دعوة إلى الهجرة إلى الوطن

كلام يجب أن يتحمل مسئوليته أحد:

زهير سالم

[email protected]

أعلم صعوبة أن يكتب هذا الكلام إنسان مقيم في لندن يمكن أن يقال إنه متكئ على أريكته. إنسان سبق له منذ عام 1979 أن خرج أو أُخرج من وطنه تحت سطوة الإرهاب. ولكن ما يُكتب هنا كلام يجب أن يقال ، ويجب أن تتحمل مسئوليته جهة ما  لكي لا تتكرر المأساة مرة أخرى .

ما جرى في سورية في منذ 1979 – 1982 لم يكن قرارا لصاحب قرار. ومع ذلك فقد كان كاتب هذا الكلام يقول لبعض خاصته: (عندما هربنا... ) كانت هذه الكلمة تثير غضب البعض ، واحتجاج آخرين ، وتخريج فريق ثالث ؛ ولكن ولأن الحقيقة تقتضي أن نسمي الأشياء بأسمائها فما زالت أعتبر أن الكلمة كانت هي الكلمة المناسبة للتعبير عما حصل في ذلك الزمان ، ولأقول وهي الكلمة المناسبة للتعبير عن الحالة المماثلة اليوم بعد ثلاثة وثلاثين عاما . هذه الحقيقة لا تشمل بالتأكيد المستضعفين من النساء والولدان ، كما لا تشمل الجرحى والمصابين والمعذورين...

ولأن ما فعلناه في ذلك الوقت بالنزوح من وطننا كانت له انعكاساته السلبية بعيدة المدى على أكثر من مستوى ، ومنها طريقة إدارة الصراع في تلك الأيام ؛ فإن علينا أن نحذر أن نلدغ من جحر مرتين في هذه الأيام..

تقول العامة في بلادنا : ( الحجر في موضعه قنطار ). وتقول العرب ( كل ديك على مزبنته صياح ). والإنسان في وطنه مواطن ، وإن لم يشارك في أي نشاط . هو قوة مذخورة أو مخبوءة ، أو فعل مؤجل ، وهو ، إن شارك في رأي أو في تظاهرة أو في نشاط إنساني ، جندي بكل مدلولات  الجندية ؛ بينما هو خارج وطنه مجرد لاجئ. وعبء ، وطاعم كاس كما تقول العرب. كلمة نقولها لأنفسنا قبل أن تقولها لنا الناس .

تفرض على الإنسان في وطنه محنة قد تكون قاسية وصعبة ، وقد يدفع ثمنا أو يهدد بدفعه ثم إذا خرج تحول إلى عابد الحرمين إن كان رجل عبادة قديما قيل فيه:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا...لعلمت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه    فنحورنا بدمائنا تتخضب..

أبيات يخاطبنا بها تقريعا مجاهدو حمص وأحيائها وأهالي بابا عمرو وحماة وإدلب وجبل الزاوية ودرعا ودير الزور واللاذقية وسقبة ورنكوس والزبداني ومضايا  وعندان وتل رفعت وأتارب وأكاد أقول ودمشق وحلب...

على الصعيد العملياتي...

فإننا مهما تحدثنا عن حجم مخيمات اللجوء كورقة ضغط على النظام ، تخبر العالم كله أن في سورية مشكلة أو قضية أو أزمة فإن قيمة  هذا الإخبار لن تتعدى سقف استدرار شفقة المشفقين وإحسان المحسنين. والمطلوب فيما نحن فيه أن نكتسب احترام العالم كشعب يملك الإرادة ويملك العزيمة والتصميم ، وهو مستعد للتضحية بكل شيء في سبيل استعادة حقوقه الإنسانية : الكرامة التي سلبت منه ، والحرية التي حرم منها.

لا أظن  بشار الأسد سيغضب ، أو سيشعر بالحرج ، أو سيدر له عرق ؛ فيما لو قيل هناك خمسة ملايين أو عشرة ملايين سوري مهجرين أو لاجئين ، يتصدق عليهم محسنو العالم ، بل سيشعر أنه تخلص منهم أولا ، وأنه صدّر أزمته أو مشكلته بعيدا عنه ، وأنه أضاف إلى أعباء جيرانه القريبين والبعيدين أعباء إضافية ، وهو سيظل يحرّض على هؤلاء المهجرين  ويضيق عليهم كما فعل مع من سبقهم من قبل. خلال ثلاثين عاما كان هو وأبوه من قبل يقولان إذا ذكرا بحق المواطنين المهجرين بالعودة إلى وطنهم : نحن مرتاحون بدونهم ، وقد تخلصنا منهم ، ولا أحد يريد لنفسه صداعا في رأسه. أستحضر هذا للذين يؤملون : أن يعودوا إذا خرجوا غدا أو بعد غد. إذا خرجت من وطنك فكأنك تنتظر من أخيك أن يقاتل عنك ليعيدك إليه. وربنا تبارك وتعالى يقول ( وتعاونوا على البر والتقوى ..) أوليس أمر هذه الثورة من البر والتقوى الذي أمرنا بالتعاون عليه ؟!

والأهم من كل ذلك ستفقد هذه الثورة المباركة بهجرة الرجال عن أرضهم وديارهم  جنودها وقواها المحركة والمحرضة ، وستخبو – لا سمح الله – جذوتها ، وسنكون جميعا مسئولين عن دماء الشهداء ، وعذابات الممتحنين.

إن تفريغ الساحة من الرجال  هو في هذا التوقيت  بمثابة التخلي عن الثغرة ، والاكتفاء بالغناء للثورة ، والتصفيق لها من بعيد !! وربما قذف الشيطان الرجيم بما شاء البعض من أوصاف على طريقة من قال : أوسعتهم سبا وأودوا بالإبل. فإذا بقي بشار الأسد في السلطة محافظا على مكاسبه فلا يهمه ولا يحزنه ما يكتبه زهير ولا عشرة آلاف كاتب أقدر من زهير ، ولا يهمه ولا تضيق عليه تصريحات كل ساسة العالم بأنه مجرم حرب أو كاد ان يكون..!!

ولأنه لا رأي لمن لا يطاع...

فإن المطلوب من قيادات المعارضة أن تجد سبيلها لوقف نزيف الطاقات من ميدان النضال. لا بد من استراتيجية موقف واستراتيجية خطاب تضع حدا لتحول الرجال من ساحة الصراع إلى رطوبة المخيمات. دون أن ننسى تنظيم حسن الرعاية للقيام على الأسر من النساء والأطفال ؛ وحبذا لو تستقل بهذا الأمر مدبرات من الناشطات والنساء.

وإن من المأمول أن تجد قيادات المعارضة طريقها لشد الرحال إلى ميدان الصراع ، فالصراع عن بعد لن ينفع ، وقيادة المتكئ للحراك الملتهب لن تجدي .  المطلوب من أصحاب القرار  أن يضعوا الاستراتيجية العملياتية ، من خلال خطط سياسية وميدانية لإيجاد موطئ قدم ، أو قبة يجتمع تحتها المناضلون المستعدون للتضحية من أجل التغيير. إن الأمل بالنصر والتبشير به تحتاج إلى حركة عبور معاكسة لما جرى ويجري. فإذا كان في الخروج من الوطن شكل من أشكال التعبير السلبي عن الحال؛ فإن العبور في الاتجاه المعاكس سيقطع على الخراصين حلم الشيطان. مطلوب من فريق الهندسة الميدانية – سياسيا – نصب جسور العبور، وتأمين نقطة الانطلاق .

إن حركة عبور آلاف الناشطين من كل دول العالم باتجاه المركز ستغير بلا شك ميزان القوة على الأرض. شرط أن يعود الأفراد وتعود القيادات في وقت معا ..

إن الإيمان بجدلية الثورة  سيوفر على الثائرين الكثير ، وسيعفيهم من الكثير ، وسيريحهم من الكثير. وهذا كلام جد ليس بالهزل ، لو تأمله الذين يعلمون ..

يصعب على الإنسان أن يطيّب الموت للآخرين وهو في عافية منه. والانضمام إلى حضن الثوار ليس هو الطريق الأقصر لنصرة الثورة فقط ، بل هو الطريق الأقصر للتخفف من الكثير من الأعباء.و سيصهر الوطيس المتقد الكثير من مشكلات الادعاء والخلاف والاختلاف.

 كلما نظرت إلى رجل رأي أو فكر أو مكانة ينضم إلى أوراق الغصن المقطوع الجافة أتساءل : عن قواعد علم الحساب ، وعن طرائق روز الأوزان ، و عن قوانين الميكانيكا في  تحديد مركز الثقل واستقراره وتوازنه. كم تخسر الثورة حين تخبو نجومها ؟! وتتحول رموزها إلى بعض الأعباء؟! ولا يجد شبابها المتقدم إلى الموت بخيلاء في الميدان ظل الأب وصدره وسداد رأيه ..؟!

أرض الوطن اليوم  هي ميدان الثورة وهي ساحة الصراع  لا يغادرها ثائر إلا لضرورة وبقرار ، والعمل لإيجاد موطئ قدم جماعية على هذه الأرض ضرورة استراتيجية في صراع يبدو أنه لن يحسم عن بعد مهما ارتفع سقف الرغبات والأمنيات ..

ولا تخفى في ثنايا هذا القول العوائق والسلبيات والعقبات. أديروها على موائدكم يا أولي الأبصار...

               

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية