درس في الشيطنة

فهمي هويدي

ظهر الخبير الأمريكي على شاشة التلفزيون ليشرح للمشاهدين ما يمثله المسلمون من خطر على أوروبا. ومن وجهة نظر القناة التي دعته (فوكس نيوز) فقد كان الرجل هو الأنسب الذي بوسعه التحدث في الموضوع، باعتبار تخصصه الذي اشتهر به كأحد أهم الخبراء البارزين في شؤون الشبكات الإرهابية المسلمة، وهو من أنشأ مؤسسة لهذا الغرض. ومنح جائزة ذات مرة (في تسعينيات القرن الماضي) لأنه أعد فيلما وثائقيا حول «الجهاد في أمريكا»، عالج حملات جمع التبرعات بين المسلمين في الولايات المتحدة لصالح دعم المقاومة الفلسطينية والجهاد الأفغاني.

وبسبب خبرته تلك فإنه لم يعد يقدم للمشاهدين الأمريكيين على شاشات التلفزيون فحسب، ولكنه صار ناصحا ومستشارا لعدد من المؤسسات الأمريكية الحكومية وأجهزة الأمن وأعضاء الكونجرس. على الأقل فذلك ما يقوله عنه موقعه الإلكتروني.

الخبير المذكور هو ستيف إيمرسون الذي لم يخف عداءه للإسلام والمسلمين يوما ما. وكنت قد سمعت باسمه ودوره حين زرت الولايات المتحدة قبل عشرين عاما، الأمر الذي يعني أنه سبق بنحو عقدين من الزمان حملة بعض الغلاة الأوروبيين التي أطلقت التحذير من أسلمة أوروبا.

حين دعت قناة فوكس نيوز صاحبنا الخبير لكي يعقب على حادث الهجوم على المجلة الباريسية، فإنه قال بصوت الواثق العارف: إن المسألة تتجاوز باريس والمجلة، لأن الخطر يعم فرنسا كلها، بل يتجاوزها إلى أوروبا، خصوصا بريطانيا. وفي استعراضه لمعلوماته ذكر أن في فرنسا أماكن سيطر عليها المسلمون المتطرفون بصورة كاملة. حتى أصبحت محظورة على غير المسلمين. وقال إن هذه الأماكن التي تعد بالمئات لا تدخلها الشرطة الفرنسية وتقام فيها محاكم شرعية إسلامية، تطبق الحدود وتفرضها على السكان. أضاف الرجل أن الأمر ذاته حاصل في إنجلترا، حيث توجد هناك مناطق محددة محظورة على غير المسلمين، وضرب مثلا بمدينة بيرمنجهام التي قال إنها أصبحت مسلمة بالكامل، ولا يدخلها غير المسلمين. مضيفا أن مئات المناطق في لندن توجد بها شرطة دينية يقوم رجالها بالاعتداء بالضرب على من لا يلتزم باللباس الإسلامي.

هذه التفاصيل أثارت دهشة المذيعة، فما كان منها إلا أن علقت على كلامه بسؤال قالت فيه: هل معنى ذلك أنه توجد الآن خلافة إسلامية داخل بعض الدول الأوروبية؟ إلا أن ما ذكره الخبير الأمريكي صدم البريطانيين وأثار بينهم عاصفة من الاستهجان والسخرية، لسبب جوهري هو أنه كان كاذبا في كل ما ذكره عن بلادهم. والذين كذبوه لم يكونوا ممثلي الجاليات الإسلامية، ولكن البريطانيين أنفسهم هم من شدد الحملة ضد الرجل. فرئيس الوزراء ديفيد كاميرون علق على كلامه في مقابلة أجرتها معه قناة «اي تي في» قائلا: حين سمعته يتكلم لم أستطع بلع طعام الإفطار. وظننت أنها «كذبة أبريل». ووجدت أن الرجل لم يكن كاذبا فحسب ولكنه كان غبيا تماما. ثم أضاف أنه حين سارع بالاعتذار عما قاله، فقد خفف من وقع كلامه، لكن يجب عليه أيضا أن يرى برمنجهام الحقيقية ليدرك أنها تمثل نموذجا رائعا للتعايش والتفاهم بين أناس ينتمون إلى معتقدات مختلفة وخلفيات متباينة، ونجحوا في بناء مدينة رائعة تفخر باقتصادها القوي.

إذا كان ذلك رأي رئيس الوزراء البريطاني، فلك أن تتصور طوفان التعليقات التي نددت بأكاذيب «الخبير» الأمريكي وسخرت منه فيما تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي. وكانت منها صورة وضعت للاعب الكريكيت البريطاني معين علي، ظهر فيها بلباس اللعب وقد تدلت من وجهه لحية طويلة، وتحتها تعليق يقول: صورة مخيفة لمسلم يقوم بحماية أبواب برمنجهام من الكفار. وفي تعليق آخر قال أحدهم موجها حديثه إلى إيمرسون: إذا أردت زيارة برمنجهام فسأقوم بمرافقتك للسماح لك بدخولها. وفي تعليق ذاع أمره ظهرت صورة للملكة إليزابيث وقد غطت شعر رأسها بإيشارب. وتحتها تعليق يقول إنها قامت بتغطية رأسها حين زارت برمنجهام.

بسبب الضجة التي لم يتوقعها الرجل، فإنه أصدر اعتذارا قال فيه إنه كان «مخطئا بالكامل». وذكر أنه سيقوم بالتبرع لأحد مستشفيات الأطفال كنوع من الاعتذار العلني. ثم أضاف أن خطأه راجع إلى أنه اعتمد في معلوماته على آخرين «وكان يجب أن أكون أكثر حذرا. ولا يوجد تبرير لذلك الخطأ. لذا أتقدم بالاعتذار لكل سكان المدينة»، في الوقت ذاته فإن قناة فوكس نيوز أصدرت تصحيحا ذكرت فيه أن نسبة المسلمين في برمنجهام 21٪ وليست مائة في المائة كما ورد في البرنامج،

القصة تقدم نموذجا لشيطنة المسلمين الحاصلة في الغرب. لكنها في الوقت ذاته تفضح الخبير الكذوب الذي دأب على استغلال طيبة الشعب الأمريكي وسذاجة أغلبهم، لكي يروج بضاعته، ولكن أمره انفضح حين تحدث عن مجتمع أفضل وعيا في بريطانيا. في الوقت ذاته فإن القصة تذكرنا بجيل الخبراء الإستراتيجيين وغير الإستراتيجيين الذين أصبحوا يظهرون في قنواتنا العربية مؤخرا، للإفتاء في أمور الدنيا والدين. في حين لا يختلفون في معلوماتهم عن حصيلة السيد ستيف إيمرسون. مع فارق أساسي هو أن تلك القنوات تصر على استضافتهم لأسباب مفهومة، ولا تسمح لأحد بالرد عليهم وفضح أكاذيبهم، لأنها تصدر مضبوطة على اتجاهات الريح السياسية.