عاشه لحظةً لحظة، وفكرةً فكرة، ولفظةً لفظة، وأودعه خلاصة تجربته الحيّة في عالم الإيمان" كما يقول شقيقه محمد في تقديمه للظلال.

·  بعد انتصار الثورة في مصر: الآن وقد فتحت مصر صفحة جديدة من تاريخها يَجدُر بها أن تعترف للرجل بمكانته بعد أن همّشه خصوم الإسلام وحاكموا فكره في غيابه وألصقوا به التهَم الباطلة وحالوا بينه وبين الناس ، فيجب الآن إقامة الندوات وعقد الملتقيات والمناظرات لإعادة قراءة فكره قراءةً هادئةً واعيةً تكون نتيجتها الانتفاع بفكر ثرّ قدير وتجاوز أخطاء وزلاّت يتحمّل وزرَها – إلى حدّ كبير– النظام الاستبدادي الذي ناصب الإسلام العداوة ومكّن للفكر المادي وأوسع له المجال للتضييق على القيم الدينية والأخلاق الإيمانية التي لا تتماشى مع فلسفته ولا مع طغيانه،وكتم الأنفاس واضطهد الأحرار، وكلّ يؤخذ من كلامه ويُترك إلاّ الأنبياء عليهم السلام، كما يجب اغتنام أجواء الحرية لتسليط الضوء على كلّ جوانب حياة الأستاذ سيد بعيدًا عن الرقابة البوليسية والهيمنة العلمانية، ولا بدّ من التفاتة أخرى إلى ذلك الفصيل من المنتسبين إلى العلم الشرعي الذين أدانوا سيد قطب أكثر من العلمانيين وأوّلوا أفكاره تأويلات بعيدة بل مستبعَدة تكاد تُخرجه من الملّة بسبب أمراض نفسية جعلتهم لا يقرؤون فكرا معيّنا بل يتصيّدون أخطاء ويختلقون خطايا، فهم مدعوّون إلى مقاربة مُنصفَة للرجل وفكره تكون بعيدة عن الإرهاب الفكري الذي يمارسه بعض رجال الدين المنضوين تحت عباءة أنظمة سياسية مستبدّة تعتبر نفسها مقصودة بسهام سيد قطب الموجّهة لكبد الجاهلية، فسيد رحمه الله ليس ملكا للإخوان المسلمين وحدهم إنّما هو مفخَرَة لجميع المسلمين والدعاة إلى الله ولكافّة الرافضين للاستبداد مهما تزيَّى بأزياء الوطنية والقومية والثورة ونحوها.

إنّ أجواء الحرية لن تدين الفكر الحرّ الملتزم بالقيم العليا والمبادئ الراسخة بل ستعرّف من كان يجهل وتُزيل الغشاوة عن كثير من الأعين وتُنصف الرجل الذي عاش ومات للإسلام بعد أن أعطى دروساً في الأخذ بالعزائم في زمن التدافع الحثيث نحو الرُخَص من طرف النخب التي تهوى القاعات المكيّفة والبروج العاجية والخوض في الأمور التجريدية وسلوك الدروب المعبّدة.