الاستيطان.. وتدمير عملية السلام

الاستيطان.. وتدمير عملية السلام

د. لطفي زغلول /نابلس

[email protected]

إتهم الرئيس الأميركي باراك أوباما الفلسطينيين بأنهم "لا يريدون السلام". هكذا وبكل بساطة، والتفاف على الحقائق الدامغة، وتجن على كل الحقائق، يكيل السيد أوباما هذه التهمة الباطلة شكلا ومضمونا للفلسطينيين.

السؤال المتعدد الجوانب الذي يطرح نفسه هنا بإلحاح: على ماذا استند السيد أوباما في اتهامه اللامبرر هذا؟. هل حقا أن الفلسطينيين لا يريدون السلام؟. عن أي سلام يتحدث الرئيس الأميركي؟. هل هو سلام الإستيطان المقام على الأراضي الفلسطينية التي اغتصبها الإحتلال الإسرائيلي من أصحابها الفلسطينيين الشرعيين؟. هل هو سلام ممارسات المستوطنين ضد البشر والشجر والحجر؟. وغيرها الكثير الكثير من الأسئلة.

غداة اتهام السيد أوباما هذا، إنتهز الإسرائيليون المحتلون الفرصة، وأعلنوا عن مخطط جديد لبناء 2500 وحدة إستطانية في مستوطنة "جيلو" المقامة على أراضي بيت جالا الفلسطينية، وإقامة مستوطنة جديدة في رأس خميس تحت مسمى "شاعار هابسجا"، وهي أراض تابعة لقرية شعفاط الفلسطينية، وأصحابها مازالوا على قيد الحياة.

في ذات السياق تم مؤخرا "شرعنة" 13 بؤرة إستيطانية. إن الحديث عن ما يسمى"شرعنة" البؤر الإستيطانية، يفتح ملف الإستيطان برمته، مؤكدا على حقيقة واحدة لا تقبل الجدال حولها، وهي أن الإستيطان برمته غير شرعي، ولا تملك أية جهة أيا كانت "شرعنته"، ذلك أنه مقام على أراض مغتصبة من أصحابها الفلسطينيين الشرعيين بالقوة.

إذا كان هناك قانون استند إليه الإستيطان فهو قانون القوة التي أباحت لنفسها من خلاله أن تحلل كل المحظورات والمحرمات. إن محاولة إضفاء الصبغة القانونية الشرعية على الإستيطان مجهضة في مهدها، ذلك أنه لا يوجد إستيطان قانوني وآخر غير ذلك.

إن الاستيطان من منظور فلسطيني يعني شرعنة استلاب الأرض التي هي مادة الوجود الفلسطيني الرئيسة. إن الفلسطينيين لا يتصورون سلاما دائما مع استلاب هذه الأراضي، وهي ليست أية أراض، وإنما هي منتقاة ومختارة بعناية تؤدي وظائف تخدم أهدافا احتلالية استراتيجية بعيدة المدى.

للتذكير فإن معظم الأراضي التي يقوم عليها الإستيطان الإسرائيلي هي قمم الجبال، والمرتفعات الفلسطينية التي تشكل مواقع أمنية واستراتيجية للتحكم بكل التجمعات السكنية الفلسطينية، والإشراف على طرق مواصلاتها.

إنها خيرة الأراضي الخصبة التي يعتاش على غلالها الفلسطينيون، وهي الأراضي التي تشكل مخزونا اسراتيجيا ديموغرافيا لاستيعاب الزيادات الناجمة عن النمو السكاني الفلسطيني الطبيعي، وهي أخيرا لا آخرا أراضي آبائهم وأجدادهم منذ مئات السنين.

إن الإستيطان بحد ذاته هو لب المشكلة، وما زال يشكل بؤرة ديمومة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ذلك أنه من أساسه إلى رأسه غير قانوني ولا شرعي في كل المفاهيم الفلسطينية والعربية والدولية.

إنه بالتالي يلقي ضوءا على خارطة السياسة الإسرائيلية التي تتحكم في رسمها مزاجات المستوطنين وأهواؤهم التي تعتبر أن الإستيطان خطوط حمراء، تشكل حدود إسرائيل وسلامها وأمنها من  كل الجهات.

منذ العام 1948 وحتى بواكير ما يسمى العملية السلمية المجمدة، كانت غالبية المواقف العربية بعامة والفلسطينية بخاصة، تنص على تحرير الأرض واستعادتها وإرجاع أهلها من الشتات إليها، ذلك أن هؤلاء المهجرين قسرا والذين يطلق عليهم مسمى اللاجئين، وكونهم لجأوا بعد أن تم تهجيرهم، فحلوا في بلاد عربية مجاورة كضيوف لا كمواطنين ولا رعايا.

إنهم لم يحملوا جنسية البلدان التي حلوا بها إلا في حالات نادرة، ولم تسقط عنهم صفة اللاجئين، ولم يتمتعوا بأية حقوق سياسية أو إجتماعية أو إقتصادية أو تربوية، بمعنى آخر ظلوا يعيشون على هامش حياة تلك الدول في ظروف معيشية قاهرة، وظل الأمل يحدوهم أن يعودوا إلى أوطانهم السليبة التي حل آخرون على ثراها واستوطنوها، وهم إذا ما استبشروا خيرا أو تفاءلوا بالعملية السلمية فلأنهم يعتقدون أنها ستعيد لهم الأرض والسلام.

تذكيرا، لقد شكل مشروع الإستيطان الإسرائيلي ما قبل قيام الدولة العبرية عام 1948، وما بعدها أحد أهم ثوابت السياسة الإسرائيلية، بل أهمها على الإطلاق لأية حكومة إسرائيلية أيا كان لون طيفها السياسي. إن هذا الإستيطان القائم على اغتصاب الأراضي الفلسطينية، ما زال هو العمود الفقري للسياسات الإسرائيلية، وهو آخذ في التوسع العمودي والرأسي، وفي كل الإتجاهات.

إن الفلسطينيين يذكرون أشقاءهم في العروبة بنكبتهم، وبمرارات الإحتلال التي يعانونها، وما فعله جدار الفصل العنصري بهم. إنهم يذكرونهم بمئات المستوطنات التي افترست أفضل أراضيهم، ويذكرونهم بما تفعله قطعان المستوطنين من قلع وحرق واعتداءات سافرة عليهم تطال الحجر والشجر والبشر. إنهم يذكرونهم بالحواجز والإجتياحات والإقتحامات المستدامة والإغتيالات والإعتقالات التي تمارسها قوات الإحتلال الإسرائيلي. عسى هذه الذكرى تنفعهم.

لكن الواقع المرير يثبت، كما أثبت على الدوام أن الحال ما زالت على ما هي عليه، بل أسوأ مما يتخيل هؤلاء الأشقاء ويتصورون. لم يتغير أي شيء على الإطلاق، بل زادت الأمور سوءا، وتدهورت الأحوال المعيشية والصحية والتربوية والإجتماعية والنفسية جراء الحصارات التي تفرضها قوات الإحتلال. فهل هذا هو السلام الذي يبشرون به، ويريده السيد باراك أوباما؟. هل هذه الأحوال المزرية تستحق أن يكافأ عليها بالإعتراف والتطبيع من قبل الأنظمة السياسية العربية؟. هل محو ذكر النكبة الفلسطينية من القاموس الإسرائيلي، وشطب كل الأسماء العربية بغية تهويدها يمكن أن يكون بادرة حسن نوايا من قبل المحتل الإسرائيلي؟.

إن الإنحياز الأميركي المطلق للسياسة الإسرائيلية والذي قام بتتويجه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن بوعده إلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وتأييده عدم الرجوع إلى ما وراء حدود العام 1967، وحق الإسرائيليين في استبقاء المستوطنات الكبرى تحت ظلال إدارتهم وسيادتهم.

وها هي إدارة الرئيس الحالي باراك أوباما، تمضي على خطى الرئيس السابق، تغض الطرف عن مشروعات الإستيطان الإسرائيلي، وهي تعلم يقينا أنها خطى هدفها تيئيس الفلسطينيين من جهة، وتدمير أية بادرة يمكن أن تكون قد بقيت للسلام.

أخيرا لا آخرا فإن الفلسطينيين ينظرون إلى إخلاء مستوطنات الضفة على أنها أساس لأية تسوية سلمية، ولا ينبغي لها أن تكون بديلا لأي استيطان. وهي أيضا تتمثل في استرجاع كل ما افترسه جدار الفصل الذي أقامته إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، وجعلت منه كاتما على أنفاس الفلسطينيين.

إنها حقهم المشروع الذي كفلته لهم الشرائع السماوية والأرضية، إلى جانب حقوق أخرى يتصدرها حق العودة، وإقامة دولتهم وعاصمتها القدس. إستكمالا، إن حق الفلسطينيين في القدس التي يسعى الإسرائيليون إلى تهويدها بكل طاقاتهم وتغيير كل ما يمت فيها إلى التاريخين الإسلامي والعربي بصلة حق لا يمكن للفلسطينيين أن يتنازلوا عنه أبدا. إن الفلسطينيين ينظرون إلى ما يجري في الأراضي الفلسطينية بعامة، والقدس بخاصة على أنها حرب ديموغرافية، تستهدف وجودهم.

ساعتئذ، وحينما تتحقق هذه الأهداف، يمكن أن يكون هنا سلام. أما ما يتحدث عنه باراك أوباما فهو ليس سلاما، بل هو استسلام وخضوع لشعب لم تقهره الأيام رغم محنه ومصائبه. وإن غدا لناظره قريب.