مشافينا الأهليّة كم هي بحاجة إلى دعمنا

د. حبيب بولس

يعزّ عليّ كلّما ذهبت إلى مشفى رمبام وهي مرّات ليست قليلة أن أرى هناك بحرا من اللاّفتات الرّخاميّة والجدران المبلّطة الجميلة وهي تحمل أسماء لشخصيّات أو لجمعيّات محليّة أو عالميّة متبرّعة. فهذه تبرّعت بمبنى هذا القسم وتلك بأجهزة وتجهيزات وأخرى تبرّعت بآليّات وتقنيّات معيّنة، وهكذا نجد أنّ معظم أقسام المشفى المتطوّرة نالتها يد التّبرّعات السّخية، لذلك هي دائما

محتلنة ، من حيث الآليّات والتّقنيّات والمختبرات والمعدّات.

كما ويعزّ عليّ أنّني على فترات اضطررت للعلاج في مشافي مدينة النّاصرة. والنّاصرة بوركت بهذه المشافي فهي الوحيدة بين مدننا وقرانا الّتي انتبهت الإرساليّات في حينه إلى إقامة أكثر من مشفى فيها لخدمة أبناء المدينة والقرى المجاورة والمنطقة. حيث وفّرت الكثير على السّكّان من التّعب والجهد والمال والسّفر إلى مدن بعيدة أخرى. وهذه المشافي لأنّها مشافي خاصّة تملكها جمعيّات خاصّة إسكتلنديّة وفرنسية وإيطاليّة من جهة، ولأنّ جمهور مرضاها من العرب- من جهة أخرى، لا تحظى بتغطية ماديّة كاملة، لا من وزرارة الصّحة ولا من صناديق المرضى، شأن هذه المشافي شأن المدارس الخاصّة أيضا . ومع أنّ هذه المشافي المذكورة تطوّرت كثيرا، فهي تضمّ اليوم معظم الأقسام الطّبيّة المعروفة بما في ذلك قسم للأورام السّرطانيّة، افتتح مؤخّرا في مشفى العائلة المقدّسة. هذه الأقسام يعمل فيها أطبّاء عرب شباب من خيرة المختصّين في المجالات الطّبيّة على تنوّعها واداراتها عربية. كما تشعر وأنت في أحد المشافي كم هي بحاجة إلى الكثير، رغم أنّ أعضاء الطّواقم الطّبيّة هناك يبذلون قصارى جهدهم لإرضاء المرضى ولتقديم أفضل العلاجات، ولكن على ما يبدو القدرات الماديّة محدودة، الأمر الّذي يضطرّ إدارات هذه المشافي إلى القتال الدّائم لوحدها مع المسؤولين أو إلى مدّ اليد للمساعدة والدّعم.

وأنا أتساءل؟ أين دورنا نحن المستفيدين من خدمة هذه المشافي؟ هل دورنا ينحصر في تلقّي العلاج والمطالبة بالأفضل فقط. مع أنّ هذا حقّنا، أم أنّه علينا يقع دور آخر؟

لعلّني لست أبالغ: نحن شعب أصيل، له تاريخه وحضارته وتراثه وكلّها مزروعة في رحم التّاريخ، يشهد على ذلك ما كان لدينا قبل عشرة قرون من انفتاح وتقدّم علميّ وتقنيّ وأدبيّ نقلته أوروبا. ونظرة طائرة إلى الوراء تكفي للتّدليل على ذلك، ويكفيني أن أذكر في هذا المجال الّذي نتحدّث عنه- أيّ المجال الطّبيّ، المشافي الّتي أقامها العرب في المشرق والمغرب بأقسامها المتعدّدة الّتي تشابه أقسام المشافي اليوم، كما ويكفيني أن أذكّر بالمحاضرات والجلسات الّتي كان يقيمها مديرو الأقسام في حينه لأطّبائهم كي يصلوا إلى أرقى المستويات. إقرأوا ما جاء في كتب الحضارة العربيّة- ولا أعني ما كتبه العرب عن حضاراتهم إنّما ما كتبه الغربيّون عن ذلك.

كي تتعرّفوا على ما أقول. إقراوا عن ذاك الطّبيب الفذّ ابن سينا وعن الرّازي وعن ابن الهيثم وغيرهم الكثير، الّذين رسموا للعالم نهجا علميّا طبيّا ما زالت آثاره قائمة إلى اليوم. إذن نحن شعب عريق لا يفتقر إلى علم او إلى إبداع.

ولكن لظروف خاصّة على رأسها طبعا الاحتلال الأجنبيّ على ألوانه تراجعنا، وليس المجال هنا لذكر الاسباب- إذ ما نفع النّدب على ما كان. المهمّ أن نلتفت الى  ما نحن فيه اليوم- ونحن شعب قادر أصيل- ما ينقصنا هو قرع الآذان كلّها لتتنبّه وتستيقظ من غفلتها.

وفي غمرة هذا الكلام تحضرني جملة إخوان الصّفا الرّائعة الّتي تقول: لو تبنّى كلّ غنيّ فقيرا لزال الفقر من العالم.

جملة رائعة، ولكن على روعتها تحتاج إلى تطبيق. تحتاج إلى أن نربّي على أهميّة العطاء، العطاء الّذي تنادي به كلّ الدّيانات والمجتمعات. وهذا العطاء لا يهبط علينا دفعة واحدة. إنّما هو يأتي بالتّربية وبالتّوعية وبالتّدريب على حبّ الغير وتغليب المصحلة العامّة على الشخصيّة، وبتجذير مفهوم العطاء ومأسسته. نحن لسنا أنانيّين، أنا متأكّد من ذلك، ولكن ينقصنا من ينبّه ويعظ ويعلّم، بدءا من مدارسنا ومرورا بمؤسّساتنا الوطنيّة وجمعيّاتنا الدّينيّة والخيريّة وانتهاء بأحزابنا السّياسيّة. شعب حيّ لا يقاس بالملبس والمأكل والمشرب، إنّما يقاس بمدى اهتمامه بمؤسّساته وبمدى دعمه لها لترقى ولتتطوّر، فالفائدة عندئذ ستكون مضاعفة وهي بالتّالي لنا.

كم نحن بحاجة إلى زرع مفهوم العطاء بلا منّة، وأنا لا أتحدّث عن القادرين فقط، مع أنّ لهم حصّة الأسد في ذلك. ولدينا منهم الكثير الّذين باستطاعتهم الدّعم الدّائم لمثل هذه المؤسّسات وعلى رأسها المشافي المذكورة. كم أصابتني الفرحة حين قرأت على أحد جدران مشفى العائلة المقدّسة أنّ نصراويّا أصيلا يعيش اليوم في  أمريكا تبرّع ببناء وتجهيز قسم الأورام السّرطانيّة على نفقته الخاصّة مع صيانة ما في القسم مدى الحياة بتكلفة (275.000) ألف دولار، وهذا عربون وفاء لوالديه. الجداريّة تقف شامخة على جدران القسم لتقول لنا هل هنالك أجمل من هذا العمل؟ وهل هنالك أحلى من أن يخلّد إنسان من رعاه بهذه الطّريقة؟

إذا لماذا لا نحذو حذو هذا الشّاب ونحاول أن نمحو دمعة طفل أو زرع بسمة على وجه كبير. ما أروع أن تمرّ في أروقة المشافي وأن ترى اسمك أو والديك على بلاطة رخاميّة متوهّجة بالاحترام والإجلال وليس مهمّا المبلغ المهمّ المبدأ، هذا إذا كنّا قادرين. ولكن حتّى لو كنّا غير قادرين وكنّا من الفئة المستورة العاديّة وهي الفئة الكبرى بيننا أليس باستطاعتنا المساهمة؟ ألا تذكرون قصّة المرأة الأرملة مع السّيّد المسيح؟ تلك الأرملة الّتي رآها السّيّد المسيح تضع فلسين في خزانة الهيكل بينما غيرها يضع الكثير؟ كم أكبرها المعلّم وقال لتلاميذه انظروا ولا تهتمّوا للقيمة لأنّ هذه المرأة أعطت من إعوازها بينما الآخرون من فضلتهم.

أكثرنا بحاجة صحيح، فالحياة وتكاليفها كثيرة، ولكن أليس باستطاعة الواحد منّا مهما كانّ معوزا أن يقتطع خمسين شاقلا شهريّا ويخصّصها لمشفى معيّن، على شكل دفعة شهريّة ثابتة. هذه الدّفعة البسيطة لو قام بها الآلاف، إحسبوا كم ستكون فوائدها. هذه الدّفعة رغم بساطتها ستعطينا الشّعور بالارتياح والشّعور بالمسؤوليّة- أنا أساهم إذا أنا أريد الأفضل، كما أنّها ستشعر الطّرف الآخر بالمسؤوليّة أيضا، هذه المساعدة من النّاس وفي غالبيّتهم من المحتاجين- إذا علينا أن نعرف كيف نوظّفها ليستفيد منها الكثيرون.

ثمّ ما هو دور مؤسّساتنا الوطنيّة: مجالسنا، بلديّاتنا، أحزابنا، أليس بمقدور هذه المؤسّسات التّوعية والدّعم والرّيادة فلو خصّصت كلّ مؤسّسة مبلغا سنويّا لدعم هذه المشافي، وباستطاعتها ذلك فالكثير من الميزانيّة يذهب دون فائدة. كم عندها سنرقى وسنتطوّر. وهذا لا يعني أنّنا سنهمل حقوقنا، بل بالعكس لن نكفّ عن المطالبة لنيل هذه الحقوق، فنحن مواطنون كاملون وحقوقنا يجب أن نأخذها ولن نتنازل عن أيّ منها وذلك بالأساليب المشروعة، من هنا الحاجة ملحّة لإقامة هيئات شعبيّة من كلّ ألوان الطّيف السّياسيّ والاجتماعيّ للضّغط على الوزارات وعلى صناديق المرضى لدفع مستحقّاتها. لنبتعد عن الأنانيّة ولنتوحّد وراء أهداف سامية تعود على شعبنا بالنّفع. إذا فعلنا نكون قد أرضينا ضمائرنا وقيمنا إذ أنّ المعطي بسخاء وليمة دائمة. ومن يفعل مقدار ذرّة خيرا يَرَهْ.

نحن شعب خيّر رغم قسوة الحياة والإنسان الخيّر لا يضيره إن اقتطع مبلغا زهيدا لخدمة عائلته الكبيرة أي شعبه. الشّعوب لا ترقى بالنّدب ولا بالبكاء على ما كان فمن لا يحبّ صعود الجبال يَعِش أبد الدّهر بين الحفر. فهلاّ فعلنا ورأينا في الغد القريب مؤسّساتنا الصّحيّة ومشافينا الأهليّة تزدهر وتنافس وتتحدّى!! لماذا نترك أطبّاءنا يفتّشون عن أماكن عمل في المشافي الأخرى ونحن قادرون على توفيرها لهم عندنا؟ لماذا نتركهم يبحثون عمّن يموّل أبحاثهم وطموحاتهم ونحن قادرون على توفير ذلك لهم؟ لماذا لا نكسب خبرتهم الّتي ستعود حتما علينا بالفوائد. هاتوا إذا الأيادي من أجل الرّقيّ بشعبنا، هاتوا الأيادي لنلتفّ حول مشافينا وندعمها . فإن كنّا بالأمس في غفلة منها نحن اليوم في صحوة ولتكن هذه الخطوة فورة من أجل أن نثبت للعالم أنّنا كفلسطينيّين رغم ما مرّ وما يمرّ علينا من قهر وظلم صامدون، نقدّر ونحترم مؤسّساتنا- نحن شعب حيّ خلاّق يعرف كيف يحوّل الحرائق بساتين فرح.

ولمؤسّساتنا أقول: كفاكم بكاء، بادروا، نظّموا الاجتماعات والمحاضرات، جهّزوا أنفسكم- أعلنوا عن حاجاتكم وعن مشاريعكم بشكلّ علميّ مدروس أطلبوا الدّعم بلا حياء، فالنّاس لا يعرفون الكثير. أبرزوا نشاطاتكم وعندئذ ستجدون أنّ كثيرين سيلتفّون حولكم. بادروا إلى إقامة لجان تسعى إلى إقناع النّاس بأهميّة ما تفعلون كي تجنّدهم وتحصل على تواقيع منهم من أجل دفعات شهريّة ثابتة بسيطة ولكنّها إذا جمعت شكّلت دخلا محترما. وكلّنا جنود في هذه المعركة- تعالوا لنتعلّم من الآخرين، من البهائيّين مثلا أو من الشّعب اليهودي. لنجعل المصلحة العامّة أوّلا- لاحظوا كم نبذّر في يوميّاتنا في أفراحنا، في مواسمنا وأعراسنا ألا يكون إذن باستطاعتنا أن نقتطع هناك لندعم مشاريع حيويّة.

هكذا فقط- هكذا نثبت لأجيالنا أنّنا شعب قادر، هكذا نربّيهم على العطاء والبذل وهكذا نزيل عن أجسادنا كلّ ما علق بها من دسم، ونردّ على أنفسنا الهيبة، ونعيش قانعين راضين.

فهلاّ فعلنا!

الكرة في ملعبنا وفي ملاعب المؤسّسات. والمبادرة يجب أن تنطلق بشكل ممنهج اليوم لأنّ الموضوع لا يحتمل الإرجاء. نحن لا نريد لمساعدة أن تبرق هنا وتلمع ثمّ تخبو وانتهى الأمر. لا نريد مساعدات إرتجاليّة بل نريدها دائمة خارجة عن قناعة تامّة.

فهل سنمرّ يوما ونرى جدران مشافينا مزدانة بالأسماء المتبرّعة.

هل سندخلها وسنراها خليّة نحل فاعلة طبيّا وبحثيّا وعلميّا.

نحن بانتظار. وأخذ القليل خير من ترك الكثير

وبالله التوفيق.