مصر 2012 = الجزائر 1992

فيصل القاسم

رغم أن كارل ماركس ينفي أن التاريخ يعيد نفسه، إلا أنه في حالتنا العربية البائسة قادر على إعادة نفسه بكل يسر، وبحذافيره أحياناً، خاصة أننا، كما قال موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي، ذات يوم:" إن العرب أمة لا تقرأ، وإن قرأت لا تفهم، وإن فهمت لا تفعل". وللأسف فإن مقولة ديان الشهيرة تنطبق حرفياً على الوضع في مصر هذه الأيام.

 لا أدري لماذا لم يقرأ الثوار المصريون التاريخ العربي الحديث، خاصة ما وقع للثورة الجزائرية عام ألف وتسعمائة واثنين وتسعين، حيث جرت الانتخابات في البلاد، ففازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ. لكن جنرالات الجزائر الذين وجدوا أن الديمقراطية ستقتلعهم من جذورهم، انقلبوا على نتائج الانتخابات فوراً بدعم دولي واضح في ذلك الوقت، خاصة من الغرب الذي كان يخشى في ذلك الحين قيام أنظمة حكم إسلامية على حدوده.

ربما يقول البعض إن الوضع مختلف الآن عما كان عليه في الجزائر في بداية تسعينيات القرن الماضي، حيث كان الإسلاميون مرفوضين وقتها، أما الآن فهناك توجه دولي لتسليمهم الحكم في بلاد الربيع العربي. لكن حتى هذا التصور الذي ساد على مدى الشهور الماضية أصبح مشكوكاً فيه. ومن عادة الماء أن يكذّب الغطاس. وها هو الماء ينجح في تكذيب الغطاس كما فعل على الدوام. ألم ير الثوار المصريون ونخبهم المختلفة ملامح اللعبة الجزائرية في تحركات المؤسسة العسكرية المصرية منذ اللحظة الأولى لتنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك؟ الكثيرون ظنوا أن تدخل الجيش لاستلام مقاليد الثورة لم يكن، بأي حال من الأحوال، من أجل عيونها ولا عيون من أشعلوها، بل كي ينقلب عليها بطريقة فاقت الطريقة الجزائرية خبثاً وحرفية. فبينما قام جنرالات الجزائر بإلغاء نتائج الانتخابات التي فاز فيها الإسلاميون بشكل صارخ، راح جنرالات مصر يسحبون البساط من تحت الفائزين بنتائج الثورة شيئاً فشيئاً، فعمدوا إلى تحويل المرحلة الانتقالية إلى انتقامية، وذلك من خلال دفع الأوضاع الأمنية والاقتصادية في البلاد إلى الحضيض كي يكفر الشعب بالثورة، ويعود متوسلاً إلى النظام السابق كي يحميه من تبعاتها القاتلة. وهذا ما حصل فعلاً، فقد ضاق الكثير من المصريين ذرعاً بالفترة الانتقالية، فقام جزء لا يستهان به منهم بالتصويت لمرشح النظام الساقط أحمد شفيق في الجولة الأولى. وليت اللعبة العسكرية انتهت عند تحويل المرحلة الانتقالية إلى انتقامية، فقد بدأ العسكر فور نجاحهم في خداع جزء من الشعب، بالانقضاض على الفائزين بالثورة ودعم رمز النظام السابق أحمد شفيق على المكشوف.

أليس من الهزل أن تقوم المحكمة الدستورية المدعومة عسكرياً بإبطال قانون العزل الذي يسمح بملاحقة فلول النظام السابق ومنعهم من العودة إلى الحياة السياسية، وإصدار حكم يبطل فيه شرعية مجلس الشعب المنتخب بعد الثورة انتخاباً شعبياً نزيهاً؟ لقد بدا في تلك اللحظات الانقلابية الواضحة أن نظام حسني مبارك لم يسقط أبداً. كل ما في الأمر أن النظام الذي يمثله ويدعمه المجلس العسكري خير دعم، كان ذكياً جداً في التعامل مع الثورة، فامتص ضربات الثوار في عز فورانهم بدعوى أنه الأفضل في تسيير أمور البلاد أثناء المرحلة الانتقالية، لكن في الآن ذاته راح المجلس يعمل بهدوء للانقلاب على الثورة عندما تنضج الأمور. وفعلاً جاءت لحظة النضوج عندما أصدرت المحكمة الدستورية حكمها الانقلابي الصارخ بالسماح لأحمد شفيق بالاستمرار بخوض الانتخابات وسحب البساط من تحت أرجل الجماعة التي أفرزتها الثورة لقيادة البلاد.

إن أكبر خطأ اقترفته الثورة المصرية أنها قبلت بتسليم زمام أمورها للعسكر من دون شروط. هل شاهدتم في التاريخ ثورة تنتصر، ثم تسلم أمورها لبقايا النظام السابق وحماته؟ الثورات الحقيقية تضع قوانينها فور انتصارها، ولا تسلم أمرها لأحد. والأهم، أنها تقطع فوراً مع الذين ثارت عليهم ومع قوانينهم كما فعل الفرنسيون والرومانيون في ثورتيهما. لاحظوا الآن كيف يجهضون الثورة بمصر ويخنقونها بالقوانين والفرمانات، كما لو أن هناك ثورة دستورية وأخرى غير دستورية. وكم كان أحد النشطاء المصريين مصيباً عندما توقع أن يتهم العسكر الثوار بأن ثورتهم "لم تكن دستورية". ولا أدل على ذلك إلا القانون العسكري الأخير بتخويل المخابرات العسكرية باعتقال المحتجين المدنيين. إنها قمة الهزل، لكن هذا ما سيحصل إذا ظل الشعب المصري قابلاً بانقلاب العسكر على ثورته العظيمة. كل شيء يوحي الآن بأن الثورة أجهضت.

إن الأجواء الإعلامية والسياسية المعادية للثورة في مصر الآن لا تختلف أبداً عن تلك التي رافقت انتصار الجبهة الإسلامية الجزائرية في الانتخابات عام 1991. التاريخ يعيد نفسه، مع اختلاف بسيط في التفاصيل، لكن العبرة في النتيجة. والنتيجة في مصر مشابهة تماماً لما حدث في الجزائر عام 1992.

لكن لا يمكننا فقط أن نتهم ثوار مصر بالفشل في قراءة تاريخ الثورة الجزائرية، فجنرالات مصر، بدورهم، يبدون وكأنهم أيضاً لا يتعلمون من التاريخ. ألم يروا ما حدث للجزائر بعد الانقلاب على تجربتها الديمقراطية الأولى؟. صحيح أن جنرالات القمح والأرز والنفط في بلد المليون شهيد قلبوا الطاولة على الإسلاميين بعد فوزهم، لكنهم جرّوا البلاد إلى حرب أهلية دامت عشرية كاملة. ومن شدة أثرها على الجزائر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ودولياً، سموها بـ"العشرية السوداء" لكثرة الدماء والدمار والخراب الذي حل بالبلاد على أثرها.

النظام المصري ممثلاً بالعسكر يهدد بأن قواته الخاصة ومخابراته وشرطته العسكرية ستكون بالمرصاد، حسب إعلان وزارة العدل الأخير، للتصدي لكل من ينزل إلى الشارع للاحتجاج على نتائج الانتخابات، أو بالأحرى على الانقلاب. لكن، هل سيقبل الشعب بأن تسرق ثورته عيني عينك كما يقول المثل؟ التململ بدأ في الشارع المصري، كما بدأ من قبل في الجزائر إثر الانقلاب على نتائج الانتخابات. ولا ندري كيف ستتطور الأمور في مصر. وفيما لو تكرر النموذج الجزائري 1992 في مصر عام 2012، فسيكون التاريخ قد أعاد نفسه في غفلة من الثوار المصريين والمنقلبين على ثورتهم على حد سواء. ولا شك أن موشي ديان سيتقلب في قبره ويقول: ألم أقل لكم إنكم لا تقرأون؟