قراءة نقدية في مسرحية المنشية

قراءة نقدية في مسرحية المنشية

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

يعد "تشرشل" معْـلما ضخمًا من معالم الأمة البريطانية، فهو الذي حقق لها أعز نصر في تاريخها، بل تاريخ العالم الغربي كله، وكان الرجل وقورًا بعيدً النظر، قليل الكلام، وكثير من كلامه يمثل حكمًا أو قواعد عفوية في مجال السياسية والمجتمع، ومازلت أذكر من كلماته: "أبحث عن حقيقة الأمة في حبر المطابع وصفحات الصحف" فلما قيل له: "ولكن من الصحف المأجور والمرتشي"، قال: إنما أعني الصحف "سيدة صوتها" لا الصحف "صوت سيدها".

ولم يبالغ السياسي البريطاني المحنك العجوز، فالصحف هي مرآة الأمة، وهي مصدر أصيل لتاريخها ونبضها ومكانها على أرض الواقع، وإن كنت "أتحفظ" على الشطر الأخير من كلامه، مما يدفعني إلى التعميم فأقول: أبحث عن حقيقة الأمة في صحفها حتى تلك التي تسلك سبل الكذب والزيف، وتعيش على "صوت سيدها"، وتضع الباطل مكان الحق، وتستحل كل حرام مرفوض، فالحقيقة قد تخفي عامًا أو عامين، أو عقدًا أو عقدين، أو أكثر من ذلك، ولكن سيأتي اليوم الذي تكشف فيه عن نفسها بالنظر الواعي والفكر البصير، وتطل برأسها عارية صافية بلا خفاء أو رتوش، وصدق الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى إذا قال:

ومهما تكُنْ عندَ امرئ من خَلِيقةٍ= وإن خالَها تخْفي على الناسِ تُعْلم

فالتاريخ الحقيقي للأمة تصنعه الصفحات الطيبة الصادقة، والصفحات الكاذبة المنافقة الزائفة، ومن "مجموع الصحائف الأضداد" تستخلص الحقيقة الناصعة الشامخة، لتبقى خالدة، ويسقط أعداؤها من الكذبة والمزيفين في قمامة التاريخ.

ذكرى المسرحية الساقطة

قفز إلى ذهني هذا الخاطر بمناسبة مرور أكثر من نصف قرن على أخس مسرحية عرضت في تاريخنا السياسي كله، والتي سموها "جريمة المنشية" أو "محاولة اغتيال الزعيم جمال عبدالناصر" وهي مسرحية استكملت –على خستها وسقوطها- المعروف من العناصر المسرحية أو التمثيلية كالشخصيات المحورية والشخصيات الثانوية، والكورس أو الجوقة، والنص والسيناريو.. إلخ.

ولكن هذه المسرحية لم تنته بأداء الأدوار المحفوظة، بل ظل لها "توابع تتشبث بها، إلى أن كان السقوط الكبير الذي نسف المسرح والممثلين والجمهور.

أم المساخر..!!

ولتبدأ المسرحية الأم:

الزمان: مساء 26 أكتوبر 1954م.

المكان: (مسرح الأحداث) ميدان المنشية بالإسكندرية.

الشخصية والحدث الرئيسي: جمال عبد الناصر يخطب في الجمهور الكثيف الذي استورد أغلبه من عمال مديرية التحرير وموظفيها، وكان يقف في شرفة مبنى "هيئة التحرير" حزب الحكومة.

وفجأة سمع صوت رصاصات قيل إنها أطلقت على الزعيم ولكنها اخطأته، ولم يصب إلا بعض ضيوف عبد الناصر بخدوش.

وتتحول كلمات عبد الناصر إلى صرخات هستيرية، ويقبض على من قيل إنه أطلق الرصاص، واسمه "محمود عبد اللطيف"، وفتحت السجون أبوابها لتستقبل آلافا من الإخوان المسلمين، والباقي معروف، وقد فصل القول فيه – بمصداقية- عدد من الكتاب العدول منهم بعض رجال الثورة، فمحمد نجيب الذي كان رئيسا للجمهورية كان يقسم بشرفه العسكري بأن حادث المنشية مفتعل، ومن أصدق الشهادات في هذا الحادث شهادة محمد حسن التهامي –رجل المخابرات، وعضو مجلس الثورة المعروف- الذي كتب في مجلة "روزاليوسف" المصرية بتاريخ 1/5/1978م بأن حادث المنشية مسرحية أخرجها أحد رجال المخابرات الأمريكية.

سيناريو الصحافة القومية

 ونعود إلى كلمات تشرشل عن دور الصحافة في تصوير واقع الأمة، وقد جعلنا له امتدادًا يصدق على الصحافة التي هي "صوت سيدها" المسماة بالصحافة القومية "تغطي الواقعة" وتوابعها تغطية مفصلة شاملة، ولكن من وجهة نظر سيدها، وأذيال سيدها وحوارييه.

واليوم –وقد مضى على هذه المسرحية الخائبة الخسيسة مايزيد على نصف قرن- نعتذر للقارئ إذ نعيد في هذه السطور فصولها ومناظرها متتابعة تتابعًا زمنيا، ومنهجنا في هذا العرض يعتمد على ركيزتين هما:

1-تقديم سيناريو هذه المسرحية بنصه نقلا عن أشهر صحيفة "قومية" وهي صحيفة "الأهرام" القاهرية، التي كانت –ومازالت- أوسع الصحف المصرية وربما العربية انتشارًا.

2- عدم التدخل بالتعديل أو الحذف من هذه النصوص، ولكن بالتعقيب" –في حالة الضرورة- ملتزمًا الإيجاز بقدر المستطاع.

الفصل الأول

رصاصات.. ولكن في الهواء

العناوين الرئيسية في صحيفة الأهرام في 27 أكتوبر 1954م:

- محاولة أثيمة لاغتيال الرئيس عبد الناصر.

- عامل من الإخوان يطلق عليه 8 رصاصات في ميدان المنشية.

- الرئيس ينجو من الاعتداء ويقول: إنه يهب دمه وروحه في سبيل عزة الوطن وحريته.

- القبض على الجاني بعد إنقاذه من ثورة الجماهير، واعتقال 3 آخرين من الإخوان.

وتحت العناوين السابقة يأتي التفصيل الآتي:

أطلق عامل ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين ثماني رصاصات على الرئيس جمال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية أمس، وكان الرئيس قد بدأ يخطب في الحفل الذي أقامته هيئة التحرير لتكريمه وتكريم زملائه من قادة الثورة، ولم يبلغ الجاني مأربه إذ نجا الرئيس من الرصاصات الغادرة، وقد أصيب وزير المعارف بالسودان، والسكرتير المساعد لهيئة التحرير بعدة جراح من شظايا ألواح الزجاج التي تناثرت من أثر إطلاق الرصاص.

وعقب الرئيس عبد الناصر على الفور على محاولة اغتياله، وكان تعقيبه هائلا رائعا فذا، وأقوى من الرصاص الذي أطلق عليه، إذ صاح –وصوته يدوي كالرعد في الميدان الفسيح-: أيها المواطنون: "دمي فداؤكم، وفداء مصر، سأعيش من أجلكم وسأموت من أجل حريتكم وكرامتكم، فليقتلوني لست أبالي، ما دمت قد غرست فيكم العزة والكرامة والحرية، وإذا مات عبد الناصر فليكن كل منكم جمال عبد الناصر".

(وفي ص11 من الأهرام):

.. وكان بعض من حوله يحاولون إبعاده عن المذياع ومنعه من الكلام والحركة للاطمئنان على سلامته، ولكنه كان يصيح بهم ليتركوه يخاطب مواطنيه، وانطلق في حديثه الفذ الذي لا مثيل له في تاريخ الوطنية والفداء، فأخذ يكرر المعاني الكريمة السامية: ... أيها الرجال.. أيها الأحرار هذا هو جمال عبد الناصر، أنا لست جبانًا، أنا قمت من أجلكم، من أجل عزتكم وكرامتكم وحريتكم إن جمال عبد الناصر منكم ولكم، عشت لكم وسأعيش حتى أموت عاملا من أجلكم، ومكافحا في سبيلكم، وأموت من أجل حريتكم وكرامتكم.

وتعقيب منا على الفصل الأول

1- الحفل أقيم – كما يقول الخبر- لتكريم عبد الناصر وتكريم زملائه من قادة الثورة، ولم يكن "محمد نجيب" ضمن المكرمين مع أنه "قائد الثورة" ومعلنها، وأقرب الشخصيات إلى قلوب الشعب، وكان بين عبد الناصر ورفاقه وبين قلوب الشعب حصن منيع بعد إقالتهم لمحمد نجيب –قبل حادث المنشية بعدة أشهر- وقد أرغم الشعب هؤلاء "القادة" على إعادة محمد نجيب إلى الرياسة مرة أخرى.

2- كان عبد الناصر –على الرغم من هستيرية الصوت يتحدث حديث من يحفظ الدور جيدًا، والحوار الذاتي (الذي صدر من شخصية هي شخصية البطل)، كان متقنا مدروسًا، يدل على أن "البطل" قد استوعب كل خطوط السيناريو قبل "رفع الستار" وبداية المسرحية.

3- كل من يعرف ألف باء قواعد الحراسة، وخصوصًا حراسة الرؤساء والشخصيات المهمة، يعرفون أن الخطوة الأولى التي يتخذها الحراس – في مثل هذه الحال- هي إقامة "حائط صد" بين الرئيس ومصدر الرصاص، بل "عزله" تمامًا – ولو بالقوة- عن الجمهور، وذلك لاحتمال وجود "معتد احتياطي بديل" عند إخفاق المحاولة الأولى، ولكن الذي حدث يقطع بوثوق الحراس، وكبار المسئولين بأنه " لا شيء" بعد سماع "صوت الرصاص" ولكن حرصا على استعمال متطلبات "الدور" كان لابد من عملين لتضخيم "شخصية البطل".

الأول: ترك "المايكروفون" مفتوحًا – كان لم يحدث شيء- لاستمرار "التواصل" بين "القائد الشجاع" والشعب لإثبات الشجاعة الفائقة، واستمالة شعبنا "الطيب" الذي يكره الغدر والعدوان.

الثاني: "محاولة بعض من حوله شده بعيدًا، ومنعه من الكلام والحركة، فتغلب عليهم، وباءت محاولتهم بالإخفاق، لأنه – كما يقول السيناريو- "كان أقوى من الرصاص الذي أطلق عليه".

4- جاء في نص السيناريو " وقد أصيب وزيرالمعرف السوداني والسكرتير المساعد لهيئة التحرير بعدة جراح من شظايا ألواح من الزجاج التي تناثرت إثر إطلاق الرصاص، وكانا يجلسان بالشرفة "المنصة".

والمعروف أن الرصاصة – أي رصاصة- إذا أطلقت لا تحدث في لوح الزجاج إلا ثقبا بمساحة رأس الرصاصة، ولا تؤدي إلى تحطيم "اللوح" وتطايره شظايا. ولا تفسير لما حدث إلا أن لوحا – أو ألواح الزجاج- بباب الشرفة أو نوافذها –قد حطمت فجأة من الداخل بفعل فاعل "عين" للقيام بهذه المهمة كواحد من مقتضيات المسرحية، وجاء توقيت "التكسير" دقيقا متفقا مع توقيت " سماع" صوت الرصاص.

الفصل الثاني

ساعة القبض على "الجاني"!!

وأيضا على الصفحة الأولى من الأهرام الصادر في 27 من أكتوبر 1954م (أي في اليوم التالي مباشرة لحادث المنشية وتحت عنوان كبير نصه: (القبض على الجاني بعد إنقاذه من ثورة الجماهير، واعتقال 3 آخرين من الإخوان)، نقرأ ما يأتي بالنص:

... وضبط البوليس في جيبه 7 رصاصات وقد طاشت الرصاصات التي أطلقها على الرئيس وأصابت المصابيح الكهربائية التي كانت منثورة على المنصة، ولا تبعد عن المكان الذي وقف فيه الرئيس بأكثر من 50 سنتمترًا.

وقد عثر في المكان الذي يقف فيه الجاني على أربعة أظرف فارغة من عيار 26 ملليمترا وهي تختلف عن طلقات المسدس الذي عثر عليه مع المتهم، إذ أن المسدس الذي عثر عليه مع المتهم من نوع المشط الذي لا يلفظ الأظرف الفارغة، وكان المتهم يردد في ذلك الوقت أنه لم يقصد إصابة أحد، وأنه كان يطلق هذه الطلقات للتفاريح، وكان الجاني قد احتل مقعده منذ الساعات الأولى لهذا الاحتفال، وهو لا يبعد عن المنصة الرئيسية بأكثر من خمسة عشر مترًا.

تعقيب على الفصل الثاني :

1- جزمت "الأهرام" أن الجاني من الإخوان المسلمين، وكذلك ثلاثة معه، ثم إن وصفه ب"الجاني" لا المتهم- يعتبر حكمًا سابقا على التحقيق يخالف الشريعة والقوانين الوضعية، وفي الأثر الصحيح أن صحابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسك بخناق رجل، وقال: يا رسول.. إن هذا الرجل سرق مني كذا وكذا"، فقال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم "لا تقل سرق، ولكن قل أخذ"، نعم يا رسول الله: فالمتهم بريء إلى أن تثبت إدانته، علمًا بأن أهرام 27 من أكتوبر طبعت بعد الحادث "المسرحية بساعات، وقبل بداية التحقيق.

2- وجود أربعة أظرف فارغة في المكان الذي كان يقف فيه "الجاني" لا يقطع بأنه هو الذي أطلق الرصاص، لأن ذلك يتسع لاحتمالات متعددة منها:

‌أ.         أن يكون من أطلق الرصاص شخصا آخر كان يقف مجاورًا للمتهم.

‌ب.    أن تكون هذه الأظرف الفارغة قد وضعها شخص " له صفته الرسمية" في هذا المكان دون أن يشعر "المتهم" بوضعها، وذلك كخط من خطوط السيناريو الموضوع.

3- ذكر السيناريو أن هذا الأظرف الفارغة لطلقات تختلف في "عيارها" عن طلقات المسدس الذي وجد مع المتهم وهو من نوع المشط الذي لا يلفظ الأظرف الفارغة:

أ‌-       وأنا لست خبيرًا في السلاح، ولكني أقول إن أي مسدس من مسدسات المشط يلفظ الأظرف الفارغة.

ب‌-  والسطور الباقية تعني أن "المتهم" لم يطلق رصاصة واحدة من مسدسه الذي ضبط في جيبه، وأن هذه الأظرف الفارغة لرصاص من مسدس آخر لم يضبط المتهم متلبسا بإحرازه، هذه النقطة بالذات كفيلة بتبرئة المتهم (الذي أطلقت عليه الأهرام صفة الجاني).

4- ونجد في هذا "السيناريو" تناقضا واضحًا في تحديد مكان المتهم "الجاني": فالصحيفة تصفه بأنه كان واقفًا، وأنه عثر في مكان وقوفه على أربعة أظرف فارغة.

وبعد أسطر قليلة تقول: "وكان الجاني قد احتل مقعده منذ الساعات الأولى لهذا الاحتفال"، وأنه كان بينه وبين المنصة ما لا يزيد عن 15 مترًا.

فهل كان المتهم واقفا جالسا، أو جالسا واقفا في وقت واحد؟ ولرفع هذا التناقض يمكن أن يقال – في مقام الاتهام- إن المتهم كان جالسا فلما شرع في إطلاق الرصاص وقف حتى يتمكن من إصابة "الزعيم" وهنا تطل الناقضات المفندات الآتية:

‌أ.  علينا أولا أن نضع تصورًا (ولو بالممكن لا بالفعل) لمكان المتهم من المنصة، ولنأخذ التحديد الرقمي الذي ذكرته "الأهرام" وهو أن المتهم كان يبعد عن المنصة بما لا  يزيد على 15 مترًا، فلو فرضنا أن ارتفاع المنصة - وهي شرفة قصر هيئة التحرير بالمنشية – ستة أمتار، وأن وقوف عبد الناصر يبعد عن سور الشرفة بنصف متر للداخل لكان أقرب من يراه من جمهور الجالسين في الصف الأول يبعد عن الشرفة أفقيًا بعشرة أمتار على الأقل، وهذا يعني أن المتهم كان يجلس في الصف الثاني أو الثالث على الأكثر، لو أخذنا بتحديد الأهرام لمكان المتهم.

‌ب.                     مسافة الأمتار العشرة تحت الشرفة "مسافة هالكة" أي لا يجلس فيها أحد من الجمهور، وغالبا ما يكون لرجال الحرس والأمن المقام الأول فيها، ووجوههم للجمهور.

‌ج.                      لو نهض المتهم وأطلق الرصاص فجأة لانقض عليه رجال الأمن، وأمسكوا به متلبسا بالشروع في قتل الزعيم، ولرآه عشرات من الشهود، وما كان هناك مجال للظن والاجتهاد.

‌د. ومن النواقض كذلك أن الصفوف الأولى تكون دائمًا محجوزة للشخصيات المهمة كالوزراء ونوابهم والمحافظين، وكبار الضباط، فإذا جاء عامل قبل بدء الحفل بساعات واحتل مقعدا في صفوف "علية القوم وكبارهم".. ألا يثير ذلك انتباه رجال الأمن وشكهم، وقد كان ذا جيب أو جيوب منتفخة تحمل مسدسا أو اثنين زيادة على الرصاص؟‍!!

 هـ . ثم ما رأي "السادة" في الصورة التي نشرتها المصور – بعد إعلان اسم المتهم- وهي صورة تمثل آلاف الحاضرين ووضعت دائرة حول رأس واحد منهم وكتبت "الجاني محمود عبد اللطيف قبل ارتكاب جريمته بدقائق"، وبينه وبين المنصة ما لا يقل عن خمسين مترًا، وهذا يعني أن رصاصه كله لو أصاب "عبد الناصر" لما أصابت واحدة منها من "الزعيم" مقتلا".

وعلى ذكر المصور أقول: إن صورة غلافه في العدد المذكور كانت لمحمود عبد اللطيف وفي وجهه كدمات ظاهرة.

5- وأخيرًا نعثر في هذا الجزء من السيناريو على تناقض أو اضطراب من نوع آخر، وذلك في "الزجاج " الذي حطمته الرصاصات الطائشة، فهو مرة "ألواح" تطايرت شظاياها، ولا تكون هذه الألواح إلا في أبواب أو نوافذ، وهو مرة أخرى "زجاج مصابيح كهربائية" لا تبعد عن المكان الذي وقف فيه الرئيس بأكثر من 50 سنتمترًا.

الفصل الثالث

خديوي آدم والمسدس الساخن

وأوضح ما في الفصلين السابقين – على إتقان عبد الناصر دوره- من تهافت وضعف وثغرات تفتح الباب "للمتهم" نحو البراءة، لأن هناك سؤالا يبقى معلقا يحتاج إلى إجابة عاجلة، وخلاصته: إذا كان مسدس المتهم (وهو من نوع المشط) قد ضبط في جيبه دون أن يطلق منه رصاصة واحدة، وإذا كانت الفوارغ التي عثر عليها في مكان "وقوف" المتهم –وعددها أربع- إنما هي لرصاص يختلف عن رصاص المسدس الذي يحمله، وإذا كان إطلاق الرصاص حقيقة لا شك فيها، إذا كان الأمر كذلك، فأين أداة الجريمة، أي المسدس الذي أطلقت منه الرصاصات؟

هناك رأى واضعوالسيناريو – حتى يجبروا كسور الفصلين السابقين، ويعالجوا ما فيها من ثغرات فاضحة - أنه لابد من فصل ثالث يقوم بأدائه شخصية أخرى من نوع مختلف فكان "خديوي آدم" العجيب، وهو واحد من العمال الصعايدة.

وننقل سيناريو الفصل الثالث من صحيفة "الأهرام" القاهرية الصادرة يوم الثلاثاء 2 من نوفمبر 1954م، ففي الصفحة الأولى نقرأ العنوان التالي: "عامل يعثر على المسدس الذي أطلق منه الجاني الرصاص على الرئيس".

وتحت العنوان جاء ما يأتي بالحرف الواحد:

[..وهنا فوجئ "العامل" بسماع صوت المقذوفات التي أطلقها الجاني على الرئيس، وغرق هو في الازدحام، وكانت أمواج الكتل البشرية التي كانت في هرج ومرج لبعض الوقت تتقاذفه هنا وهناك، وفي تلك الأثناء شعرت قدمه بصدمة في شيء صلب وكان المسدس ساخنًا لسع يديه ثم مضى إلى سبيله.

والمسدس من النوع الذي إذا أطلقت جميع مقذوفاته ينفتح، فأدرك آدم أنه المسدس الذي استخدم في الحادث، وقابل آدم ابن عمه واسمه "محمد جبريل" وهو عامل في أحد "جراجات" الإسكندرية، فقص عليه قصته، فنصحه أن يسلم المسدس للمسؤولين في ثكنات "مصطفى باشا" ولكن آدم صمم أن يسلمه للرئيس جمال بنفسه يدًا بيد، فلما سأل عن الرئيس قيل إنه سافر إلى القاهرة، فحاول أن يستريح وينام، ولكن الأرق والتفكير في الحادث، وما أحاط به من ظروف في الساعات القليلة الماضية، كل هذا جعله يعتزم أمرًا، وشد رحاله –كتعبير الزمن الماضي- إلى القاهرة في الساعة الرابعة صباح يوم الأربعاء 27 من أكتوبر ، ولم يكن يملك مليمًا واحدًا.

ومشى الشاب بين قضبان السكك الحديدية إلى أن أخذ منه التعب ما أخذ، وشعر بالجوع، وكان قد وصل إلى سوق مدينة في الطريق لم يعرف اسمها، فباع قفطانه، وأكل وشبع، وواصل سيره حتى وصل إلى شبرا يوم الاثنين أول نوفمبر حوالي الساعة 12 ظهرًا.

وعند مدخل شبرا استفسر من أحد رجال البوليس عن مقر القيادة التي يجد فيها الرئيس جمال، ومضى في طريقه يسأل ويستفسر، حتى وصل بعد ثلاث ساعات إلى مقر القيادة العامة بالقبة، وهناك رأى الجندي الحارس، وطلب منه أن يدله على مكان الرئيس، فنهره الجندي في أول الأمر، ولكنه أفهمه بشدة أنه يحمل أداة الجريمة التي استخدمت في الاعتداء على الرئيس.

وأخرج العامل المسدس فانزعج الجندي، وأدخله إلى الضابط المسؤول، فأبلغ هذا النبأ إلى المسؤولين، وفي نحو الساعة التاسعة من مساء اليوم كان "آدم" في إدارة المباحث العامة، وكان الرئيس جمال بالقيادة في الجزيرة فاتصلوا به، فأمر بإرساله إليه.

وأدخلوا آدم عند الرئيس، فلما رآه هم إليه فقبله، فتأثر الرئيس وآخذه بين يديه، وقبله، ولما عرف أنه من أهل الأقصر شكره، وقال فليعش: أبناء الأقصر الكرام. وسلمه مكافأة سخية .  وسألناه ما الذي سيفعله بهذه المكافأة، فقال: "سأتجوز وأفتح محلا" ثم دعا للرئيس بطول العمر، ليتم خدمة الوطن].

سيناريو أمن الدولة

وفي صحيفة الأهرام الصادرة يوم الأربعاء (7 من ربيع الأول 1374هـ- 3 من نوفمبر 1954م)، نقرأ ما يأتي:

عقد الأستاذ محمد عطية إسماعيل –المحامي العام، والأستاذ على نور الدين- الوكيل الأول في نيابة أمن الدولة- اجتماعا قصيرًا أمس دعا على أثره العامل "خديوي آدم" واستمع وكيل النيابة إلى معلوماته عن عثوره على المسدس، ومما ذكره آدم في التحقيق أنه كان يقف وسط الجماهير في ميدان المنشية يستمع إلى خطاب الرئيس جمال، فسمع صوت الطلقات النارية، ثم تدافعت الجماهير، وتدافع معهم , فسقط على الأرض , وجاءت سقطته فوق المسدس , فالتقطه , وكانت ماسورته لا تزال ساخنة، فوضعه في جيبه، ثم حاول أن يصعد إلى الشرفة التي يقف الرئيس فيها ليسلمه المسدس، ولكن رجال البوليس منعوه فانصرف.

ومضى فقال إنه فكر أن يسلم المسدس للبوليس ليلة الحادث، ولكنه خاف، وذهب لابن عمه يروي له القصة، فنصحه بتسليمه للبوليس، وكاد يستمع لنصح ابن عمه، ولكن هاتفا هتف في أذنه أن لابد أن يقابل الرئيس جمال عبد الناصر، ويقبله، ثم يسلمه المسدس.

تعقيب على سيناريو الأهرام (2/11/1954م)

 وسيناريو "الأهرام" في هذا الفصل أكثر تهافتًا وضعفا من سابقيه:

1- فالسيناريو يذكر أنه بعد سماع صوت الرصاص انطلقت الجماهير إلى الخارج بعيدًا عن المنصة، وعثور العامل "خديوي آدم" على المسدس يستحيل تحققه إلا إذا كان أقرب إلى المنصة من "المتهم" وهذا ما لم يحدث، فقد ذكرت الأهرام الصادرة يوم 27/10/1954م أن المتهم احتل مقعده في الحفل قبل بدئه بعدة ساعات.

2- في مثل هذه الأحداث يسيطر الرعب على الجماهير، ويكون هم كل شخص أن ينجو بنفسه من الموت في هذا التزاحم الرهيب، ولا يكون لقدمه أو حتى يده من الحساسية ما يجعله يتوقف، وينحني لالتقاط جسم صلب –أو غير صلب- وإلا سحقته أقدام الجماهير اللائذة بالفرار.

3- ومن مظاهر "السقوط التصويري" أن تظهر الصحيفة هذا العامل الصعيدي الفقير البسيط الذي لا يملك مليما واحدًا بمظهر خبير السلاح الذي يدرك أن هذا المسدس هو الذي أطلق في الحادث، وتظهره بمظهر الواعي ذي الفكر العميق الذي يأخذه القلق، ويستبد به الأرق، وهو يفكر في الحادث، وما أحاط به من ظروف، فيعتزم أمرًا هو الذهاب إلى القاهرة لتسليم المسدس إلى الرئيس نفسه.

4- وتقع الصحيفة في التناقض فنرى هذا العامل أحمق غبيا إذ يقطع المسافة من الإسكندرية سيرًا على قدميه " لأنه لا يملك مليما واحدًا" وأمام هذا السقوط وذاك التناقض علينا أن نذكر ما يأتي:

أ- كانت أجرة السفر من الإسكندرية إلى القاهرة –في ذلك الوقت بالسيارة أو القطار- لا تزيد على نصف جنيه (أي خمسين قرشًا).

ب- كان للعامل "خديوي آدم" ابن عم يقيم بالإسكندرية –كما ذكرت الأهرام- إقامة دائمة، وله عمل يدر عليه مرتبا ثابتا يتعيش منه، أما كان العامل يستطيع أن يقترض منه جنيها أو جنيهين لتكاليف هذه السفرة التي كان وراءها ما وراءها؟

ج- ثم أما كان هذا العامل –حتى لو حشى رأسه كله غباء- يدرك أن تكاليف الطعام والشراب في الطريق، تمثل أضعاف أضعاف ثمن تذكرة السفر من الإسكندرية إلى القاهرة؟

هـ- لجأ السيناريو الخائب إلى "التزييف بالإغفال أو الحذف" فلم يقدم لنا صورة هذا العامل "خديوي آدم" بعد أن باع قفطانه، وبعد هذه المسيرة الشاقة على قدميه لمدة خمسة أيام:-

- فهو لم يكن ينام في فندق، ولا في منزل، بل على الأرصفة أو في الحقول والحدائق في البلاد والقرى التي كان يمر بها.

- وهو طبعًا- كان يقضي حاجته بصورة غير آدمية، وتعامله مع "الماء" كان قطعًا تعاملا شاذًا غير منتظم أو مستقيم.

إن إنسانًا قطع قرابة 250 كيلو مترًا سيرًا على قدميه، محرومًا من الطعام والشراب إلا القليل الجاف الرديء، محرومًا من الراحة إلا سويعات، محرومًا من "آليات" النظافة صابونا وماء.. مثل هذا الإنسان لن يصل إلى القاهرة إلا خائر القوى، مفكك الأوصال والأعصاب محطم العافية.. في أبشع منظر، وأقذر هيئة، وليس على جسده إلا سروال قديم، وفانلة أو صديري منتفخ الجيب بالمسدس الكبير.

هذا "المخلوق" الممسوخ يلتقي عند مدخل القاهرة من ناحية شبرا برجل بوليس، ويمشى ثلاث ساعات إلى مقر القيادة العسكرية، وفي الطريق رآه قطعًا عشرات من رجال الأمن، مع ذلك لم يثر شبهة أحد في وقت كان البريء يخذ فيه إلى النار بلا تهمة.

ومع ذلك نرى صورة "خديوي آدم" في الأهرام كامل الصحة والعافية، مشرق الابتسام، كامل الملبس، منتظم الهندام، وهو يسلم عبد الناصر المسدس , مع أنه قابل عبد الناصر يوم وصوله دون أن يستريح لساعة واحدة، هكذا قالوا.

6- ثم نجد التناقض الصارخ بين "سيناريو الأهرام" المنشور بها يوم الثلاثاء 2/11/1954م، و"سيناريو التحقيق" المنشور بها أيضًا يوم الأربعاء 3/11/1954م:

أ- فسيناريو "الأهرام" يذكر أن "خديوي آدم" عثر على المسدس، عندما كانت أمواج الكتل البشرية تدفعه فاصطدمت قدمه بشيء صلب انحنى والتقطه فكان المسدس.

أما سيناريو التحقيق فيذكر أنه بسبب تدافع الجماهير سقط العامل خديوي آدم على الأرض، فجاءت سقطته فوق المسدس تماما، فالتقطه..!

ولم يذكر سيناريو واحد منهما أن خديوي هذا أصيب بخدش واحد، مع أن انحناءه أو سقوطه في مثل هذه الحالة له نتيجة معروفة وهي الانسحاق تحت أقدام الجماهير الهاربة المندفعة التي لا تلوي على شيء.

7- ولم يذكر سيناريو الأهرام واقعة ذكرت في سيناريو التحقيق، وهي أن العامل لما التقط المسدس حاول أن يصعد إلى الشرفة التي يقف الرئيس عبد الناصر فيها ليسلمه المسدس، ولكن رجال البوليس منعوه فانصرف.

وهي واقعة مضحكة تتمتع بالافتعال والكذب الصراح.. ومن حقنا وحق القراء أن نسأل: متى قام العامل خديوي بمحاولة الصعود هذه؟

أ- من المستحيل أن تكون هذه المحاولة قد حدثت بعد إطلاق الرصاص مباشرة، لأن الجماهير كانت منطلقة هاربة في الاتجاه المضاد، ولا يستطيع أحد أن يدعي أن هذا العامل كان يستطيع اختراق هذه الكتل المندفعة، والنفوذ من خلالها إلى المنصة.

ب- وقد يتصور بعضهم أنه حاول ذلك بعد فراغ الميدان (كليا أو شبه كلي) من الجماهير.

وهو تصور مرفوض لأنه لو فعل ذلك لعرض نفسه للقبض عليه، وربما اتهامه بالاشتراك في "المؤامرة" لأن أنظار رجال الأمن – بعد انصراف الجماهير- تكون مركزة على مثل هذه الحالات "الفردية"، خوفا من أن يكون ذلك محاولة جديدة للاغتيال.

ج- ثم نسأل: ألم يثر الشك في نفس واحد من الحرس ورجال الأمن، وهم يرون رجلا "منتفخ الجيب" يحاول الصعود إلى المنصة بعد الشروع في اغتيال الزعيم بدقائق، فيقوم بتفتيشه؟ عجبي!!

وللحق أقول إن هذا الفصل الثالث من مسرحية المنشية كان أضعفها نسجا وأداء، وأشدها تفككا وانحدارا وبلاهة وسقوطًا.

لقد قدم الفصل الثالث من هذه المسرحية ليعوض عما في الفصل الأول والثاني من قصور وثغرات، ولكنه حقق نتيجة عكسية، فسحب الفصلين السابقين معه إلى قمامة الكذب والإفك والافتراء.

**********

وفي المكتبة العربية مؤلفات متعددة تناولت الموضوع، بعضها كتبه بعض رجال الثورة المحايدين، ولم أشأ أن استشهد بشيء منها لأنني حددت منهج تناولي لهذا الموضوع ابتداء، وخلاصته التعامل المباشر مع نصوص أهم وأشهر صحيفة قومية وهي "الأهرام".

وقد ذكرت آنفا أن هذه المسرحية كان لها توابع، وكان أهم "تابع" لها هو محاكمة الإخوان في محكمة سموها "محكمة الشعب"، وجاءت هي الأخرى لتمثل نقطة عار سوداء عفنة في سجل تاريخنا، ولنا لقاء، ولكلامنا صلة بمشيئة الله.