من المسؤول عن غربة الإسلام في الغرب؟

من المسؤول عن غربة الإسلام في الغرب؟

محمد قواص

الدين عندنا خبز الثقافة ومحورها، فإذا ما خيل تهميشه عن متن السياسة غداة حداثة مستوردة، فسرعان ما يعيد السلطان إنعاشه، ففيه، وحتى إشعار آخر، ترياق الحكم وعماد شرعيته.

قد لا يجد القيّمون على الإسلام في العالم الإسلامي عجالة في ما يُلتمس من إصلاح للأداء الديني وتحرّي تطهيره من شوائب لا تتصل بجوهر العقيدة ولا ترتبط بفقه الدين. فالدين في “دار الإسلام” متوارث متواصل لا يتعارك جذريا مع مفاهيم صادمة، إلا تلك التي تتعلق بسلوك السلطة والموقف منها، وفي ذلك سياسة بعيدة عن الفقه.

الأمرُ يختلف بالنسبة إلى الإسلام والمسلمين في الغرب. فالدين والتديّن بالشكل والمظهر والسلوك، عرضةٌ لهذا الصدام مع ثقافة الآخر في الشكل والمظهر والسلوك، على نحو ينتج أسئلة يومية تولّدُ نزوعاً نحو التطرف والتجذر، كما نزوعاً نحو التحديث والإصلاح والتأقلم. وإذا ما كانت فكرةُ الإصلاح الديني متلازمة متّصلة على مرّ العصور (راجت أيضا أوائل القرن مع الإمام محمد عبده وصحبه)، فإن عجالتها ولزوميتها حاضرين لدى المسلمين غربا أكثر منه شرقا، بصفتهما باتتا تتعلقان بسبل العيش والبقاء في تلك الأصقاع.

وفيما يسعى المسلمون لعيش دينهم بشكل طبيعي في “أرض الكفر”، حسب التعبيرات الفقهية لجغرافيا البلاد غير المسلمة، فإنهم لاشك يدركون أن الإسلام ليس دين هذا الغرب، ولم يكن إلا ندا له في التاريخ، وبالتالي فإن استيراده إلى ديار الغرب قد لا يتواءم مع حكايته وثقافته وتقاليده.

وللغرب حكايةٌ مع فكرة الدين جالت به من غياهب العصور الوسطى، مرت به في سواد الحروب الدينية، وانتهت به مبعدةً إياه عن السلطة والسياسة منذ الثورة الفرنسية وما بثّته رياح حداثتها على العالم. وللشرق عندنا حكاية مع فكرة الدين، ذلك أننا أرض الأديان السماوية، وأن الدين خبز الثقافة ومحورها، فإذا ما خيّل تهميشه عن متن السياسة غداة حداثة مستوردة، فسرعان ما يعيد السلطان إنعاشه، ففيه، وحتى إشعار آخر، ترياق الحكم وعماد شرعيته.

باختصار، أبعد الغربُ الدين عن السلطان، فيما يمعنُ الدين عندنا في تأطير يوميات البشر والحجر. فهمَ الدين في الغرب حدود حركته، فيما يأتي الإسلام إلى ذلك الغرب غير معترف بحدود. فالإسلام دين دنيا وآخرة يقوم على شرع ينظّمُ حياة المؤمنين، وبالتالي فإن اختصاصاته لا تعرف حدودا، ولا تقف أمام محددات ما أنتجته الحداثة الغربية من “بدع” كالديمقراطية وحاكمية الشعب والوطن – الأمة وحدود الدول.

لا يجدُ المسلمون عائقا قانونيا أمام ممارسة شعائرهم وممارسة تقاليدهم وطقوسهم وبناء مساجدهم في هذا الغرب الغريب. وإذا ما كان من عوائق تحول دون تعظيم أمر ذلك إلى حدوده القصوى، فهي ثقافية أيديولوجية مخصّبة أحيانا بالعنصرية والإسلاموفوبيا. بمعنى آخر لا قوانين تمنعُ (كما هو حال الأمر في كثير من البلدان الإسلامية) من اعتناق دين الآخر (الإسلام هنا) ومن التمتع بحرية العبادة والمعتقد. يجري أمر ذلك ليس بالضرورة حبا في الإسلام، ولكن تقديسا لمُنجز الحريات الذي تحقق بالحروب والدم خلال القرون الأخيرة.

على أن الجرحَ الذي انحفر في علاقة الإسلام بالغرب متّصل بالاضطراب التاريخي لعلاقة الدولة الإسلامية بالدولة المسيحية في غابر العصور، مرورا بالحروب الصليبية، انتهاء بالتواجد الغربي الاستعماري لهذا الغرب في بلاد المسلمين. بقي العالمان متناقضان متصادمان، وكان أن أصبح تواجد الإسلام في هذا الغرب يمثّل شكلا من أشكال هذا التنافر البنيوي القديم.

لا يستطيعُ الإسلام أن ينخرط في المنظومة الغربية بشروطها الراهنة، ولا يستطيعُ الغرب تدجين هذا الإسلام وفق شروطه وقواعد العيش فيه. ففي متن النموذجين عواملُ تتافرٍ مقيت، ذلك أن الإسلام لا يحتمل العلمنة و“ترهّاتها”، فيما الغرب لم يعد يحتمل منح الدين (لاسيما الإسلام) حيّزا أكبر من كونه معتقد وجب احترامه، دون أن يملي هذا المعتقد أصوله على قواعد العيش وثوابت الدولة الحديثة (تأمل غضب بعض الجمعيات الإسلامية من رسالة وجّهتها حكومة لندن للأئمة تحثّهم على أن يشرحوا للمسلمين كيف لا يتعارض الإسلام مع الهوية البريطانية ما اعتبر اتهاما مبطّنا للمساجد برعاية التطرف).

في حضن الحدث الباريسي خرجَ واحد من دعاة الإسلام يصرخُ في أحد شوارع العاصمة الفرنسية محاطاً برجال الشرطة مستنكراً ما أساءته رسوم “شارلي إيبدو” لنبي المسلمين. توجّه للفرنسيين يقول “نريدكم مسلمين فإذا أبيتم فأنتم أحرارا لكن لا تشتموا نبيّنا”. هنا تكمن إشكالية العلاقة بين الإسلام وغير المسلمين. فالإسلام دعوةٌ تسعى لـ“هيمنة على الأرض برمتها” (على ما يقول الداعية البريطاني هيثم الحداد)، وفي سبيل تلك الدعوة تجوز “الهجرة” كما يجوز الجهاد.

والإسلام في الغرب يمثّل انعكاسا لمزاج الشرق، فهو ليس شأنا بيتيّا يتعلق بأصول العيش اليومي في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا.. إلخ، بل صدى مباشرا للصدام مع الغرب الحاصل في فلسطين والعراق وأفغانستان .. إلخ، وعليه لا يمكن فصلُ يوميات الإسلام في الغرب عن أصول العلّة وضروبها في بلادنا.

في الحدث الباريسي كلامٌ عن دين ونبي وتجديف ضد مقدسات وثوابت، لكن في الحدث الباريسي، تذكيرٌ بقضايا ومسائل في منطقتنا وموقف هذا الغرب منها. في ذلك أن الإسلام في الغرب يصدحُ بمواويل الشرق على كثرتها، وهو حال اليهود الذين يطربون لموال واحد وحيد يعزف في إسرائيل، فيما مواويل المسلمين تعزف في كل بلد مسلم وتتباين نغماتها وفق تقاسيم الكوارث والويلات في زوايا العالم الإسلامي الواسع.

من قلب لندن تنطلق قناة “Islam Channel” لتبث في أكثر من 132 بلدا. تروّج القناة برامجها وفق شعارات “صوت الذين لا صوت لهم” و“صوت المحرومين”، وحين يُسأل مدير القناة محمد حراث عمّا إذا كان المسلمون في بريطانيا محرومون أو لا يتمتعون بصوت، ينفي ذلك. لكن المعنيين بشؤون الإسلام البريطاني يرون أن تسويق الإسلام وفق فكرة الاضطهاد والحرمان ينتهي إلى تطرّف يصدّر جهاديين (700 جهادي بريطاني انضموا إلى داعش وفق أرقام أجهزة الأمن في لندن).

هل يستطيع المسلمون العيش بشكل مندمج مع المجتمعات الغربية؟ لا شيء يمنعُ ذلك، رغم حملات اليمين المتطرف العنصرية المتلاصقة مع قضايا الهجرة والمهاجرين، فهم جزءٌ من النسيج الاقتصادي، تطوروا من عمالة الكمّ إلى عمالة النوع، انتهاء بإدارة المنشآت الاقتصادية وخوض غمار السياسة وشغل مناصب وزارية والنجاح في دنيا الفن والإعلام والسينما.. لا شيء يمنعُ ذلك، والسعي في أمر ذلك لا يختلفُ عما عايشه المهاجرون من أي بقعة في الأرض إلى بلاد الاستقبال في أي بقعة في الأرض. وإذا ما كانت غالبية المسلمين تسعى إلى عيش طبيعي رغيد، فإن سلوك الأقلية يطغى في الصيت على ما أنجزته الغالبية، وبالتالي يضعُ الجميع في سلّة واحدة بمواجهة هذا الآخر (الغربي).

في مقارنة نموذجيْ فرنسا وبريطانيا في التعامل مع المهاجرين بشكل عام، والمسلمين منهم بشكل خاص، يكادُ المراقب يستنتجُ نفور الإسلام في البلدين وعجزه عن الانصهار بسلاسة في النسيجين. تعتمدُ فرنسا على فكرتي الاندماج والتماثل كطريق صحيح للانخراط الكليّ في المجتمع وثقافة العيش، فيما تعتمد بريطانيا على فكرة التعددية الثقافية وتعايش الجماعات كطريق صحيح لتوازن المجتمع ونظام العيش فيه. في فرنسا شُنّت الحرب على الحجاب، واعتُمدت قطيعة كليّة مع الجهاديين، فيما يتعايش البريطانيون مع الحجاب بصفته جزءا من مشهدهم، وسلطاتهم اعتمدت، في فترة معيّنة، تواصلاً مع القيادات الجهادية وتأمين لجوئها في بريطانيا. وفي الحالتين ظل الإسلام غريباً، وبقي المسلمون عددا على هامش الفعل المركزي في البلدين.

يرى محمد منور علي، وهو داعية بريطاني خَبِر الجهاد في أفغانستان أيام الاحتلال السوفياتي وعاد مدينا للعنف، أن إشكالية التأقلم مع العيش الغربي تتصل بالمفهوم الأصولي الذي يقسّم البشر بين مؤمن وكافر، حتى داخل المسلمين أنفسهم. فيما تعيد سارة خان، مديرة مؤسسة “Inspire” للدفاع عن المرأة المسلمة في بريطانيا، تفاقم ظاهرة الإسلاموفوبيا إلى سلوك الإسلام المتطرف وما يتركه لدى الوعي الجماعي البريطاني (تذكير بحادثة قيام أحد المسلمين بذبح أحد البريطانيين علنا في أحد شوارع لندن بدعوى أن الضحية جندي يقتل المسلمين).

والمشكلة في الرواية المتطرفة للدين لا تتعلق بالعلاقة مع غير المسلم، بل بالعلاقة مع المسلمين أنفسهم، ذلك أن المتطرفين لا يقبلون بالاعتدال ويعتبرونه زندقة، ولا يقبلون بالاختلاط ولا بنمط العيش على الطريقة الغربية (حسب آدم دين واحد من الناشطين المسلمين البريطانيين). حتى أن السلطات البريطانية كشفت قبل أشهر، بما يشبه الفضيحة، عن تسلل الأفكار الإسلامية المتطرفة إلى 16 مؤسسة تعليمية في مدينة بيرمنغهام. فيما تتباين تفسيرات التطرف بصفتها قيمة كيفية تختلط مع الإسلام المحافظ (على ما يجهد في تفسيره عمر الحمدون رئيس جمعية المسلمين البريطانيين).

تروج في بريطانيا أصوات وأنشطة لما يطلق عليه الإسلام المتطرف غير العنيف. في مضمون خطاب تلك الجماعات تكفيرٌ وحثٌّ على الكراهية وفق الأبجديات القانونية في بريطانيا. لا تشريعات تمنعُ حرية القول، حتى هذا القول، ما يتركُ للخطاب المتطرف هامشا رحبا يعظم من الإسلاموفوبيا وأطروحات اليمين المتطرف. وفيما يعلن المحافظون عن خطط مقبلة لمنع المتطرفين من التعبير والتمتع بحرية التعبير، تعترض أوساط حقوقية بريطانية على ذلك المسعى وتعتبره لا يتّسق مع مبدأ الحريات في بريطانيا، كما يتناقضُ مع مشاركة رئيس الحكومة المحافظ ديفيد كاميرون في مسيرة باريس دفاعاً عن حرية التعبير.

قد يسعى المسلمون في فرنسا أو بريطانيا (على ما يسعى عامر نعيم وفريقه في تلفزيون British Muslim TV) للتبشير بإسلام فرنسي وبريطاني يتوافق مع قواعد العيش في البلدين. بيد أن أمر ذلك سيبقى محصورا، نخبويا، لا يشيع كقاعدة. فالإسلام بالنهاية هو دين الشرق، وأي إصلاح جذري يجب أن يجري في الشرق. في ذلك تحدّث مؤخراً العاهليْن السعودي والأردني، كما الرئيس المصري، عن علّة في متن الدين وجب معالجتها من قبل العلماء والمؤسسات الدينية الكبرى.

الورشة صعبة في ذلك المضمار، وقد يلزمها زمن طويل قبل أن يصل غبارها إلى ذلك الإسلام في غرب هذا الكوكب.