العلاج المنطقي للمريض السوري

العلاج المنطقي للمريض السوري

د. حمزة رستناوي*

[email protected]

*لقد كانت الثورة السورية في احدى احتمالاتها فرصة  لإحداث تغيير و انتقال  من نظام استبدادي شمولي ( حداثوي ) الى نظام ديمقراطي علماني (يحترم عقائد المواطنين) يسعى لمواطنة متساوية, و لكنّ المؤشرات و في السنة الرابعة للثورة/ الحرب الأهلية  السورية لا تبشّر بخير.

*المنطق علم معياري موضوعهُ طرائق التفكير و يُعنى بتمييز الصحيح منها , و هذا أمر نحتاجه نحن السوريين لنطلق أحكام - إن أمكن - معيارية تقوم على قرائن  قابلة للتدقيق .. هروبا من  حالة الذهول و اللامبالاة التي أصابتنا  و بعيدا عن الأحكام المزاجية و الانفعالية القاتلة..

 *يفاجئونا هذا الحضور الكبير لخطاب جِّدالي/ سفسطائي – و ليس الجدلي-  خطاب رائج  يعتمد على تزوير الحقائق و تقديم مُعطيات غير صحيحة , أو أنّه يستخدم المغالطات المنطقية,  و المُعطيات في هذه الحالة قد تكون صحيحة و لكن مع حُجَّة مضطربة غير سليمة,  هذا النمط من الخطاب الجِّدالي/ السفسطائي  ينطلق من النتيجة و يسعى لتدعيمها بالحجج و الأسباب , أي أنَّهُ تفكير مقلوب تبريري, و مِنَ المعلوم أنَّ التبرير المنطقي هو إحدى الآليَّات الدفاعية – المعروفة جيداً في علم النفس - و التي يلجأ اليها الفرد لتبرير السلوك. 

*الاعتراض الأوّل: أن الانسان بطبعه كائن غير منطقي ,لا بل و غير عقلاني الى حدّ كبير, و التفكير المنطقي ليس العامل الأهم في سلوك الأفراد و الجماعات, و قد أخذ علم النفس – مع التحليل النفسي- على عاتقه استكشاف هذه الآليات و الاستجابات المتحكّمة في المواقف و السلوك الانساني متجاوزا في ذلك دور (علم المنطق) و بالتالي لا فائدة تذكر من كشف المغالطات المنطقية في الخطاب السياسي و الثقافي السوري ما دام المنطق بحدّ ذاته لا يلعب سوى دور قليل فيما يجري.

التعقيب:

بالتأكيد إن الانسان ليس روبوت آليا , و لا يُفترض به أن يكون كذلك , و كذلك قد لا يكون التفكير المنطقي و العقلاني هو المُحدّد الأبرز في موقف و سلوك الكينونة الاجتماعية سواء أكانت فردا أو جماعه. و لكن الناس بشكل عام و عبر العصور لديهم القابلية و القدرة أن يكونوا أكثر أو أقل عقلانيّة , و قد ازدادت هذه الامكانية الى حدّ كبير في العصر الحديث مع بزوغ عصر التنوير , و المنطق الارسطي يزوّد مستخدميه بالقدرة على كشف تناقض الحجج و تناقض الفكر مع ذاته (صوريّة البرهان) بما يُكسبهم المزيد من الثقة بالنفس و القدرة على حل مشكلاتهم. إنّ المنطق معيار و قاسم مشترك كامن  بين البشر, غير متأثر نسبيا  بالأبعاد الأخرى اللغوية و القومية و البيئية و العقائدية الدينية لهم, فتقنيات المنطق الأرسطي في كشف المغالطات بشكل عام مفيدة من ناحية تعزيز البعد العقلاني , و هذا لا يتعارض و لا  يُزاحم العلوم النفسية, لا بل إنّ واحدة من أهم النظريات المستخدمة في علم النفس السريري و الارشاد النفسي  تستند الى التفكير المنطقي , و ما يُسمَّى بالعلاج النفسي الانفعالي العقلاني rational emotive psychotherapy فوفقا لهذه النظرية إنّ المعتقدات و أساليب التفكير اللاعقلانية هي السبب الكامن وراء الاضطرابات النفسية التي نعيشها ,أي أن هناك تفاعلا بين : التفكير و الانفعال و السلوك

فالإنسان العقلاني عادة ما يكون ناجح و ذو فعالية في محيطه مبدع كفوء في مجال الأبحاث و العلوم و حل المشاكل و إدارة الأزمات, و ينعكس ذلك في شعور من التقدير و الكفاءة و السعادة, على النقيض من التفكير الانفعالي العاطفي الذي هو تفكير متحيّز غير منطقي ذو طبيعة ذاتيّة متطرّفة.

إنّ الارشاد النفسي الانفعالي العقلاني , ونقد مغالطات الخطاب السياسي و الثقافي , لا يؤتي ثماره عادة في الأشخاص العقائديين و المجتمعات الدينيّة المغلقة, و هو أقل تأثيرا عند المراهقين , و لذلك نجد أن المليشيات العقائدية المتقاتلة – داعش نموذجا- غالبا ما تستميل الأطفال و المراهقين  (ما دون سن 18) للقتال في صفوفها و تنفيذ عمليات انتحارية بعد اعداد و برمجة دماغية خاصّة, و هذا ما يبرر ضرورة وجود مقاربات نفسية و ثقافية أخرى لمساعدة هذه الفئات, مقاربات تتكامل و تعزز من تأثير بعضها.

و كذلك الارشاد النفسي الانفعالي العقلاني و نقد الخطاب السياسي و الثقافي القائم على المغالطات  لا يؤتي ثماره عادة عند الأشخاص و المجموعات الحاكمة صاحبة الامتيازات و المستفيدة من السلطة, لوجود مصالح مادية و معنوية تحجبها عن الادراك , و عادة ما تكون هذه الفئات متورّطة باستخدام نفوذها في وسائل الاعلام

في تجهيل المجتمع و تعزيز التفكير اللاعقلاني القائم على المغالطات لاستمرار و استثمار الصراع . و لكن الارشاد النفسي الانفعالي العقلاني و نقد الخطاب السياسي و الثقافي القائم على المغالطات يسهم في اضعاف تأثير هذا الخطاب لدى المجموعات المُستهدفة و تقوية مناعة الأشخاص و المجتمعات تجاه التضليل .

ثمّ إن هيمنة التفكير الانفعالي غير العقلاني - كما في المجتمع السوري- ما هو إلا صفة مكتسبة بفعل البيئة و الثقافة و التعليم , و ليس بمعطى أوّلي يجب احترامه, باختصار إن تعزيز التفكير العقلاني , و تنمية الحس النقدي تجاه الخطاب السياسي و الثقافي القائم على التدليس و المغالطات, هو خطوة أساسية لتجاوز المجزرة السورية و التأسيس لمستقبل أفضل.

* الاعتراض الثاني أن المنطق الأرسطي علم عقيم تجريدي يبحث في الكليات التي ليس لها وجود في الواقع , و إنّ العلوم بشتّى أنواعها قد تطوّرت و أن كبار العلماء و الباحثين عبر التاريخ لم يكن لديهم معرفة بالمنطق الأرسطي و تقنياته,  يقول ابن تيمية: ( إننا لا نجد أحداً من أهل الأرض حقق علماً من العلوم , وصار إماما فيه بفضل المنطق، لا من العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والمهندسون وغيرهم يحققون ما يحققون من علومهم بغير صناعة المنطق)

«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٩/ ٢٣).

و ينتج عن هذا أنّ التعرّف على القياس المنطقي الأرسطي و كشف المغالطات المنطقية ليست ضروريّة و لا حتّى مفيدة في تفهّم الثورة / الحرب الأهلية السورية و الخطاب السياسي و الثقافي المتعلّق بها.

التعقيب:

بداية ننطلق هنا من تأويل خاص ينظر الى المنطق الأرسطي كمنطق صوري و كتفكير استدلالي يهتم بمُعاينة انسجام الفكر مع نفسه و بالتالي يستطيع تزويد مستخدميه بتقنيات كشف المغالطات المنطقية و عيوب الخطاب, فهو أشبه ما يكون بالمنطق الفطري و ما قد يشير اليه عموم الناس عبر العصور كتفكير سليم common sense , فما نُسمّيه بالمغالطة المنطقية يستطيع الانسان النَّبيه صافي الذهن اكتشاف خطلها , بغض النظر عن معرفته بالمنطق الارسطي. إنَّ التفكير المنطقي /العقلاني هو أحد نماذج التفكير المُمكنة و المُتنوعة , و قد وُجد قبل أرسطو (384 - 322 ق.م ) مع ظهور الانسان الثقافي , و لكنه النموذج الأكثر كفاءة في مجال الأبحاث و العلوم و حل المشاكل و إدارة الأزمات. و أما بالنسبة لموضوع المنطق الأرسطي فيبقى محاولة بشرية جريئة لاكتشاف الحياة و قنونة منطق الأشياء , و حتّى كبار منتقدي المنطق الأرسطي عبر التاريخ كانوا يستخدمون نفس مفاهيم و أدوات هذا المنطق لانتقاده في دلالة بالغة الأهمّية. و إنَّ البحث الذي عرضناه سابقا عن المغالطات المنطقية و التّمثيل عليها بنماذج من الخطاب السياسي و الثقافي المتعلّق بالثورة / الحرب الأهلية السورية, يكفي لدحض الانتقادات الموجّهة للمنطق الأرسطي بكونه منطق نظري مجرّد ضعيف المردود قائم على الكليات العقلية.