التغيير الذي نحتاجه في العالم العربي

د. عبد الله تركماني

التغيير الذي نحتاجه في العالم العربي

د. عبد الله تركماني

ما يحتاج إلى التغيير بداية هو أفكارنا بالذات، بمرجعياتها ومسبقاتها وأحكامها. والرهان هو أن نتغيّر في ضوء المتغيّرات، فكراً وعملاً، رؤية ومنهجاً، سياسة واستراتيجية، لإحداث تحويل مثلث الوجه، بحيث نتغيّر به عما نحن عليه. وذلك يتوقف على قدرتنا على تشغيل عقولنا المصادَرة وصرف طاقاتنا المشلولة واستغلال مواردنا بصورة غنية ومثمرة، فعّالة وراهنة، بما نخلقه من الوقائع أو نحققه من الإنجازات أو نحدثه من التحولات في غير مجال من مجالات الحياة.

إنّ مستجدات ما بعد ربيع الثورات العربية تفرض علينا أن نمارس التفكير بصورة نقدية وحرة، مرنة ومفتوحة، مركبة وتداولية، مبتكرة وخصبة، مثمرة وفعالة، من غير مصادرات أو مسبقات، أو دونما تهويل وتهويم وتشبيح، بحيث نكون قادرين على تغيير أنماط تعاملنا مع الذات ومع الغير، من خلال المؤسسات والسياسات ثم مناخ الثقة الذي تصنعه العلاقة بين المؤسسة والسياسة في إطار حكم ديمقراطي يعبر عن إرادة الشعوب.

إنّ الأمر الملحوظ في عالمنا العربي أنّ الفرد أقوى من المؤسسة بينما المطلوب هو العكس تماماً، لأنّ المؤسسة باقية والفرد متغيّر. إلا أنّ التجربة العربية المعاصرة طبعت في الأذهان مفهوم التركيز على الفرد وتضخيم دوره والإقلال من قيمة المؤسسة وجعلها مطية للفرد وأداة لتحقيق طموحاته وأطماعه، بغض النظر عن المصلحة الوطنية العليا. وطالما أنّ الربيع العربي، في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية، أينع حاملاً شعارات الحرية والكرامة للمواطن، فإنّ دولة الثورة يجب أن تقوم على المؤسسات، لا على بضعة أفراد.

إنّ نجاح السياسات مرتبط بكفاءة المؤسسات، التي تعمل تحت مظلة السلطات الرئيسية الثلاث: حيث يلعب البرلمان المنتخب دوره الرقابي والتشريعي، وتمارس السلطة القضائية دورها المستقل، بينما تدير السلطة التنفيذية عجلة الحياة اليومية ودولاب النشاط المستمر.

أما مناخ الثقة، الذي يوفق بين التقاليد المستقرة للمؤسسات والمرونة المطلوبة في السياسات، فإنه لا يتحقق بغير الحريات الواسعة والمشاركة السياسية لكل الأطياف والطرح المستمر للأفكار والمبادرات، التي تحيل الدول العربية إلى قوة فاعلة ولا تجعلها عالة على العصر أو مجرد رد فعل.

إنّ ما يجب أن يقال وينفذ إلى صميم الوعي العربي أنه لن يكون تقدم للعرب في هذا العصر، ولا تحسين لموقفهم حيال التحديات الإسرائيلية والدولية وحيال انشغالات عصرهم كله، إلا بعمليات إصلاح جذري وشامل لأوضاعهم الداخلية في كل مجتمع عربي، بالحرية والتنمية والكرامة.

وكي لا يبقي هدف الثورات العربية غائماً، فلا بد أن تتوافر فيه أربعة شروط: أولها، التأسيس لحياة ديمقراطية دستورية تتجاوز حكم التسلط. وثانيها، تطوير وتطهير الجهاز الحكومي وسائر الإدارات بما يتلاءم ومنطق دولة القانون والمؤسسات، فالديمقراطية وسيلة غايتها الحكومة الرشيدة، وما أكثر الديمقراطيات التي انهارت على أيدي حكومات فاسدة. وثالثها، أن يكون في مقدمة واجبات الحكومات الرشيدة السعي لتحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين، بما يتجاوز معسكري الغنى الفاحش والفقر المدقع ويتفادى تفجير الصراعات الأهلية والنزعات المتطرفة، وانقسام الوطن بين من يملكون ومن لا يملكون. ورابعها، التشريع لمؤسسات مجتمع مدني حرة في ضميرها ورأيها قادرة على الخروج من بوتقة العصبيات التقليدية غير المعقلنة من تكوينات قبلية وطائفية، في إطار من الفكر المنفتح، والحوار المسؤول، والتربية المتوازنة.

إنّ الشعوب العربية لديها اليوم من الحكمة ومن حصيلة التجربة ما يجعلها بمنأى عن إعادة المغامرات الثورية الدموية، وهي تريد إنجاز الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية بأقل الخسائر. ومن الطبيعي أنّ المرحلة الانتقالية، بعد عقود من الجمود، لا تملك عصا سحرية وحلولاً عاجلة لكل شيء، وإنما هي البداية الصحيحة، والخطوة التاريخية السليمة، لفتح الأبواب وتمهيد الطريق لنجاح الانتقال إلى دولة الحق والقانون. والمهم أن يبدأ التوجه الصحيح والمخلص نحو هذا الهدف، من دون تأخير وتسويف، وبعدها فهي مسؤولية الوطن كله ومختلف أطيافه الفكرية والسياسية في نقل المشروع الثوري إلى آفاقه المتوافق عليها.