شد الرحال من تحت أحذية جنود الاحتلال!!

مخلص برزق

[email protected]

ليس أصعب من محاولة إثبات البدهية والمسلمة، وليس الذي ينكر الشمس في رابعة النهار إلا أعمى أو متعامٍ أو بعقله شيء..

وما يحاول البعض تسويقه علينا حول ضرورة عدم ترك المسجد الأقصى لليهود، والتباكي على المقدسيين بخطورة تركهم وحدهم، وضرورة المبادرة إلى رفع معنوياتهم من خلال التوافد على سفارات العدو للحصول على تأشيرات دخول الكيان الغاصب لزيارة القدس والصلاة في المسجد الأقصى، ليس ذلك كله إلا ضرباً من الجنون والخبال إن أحسنّا الظن في دعاته..

وهو حقيقة أحد أشكال الهزيمة والترويج لها وتزيينها بما ليس فيها لا نقبلها أبداً ولو تبنّاها كل من ادعى فهماً أو لبس جبة وعمامة.

وعلى غير عادتي في الكتابة فلن أقدم بقصة أو حدث أو وصف، لأن قلمي لم يكن ليحتمل التروي والتأني في رده بعد رؤية الهباش وهو يخرج علينا عبر أثير العديد من الفضائيات بزعيقه المنكر مزبداً مرعداً متوعداً متطاولاً على العلماء والمشايخ وعلى رأسهم الشيخ الجليل العلامة يوسف القرضاوي أيده الله..

خرج علينا ذلك المصاب بهوس لقب "سيادة الوزير" مع علمه بأنه وزير لاشرعي لوزارة لا شرعية يقودها "زائدة رام الله الدودية" شالوم فياض فلبئس القائد ولبئس المقود..

ما لم يكن بالإمكان احتماله من ذلك الذي تطوع من تلقاء نفسه ليكون وزيراً للسياحة الدينية في حكومة النتن ياهو هو تجرؤه الفظ على الفتوى بغير علم، ووقاحته اللامتناهية في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يجد من يلقمه حجراً.

إنه في سبيل تبريره للخور الذي يعتريه هو وأمثاله تجاه اغتصاب القدس والمسجد الأقصى من قبل اليهود وعدم قيام المسلمين بواجبهم الشرعي المتمثل بالجهاد والقتال بلاهوادة - وليس شيئاً غيره- حتى آخر قطرة دم لتحريرهما..

فإنه يسوّق علينا تلك الهزيمة النفسية بخطوات استخذائية تجاه عدونا تزيدنا خضوعاً وخنوعاً وتزيده سقوطاً في مستنقع التطبيع الآثم مع العدو دون أن يحظى منهم بالرضى التام إلا أن يتبع ملتهم.

تلك الفعلة المنكرة الشنعاء التي ارتكبها الجفري وجمعة وسنّوا بها سنة سيئة لهم وزرها ووزر من عمل بها كان يمكن التغاضي عنها وإهمالها واعتبارها سقطة لأناس ارتضوا أن يدخلوا التاريخ من مزابله وليس من أبوابه فهذا شأنهم وليس لنا أن نذرف عليهم الدموع أو نلطم عليهم الخدود و"الله لا يردهم" بلهجتنا وبلهجة إخواننا اليمنيين: " لا جبرهم ربي".

إن الكارثة لم تكن في سقوطهم فما أكثر الساقطين، ولكنها كانت في القياس الفاسد الذي يفتري على حبيبنا صلى الله عليه وسلم ويصوّر أحداث الحديبية وعمرة القضاء (أو القضية) على غير حقيقتها.

فأول ما يتبادر لمن يسمع لأولئك أن النبي صلى الله عليه وسلم استجدى قريشاً كي يحظى بزيارة للبيت الحرام تحت حرابهم وحكمهم وقهرهم (وحاشاه أن يفعل).. وأنه بذلك شرّع لنا أن نفرق في التعامل مع الأعداء وقت المعركة وخارجها، فلأجل الصلاة في المسجد يهون كل شيء ويباح التعامل معهم والنزول عند حكمهم!!

ذلك القياس الفاسد بني على باطل وكذب وما بني على باطل فهو باطل. أما الحقائق الجلية فهي كما يلي:

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنع عن مجرد التفكير بالذهاب إلى مكة المكرمة عقب هجرته الشريفة وكان الأمر الواضح القاطع لجميع المسلمين بالخروج منها وتركها والهجرة إلى المدينة المنورة.. ذلك أن المسلمين في تلك المرحلة كانوا مستضعفين فيما كفار قريش لهم قوة وشوكة ومنعة..

فكانت أي خطوة باتجاه مكة سلمياً تعني تنازلاً واعترافاً بشرعية سيطرة الكفار على البيت الحرام وهو ما لم يكن أبداً، بل العكس هو الذي حصل من خلال السرايا والغزوات التي استهدفت كفار قريش ونواحي مكة وضواحيها.

وجاء التوقيت الفارق الذي غفل عنه أو تغافل أولئك الذين راق لهم أن يجتزئوا أحداث السيرة على قاعدة: لا تقربوا الصلاة. ذلك التوقيت كان فاصلاً وفيصلاً بين مرحلتين مختلفتين تماماً.. كان المسلمون في أولاهما في فترة التجميع والإعداد والدفاع عن النفس. وامتدت من بداية البعثة حتى نهاية غزوة الأحزاب.

أما المرحلة الثانية فقد دشنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب انتهاء غزوة الأحزاب بقوله: "الآن نغزوهم ولا يغزونا".. وفيها وصل المسلمون إلى مستوى من القوة يكافئ خصمهم ويؤهلهم لإلقاء قفاز التحدي والمناكفة وهو ماكان، فكل الوقائع بعد غزوة الأحزاب كانت للمسلمين اليد العليا وكانوا في حالة هجوم لادفاع ولا استخذاء.

وهنا مربط الفرس فعمرة الحديبية جاءت عقب أحداث عظيمة سحق فيها المسلمون حلفاء قريش من يهود بني قريظة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بعدها بأمر من الله تعالى عندما رأى أنه دخل البيت وحلق رأسه وأخذ مفتاح البيت، وعرّف مع المعرّفين (وقف بعرفة).. فلم يكن خروجه ثمرة مفاوضات ماراثونية مع قريش ولا نتيجة وساطة دولية أو قَبلية معهم.

لم يكن يسعى لدخول مكة بتأشيرة من كفار قريش وأختام تفرض على حاملها احترام سيادة أصحاب الأختام والإقرار لهم بها وبشرعية كل ما استحدثوه على الأرض!!

كانت عمرة الحديبية في حقيقتها أول هجوم مباغت للنبي صلى الله عليه وسلم على قلب مكة مباشرة.. وكان فيها استفزازاً عظيماً لكفار قريش ومن يقرأ لكتاب السير لا يصعب عليه استشفاف ذلك دون عناء.

فقد جاء في إمتاع الأسماع للمقريزي عن عمرة الحديبية: "وخرج المسلمون لا يشكّون في الفتح -للرؤيا المذكورة-". وذلك يدل على أن نفسية الصحابة كانت متعلقة بالفتح والانتصار على الخصم..

وجاء أيضاً: "ومرّ فيما بين مكة والمدينة بالأعراب من بني بكر ومزينة وجهينة فاستنفرهم، فتشاغلوا بأبنائهم وأموالهم، وقالوا فيما بينهم: أيريد محمد أن يغزوا بنا إلى قوم معدين في الكراع والسلاح؟ وإنما محمد وأصحابه أكلة جزور! لن يرجع محمد وأصحابه من سفرهم هذا أبداً!" إنها المقولة التي جاءت بها آيات سورة الفتح، وهي تدل على نفسية المتابعين للحدث -بغض النظر عن طبيعتهم وانتمائهم- إذ كان تقييمهم لما يجري أنه غزوٌ من محمد صلى الله عليه وسلم لمكة.

ولعل ما يجسد الذي ذكرناه عبارة وردت في الإمتاع أيضاً: "وبلغ أهل مكة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فراعهم ذلك،.......... وأجمعوا على منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخول مكة ومحاربته".. فهل ارتاع الكيان الغاصب لدعوة الهباش وتزلزل من وطء أقدام الجفري وجمعة.. أم أنهم هشّوا وبشّوا لذلك؟

وجاء فيه: "واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس: هل يمضي لوجهه ويقاتل من صده عن البيت، أو يخالف الذين الذين استنفروا إلى أهليهم فيصيبهم؟ فأشار أبو بكر رضي الله عنه أن يمضوا لوجوههم، ويقاتلوا من صدهم." إنه التحدي والتصميم على غزو قريش في عقر دارها وليس كما يزعم أولئك المتفيهقون.

وقد غفل أو تغافل أولئك عن دلالة تلك الصلاة الفريدة التي صلاها المسلمون في مواجهة المشركين بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه فكانت أول صلاة للخوف لهم وهي التي شرعت في أجواء الحرب والقتال والمعارك والتقاء الجيوش.

كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم للحديبية تكتيكاً عسكرياً فذّاً أراد من خلاله مباغتة قريش وزعزعتها أمام سائر قبائل العرب مستفيداً من قانون أقرته قريش وأجمع عليه العرب جميعاً بأن تسمح لأي قاصد للبيت الحرام بغية تعظيمه وزيارته حجاً أو عمرة بدخوله كائناً من كان في مقابل امتيازات خاصة لقوافلها هنا وهناك، وقانون آخر أو مادة في قانون دولي يحتم عليها السماح لكل من يجتاز حدود الحرم بدخول مكة وعدم جواز رفع السلاح عليه أو منعه..

ولأن الله تعالى هو الذي أوحى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالخروج فقد كان وقوف المسلمين على بعد خطوات من حدود الحرم بتدبير إلهي وحكمة ربانية.. فقد بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دنا من الحديبية فقال الناس:" خلأت القصواء، فقال: "إنها ما خلأت، ولا هو لها بعادة، ولكن حبسها حابس الفيل".

وفي مغازي الواقدي وردت محاورة بين بديل بن ورقاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم أراد فيها بديل تخويف رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: قد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، معهم العوذ المطافيل - النساء والصبيان - يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تبيد خضراؤهم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نأت لقتال أحد، إنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه؛ وقريشٌ قومٌ قد أضرت بهم الحرب ونهكتهم، فإن شاءوا ماددتهم مدةً يأمنون فيها، ويخلون فيما بيننا وبين الناس، والناس أكثر منهم، فإن ظهر أمري على الناس كانوا بين أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، أو يقاتلوا وقد جمعوا! والله لأجهدن على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو ينفذ الله أمره! إنها العزة التي لاحدود لها والعزيمة التي لا يقف في وجهها شيء..

وهاهو مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول عن مهمته التي أنجزها داخل مكة: كنت أدخل على قوم مؤمنين من رجالٍ ونساءٍ مستضعفين فأقول: إن رسول الله يبشركم بالفتح ويقول: " أظلكم حتى لا يستخفى بمكة الإيمان ". فقد كنت أرى الرجل منهم والمرأة تنتحب حتى أظن أنه يموت فرحاً بما أخبرته، فيسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخفي المسألة، ويشتد ذلك على أنفسهم، ويقولون: اقرأ على رسول الله منا السلام؛ إن الذي أنزله بالحديبيية لقادرٌ على أن يدخله بطن مكة!

إنه فهم لتلك الغزوة فالذي أنزله الحديبية عزيزاً كريماً قادر أن يدخله بطن مكة فاتحاً..

وفي عمرة الحديبية ما يرد على هذيان الداعين لشد الرحال إلى الأقصى من تحت أحذية الاحتلال.. فتمنع عثمان بن عفان رضي الله عنه عن الطواف حول البيت رغم سماح مشركي قريش بذلك تضامناً مع جماعة المسلمين وقائدهم وإمامهم والتزاماً بما توافق عليه المسلمين وتقديماً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة.. ذلك الموقف بحاجة لوقفة طويلة من العلماء والفقهاء لاستنباط الأحكام والتأصيل منه.. فلايسع أحداً عندها أن يتشدق بشوقه المزعوم للصلاة في الأقصى.. وكأن أمة المليار ونصف لا تتحرق شوقاً لذلك!!

ما أجمل مادار بين المسلمين وحبيبهم صلى الله عليه وسلم في ذلك.

قال المسلمون: يا رسول الله، وصل عثمان إلى البيت فطاف!

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظن عثمان يطوف بالبيت ونحن محصورون.

قالوا: يا رسول الله، وما يمنعه وقد وصل إلى البيت؟

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ظني به ألا يطوف حتى نطوف.

فلما رجع عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: اشتفيت من البيت يا عبد الله!

قال عثمان: بئس ما ظننتم بي! لو كنت بها سنةً والنبي مقيمٌ بالحديبية ما طفت، ولقد دعتني قريشٌ إلى أن أطوف فأبيت ذلك عليها.

فقال المسلمون: لرسول الله كان أعلمنا بالله تعالى وأحسننا ظناً.

وفي هذه العمرة بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً قتلت عثمان بن عفان رضي الله عنه فبايع الناس بيعة الموت وعنها تخبر أم عمارة فتقول (في مغازي الواقدي): مرّ بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً في منزلنا. قالت: فظننت أنه يريد حاجةً فإذا هو قد بلغه أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قد قتل.

فجلس في رحالنا ثم قال: إن الله أمرني بالبيعة. قالت: فأقبل الناس يبايعونه في رحالنا حتى تداكّ الناس، فما بقي لنا متاعٌ إلا وطىء!

وقالت: فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يومئذٍ. قالت: فكأني أنظر إلى المسلمين قد تلبسوا السلاح، وهو معنا قليلٌ؛ إنما خرجنا عماراً، فأنا أنظر إلى غزية ابن عمرو وقد توشح بالسيف، فقمت إلى عمودٍ كنا نستظل به فأخذته في يدي، ومعي سكين قد شددته في وسطي، فقلت: إن دنا مني أحدٌ رجوت أن أقتله.

بيعة مشهودة على الموت لأجل رجل واحد لأن الزمن قد تغير وهم في مرحلة الهجوم لا الدفاع كما ذكرت سابقاً وهو ما يجعلهم يتزاحمون عليها رجالاً ونساءً لأنهم طلاب عز وكرامة ورفعة بطلبهم الشهادة في سبيل الله..

أما العمرة التي دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أثناء حكم المشركين لمكة فلنا في اسمها دلالات كبيرة فعنها كتب المقريزي: "ثم كانت عمرة القضية، وتسمى عمرة القضاء، وغزوة القضاء، وعمرة الصلح، وعمرة القصاص" قال مجاهد في تفسير الآية: "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص" فحزنت قريش لردها رسول الله يوم الحديبية محرماً في ذي القعدة عن البلد الحرام، فأدخله الله مكة من العام القابل فقضى عمرته وأقصه ما حيل بينه وبين يوم الحديبية". وكان المسلمون في عمرة القضية ألفين!!

والمطلع على تفاصيل تلك العمرة يتضح له ذلك القياس الفاسد الذي ساقه الانهزاميون في تبريرهم لشد الرحال من تحت أحذية النتن ياهو وليبرمان.. فقريش كما أورد المقريزي تملكها الرعب بعد أن رأى نفر منهم سلاحاً كثيراً مع بشير بن سعد فعادوا لمكة وأخبروا قريشاً بذلك ففزعوا وقالوا: والله ما أحدثنا حدثاً ففيم يغزونا محمد؟ وأرسلوا إليه: "يا محمد! والله ما عرفت صغيراً ولا كبيراً بالغدر! تدخل السلاح بالحرم! وقد شرطت ألا تدخل إلا بسلاح المسافر، السيوف في القرب؟!

فقال: "إني لا أدخل عليهم السلاح. فخرجت قريش إلى رؤوس الجبال، وقالوا لاننظر إليه ولا إلى أصحابه.

وقد كان دخوله دخول الفاتحين المنتصرين يحيط به أصحابه رضي الله عنهم بسلاحهم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رحمهم الله، جاء في المغازي عن ذلك الحدث: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء، وأصحابه محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، متوشحو السيوف يلبّون.

عن أم عمارة، قالت: شهدت عمرة القضية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت قد شهدت الحديبية، فكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى البيت، وهو على راحلته وابن رواحة آخذٌ بزمام راحلته - وقد صف له المسلمون - حين دنا من الركن حتى انتهى إليه، فاستلم الركن بمحجنه مضطبعاً بثوبه، على راحلته، والمسلمون يطوفون معه قد اضطبعوا بثيابهم، وعبد الله بن رواحة يقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله ... إني شهدت أنه رسوله

حقاً وكل الخير في سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله ... ضرباً يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله

فقال عمر بن الخطاب: يا ابن رواحة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر، إني أسمع! فأسكت عمر.

إنها عمرة تحدّ ومناكفة ومقارعة، وليست سياحة دينية، أو خطوات تطبيعية..

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي في طوافه قائلاً: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده" والناس يقولون مثله..

جاءت عمرة القضية بعد الانتصار المدوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر وقضائه المبرم على العلو اليهودي وتفرغه بذلك لمشركي قريش، فدخل عليهم دخول قوي عزيز منتصر وهو ما لا يجوز قياسه أبداً بحال المسلمين الآن مع مغتصبي القدس وفلسطين!

إن الاستدلال بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة في ظل اغتصاب المشركين لها هو استدلال فاسد فأولئك المشركين كانوا أصحاب الأرض وسكانها منذ القدم ولم يكونوا غزاة محتلين كاليهود الغاصبين لفلسطين.

كما أن دخول مكة حينها لم يكن يترتب عليه أي منة وفضل من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجود قانون متعارف عليه يلزمهم بالسماح لكل قاصد بيت الله الحرام بدخوله، فكان من حكمة وحنكة الرسول صلى الله عليه وسلم استخدامه لذلك القانون سلاحاً ماضياً في وجه قريش بتوقيت مدروس وأثر بالغ ملموس.

وقد يتشدق البعض متسائلاً عن السر في توجه النبي صلى الله عليه وسلم لمكة معتمراً وليس فاتحاً مع قولنا بأنه كان في أوج قوته وجاهزيته لذلك، فنرد بأن من يسأل عن ذلك لا يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يفهم سيرته وسنته، فالرحمة المهداة كان يقدم كل الوسائل السلمية قبل اتخاذ قرار الحرب، وهو ما فعله في غزواته كلها وأوصى قادته بذلك.

فهذا علي رضي الله عنه يستلم الراية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسأله: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟

فقال: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحد، خير لك من أن يكون لك حمر النعم).

(صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 4210)..

ومن هنا فقد كانت عمرة الحديبية وعمرة القضاء وسيلة نافذة لزعزعة الصف الداخلي لكفار قريش يتم استنقاذ عناصر مهمة منهم من معسكر الكفر إلى صف الإسلام قبيل توجيه الضربة القاضية، وقد كان.

فقد كان من أهم ثمرات تلك العمرة (الغزوة) دخول خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة وغيرهم الإسلام، وذلك ساهم كثيراً في جعل الفتح أكثر سلاسة بعد ذلك وأقل خسائر في الدماء من الجانبين.

ونصل هنا إلى نتيجة قاطعة بأن ما يسميه البعض زيارة للنبي صلى الله عليه وسلم لمكة قبيل الفتح لم يكن سوى غزوة عسكرية لا يجوز قياسها أبداً بزيارة المسجد الأقصى وهو تحت الاحتلال اليهودي. وأولئك الذين يدّعون استلهامهم لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعظمون الفرية والإفك عليه ويتحملون بذلك أوزاراً مع أوزارهم، وآثاماً مع آثامهم.

ولا والله ما هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هي سنة المجرم الهالك معمر القذافي الذي أرسل نفراً من أتباعه عام 1993 لزيارة الأقصى في واحدة من شطحاته وهلوساته التي لا يتبعها إلا من كان على شاكلته.. فليرقبوا نهاية بائسة مخزية كنهايته..

سندخل المسجد الأقصى، ولكن ليس من تحت أحذية جنود الاحتلال المغضوب عليهم، بل من خلال موعود الله كما دخلناه أول مرة، دخول أبي عبيدة وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهم.. بجهاد لا هوادة فيه وعزة تطاول السماء..

سندخله مهللين مكبرين محررين.. في يوم نراه قريباً ويراه المهزومون المتخاذلون بعيداً.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.