أغلقوا غوانتنامو الصغير ولكن لا تنسوا الكبير

أغلقوا غوانتنامو الصغير

ولكن لا تنسوا الكبير...

زهير سالم*

[email protected]

تخفق قلوب محبي الحرية والعدل وسيادة القانون في العالم وتهتف حناجرهم لإغلاق السجن الأمريكي سيء السمعة في غوانتنامو. لقد كان هذا الإغلاق وعدا انتخابيا للرئيس الأمريكي لم ينفذ، و يريد هذا الرئيس اليوم أن يتقدم لدورة رئاسية ثانية !!! لقد أصبح هذا المطلب اليوم أكثر إلحاحا على الأجندة الإنسانية وليس الأمريكية فقط..

تابعت العديد من نزلاء السجن المذكور وهم يقدمون شهاداتهم على الفضائيات، ويرسمون  صورا عن مآسيه الرهيبة. كل الأحاديث كانت تواجهك بفظاعة الإنسان وقدراته البهيمية عندما تنتصر فيه غرائزه على أخيه الإنسان. لأمر ظللتُ أجهله اقترن ذكر السجن الرهيب وكمنعكس شرطي مباشر لديّ؛ بحقيقة ما يجري في وطني سورية منذ أربعين عاما...

ولكي لا يقع قارئ في لبس مما أقول ،  فالاقتران الذي أشير إليه لم يكن أبدا بين سجون سورية مثل ( تدمر والمزة وكفر سوسة وفرع فلسطين) وبين سجن غوانتنامو سيء الذكر إنسانيا وعالميا وقانونيا، وإنما كان الاقتران يتم بين مسجونين وسجن اسمه غوانتنامو وبين مواطنين ووطن اسمه سورية

 لم يكم الاقتران المشار إليه نفسيا فقط وإنما كان عقليا حتى خلته  نوعا من الوسواس القهري الذي يلازم الإنسان أحيانا فلا يفارقه، ولا يستطيع عنه انفكاكا. كل صورة من صور الإذلال الجسدي أو النفسي التي كان يتحدث عنها متحدث من أولئك الممتحنين كانت تستدعي نظيرة لها من واقع ما يعيشه المواطنون السوريون في سجنهم الكبير الذي هو وطنهم. كان الحديث عن الزبانية هنا وهناك دائما يخرج بمقايسة لصالح الغرباء وهذا ما يزيد في غيظي.  كنت أحاول أن أبحث دائما عن أسرار هذا الاقتران أو الهاجس ودواعيه، ربما لأدفعه عن نفسي حفاظا على صحة نفسية يبدو الإنسان أحوج ما يكون إليها ليستطيع التواصل مع الآخرين ولكن قلما وصلت إلى تفسير يقنعني أستطيع أن اجهر به أمام الناس.

في جوانب كثيرة من المقارنات العملية ما زلت أرى أن ما يعيشه المواطن السوري في يومياته العادية لا يقل نكالا عما تحدث عنه الذين رووا عن حياة ( المقاتلين الأعداء ). ولو أردت أن أفصّل لأوردت على القارئ العديد من وجوه الوقائع و المقارنات. بالطبع كان هذا قبل أن تفجؤنا صور أطفال درعا المنكل بهم، أو صورة حمزة الخطيب الممثل بجسده، أو أخيرا جسد الرضيعة عفاف محمود سراقبة وقبل حديث المواطن السوري من درعا الذي شرح لنا كيف سمل طبيب عيون عينيه، وسحب ما فيهما من ماء بأداة طبية، وقبل فيديو فرسان البيضة  الذين وضعوا ببساطيرهم الغليظة الدستور العملي لأفق العلاقة الوطنية في سورية الإصلاح الموعود.

 كنت أرى دائما أن وراء هذا الاقتران خيطا سريا يجمع بين الوطن الكبير المصنف سكانه عند عصابة ونظام أنهم وإن سالموا وهادنوا (مستسلمون أعداء ) وبين المصطلح الأمريكي الذي يريح الضمير المرهف لحضارة القرن الحادي والعشرين تحت عنوان ( المقاتلون الأعداء ). وكنت أحس أن من واجبي أن أجد هذا الخيط...

ربما أنت تتحير مثلي في البحث عن سبب يجعل القائمين على هذا السجن الكبير الذي اسمه سورية يرفضون أن يريحوا ضمائر مئات الألوف من الأمهات والآباء  والبنات والآباء والأخوات والزوجات والعمات والخالات.....بالكشف عن مصير سجين في سجنهم الصغير، فلا أجد جوابا إلا في حب الانتقام، والحرص على تعذيب أكبر شريحة من نزلاء سجنهم الكبير في الليل والنهار...

لم أستطع أن أجد في أي لحظة سببا أمنيا أو وطنيا أو قوميا أو سرا مما يتعلق بدعم المقاومة والممانعة يمكن لاستدامة الجروح المتعفنة في جسد اسمه الوطن أن يخدمه. تذكرت وأنا أتحدث عن العمات والخالات ما رواه أحد الشيوخ الذين قابلوا بشار الأسد كيف أن الرئيس اضطر أن يعيد زوج ابنة خالته لمكانته بعد أن حاول عقوبته وذلك ليريح ضمير خالته – الكبيرة في السن وهذا من البر – ولكن المشكلة أن الرئيس المذكور لم يعتبر كل مواطنة سورية ، في عمر أمه ، خالته

تابعت دائما الشهود على غوانتنامو وهم يتحدثون عن حالهم ومعاناتهم ومواجهاتهم ساعة يطلبون للتحقيق..واستمعت بالمقابل إلى العديد من المواطنين السوريين عندما قيل لهم وقد عادوا إلى الوطن بعد سنين ( عليك أن تراجع الفرع رقم...)

الكثير من الصور والوقائع والمقارنات التي كانت تثور في السياق كانت تجعل غوانتنامو الصغير أخف وطأة على نزلائه من غوانتنامو  الكبير على مواطنيه..

وفي ثنايا البحث عن السر الخفي الذي يستدعي هذا الاقتران  لا أستغرب أن يتهمني البعض بسببه بالمبالغة أو حب التهويل. يخيل إلي أحيانا أنني وجدت هذا السر وإن من غير يقين. وجدته في عبارة بسيطة تمر دائما على أسماعنا دون أن تستدعي معانيها أو استحقاقاتها الحقيقية العقلية والنفسية على السواء. ظننت أن الاقتران أو الانعكاس الإدراكي الشرطي حاصل بين السجن الصغير والسجن الوطن بجامع أن كليهما ( خارج القانون ).

هل يمكن أن أكون محقا؟! لعلي أو عساي!!

منذ سنوات طويلة عندما كان بعض المعارضين السوريين يشير إلى عناوين مأساتنا الوطنية في مثل المادة الثامنة من الدستور أو إعلان حالة الطوارئ أو في أي قانون سيء السمعة والصيت كنت أصر على القول هذه جزئيات صغيرة في سياق مشكلتنا الوطنية الكبرى.  مشكلتنا الحقيقية في غياب سيادة القانون. في أننا بشر نحكم بمزاج بسطار رأيناه في ساحة البيضة يدوس الرؤوس ويداعب الوجوه...

نحن اليوم بدون حالة طوارئ ولم يتغير شيء. وعندنا قانون إعلام جديد ولكن إعلامنا الرسمي ما زال محتكرا وخشبيا كما أعلن عن حبه له يوما الرئيس!!

حين يدعون اليوم إلى الحوار أو يزعمون أنهم مستعدون للإصلاح تبقى دائما المشكلة في الأساس الذين يريدون البناء عليه. يقول الفقهاء كل ما بني على فاسد فهو فاسد. ولابد للإصلاح من ضمانة ومادام الضمين هو المشكلة فعن أي حوار وعن أي إصلاح يتحدثون...

ننادي مع كل أحرار العالم أغلقوا غوانتنامو الصغير ولا تنسوا الكبير أيضا. ليكون القانون شجرة عالمية ظليلة تظلل كل بني الإنسان..

                

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية