التأمل في تبعات الديناميكيات السورية

إحاطة سياسية

مياه غير مطروقة:

I. نظرة عامة

لا زال من غير المؤكد ما إذا كانت الأزمة السورية دخلت مرحلتها الأخيرة بعد أم لا، لكن ما من شك في أنها دخلت أخطر مراحلها حتى الآن.  تتميز المرحلة الراهنة بمزيج خطير من الرهانات الإستراتيجية المرتفعة والمرتبطة بالتنافس الإقليمي والدولي من جهة والمواقف المشحونة عاطفياً، والاستقطاب الطائفي والتمنيات السياسية من جهة أخرى.  مع تحول الديناميكيات سواء في سورية أو على الساحة الدولية بشكل كامل ضد النظام، فإن ردود الفعل تتراوح بين التحدي الهستيري من قبل مؤيديه وتفاؤل المحتجين بقرب انتهاء المأزق الدموي ومخاوف من عمليات الانتقام الطائفي أو حتى الحرب الأهلية، وهي مخاوف تعتري كثيرين، وصولاً إلى إحساس بالنصر بين أولئك الذين ينظرون إلى الأزمة باعتبارها فرصة تاريخية لتحقيق تحول حاسم في ميزان القوى الإقليمي.

إلا أن العنصر الغائب تماماً يتمثل في تقييم رصين للتحديات التي أطلقتها هذه التحولات ومخاطر حقيقية من أن تؤدي هذه التحولات إلى تعطيل عملية الانتقال الناجح أو حتى إيقافها نهائياً.  هناك على وجه الخصوص خمس قضايا من المحتمل أن تصيغ الأحداث، هذه القضايا لازالت غائبة عن النقاش العام، وهي:

مصير الطائفة العلوية؛

الارتباط بين سورية ولبنان؛

طبيعة الانخراط الدولي المتزايد وتداعياته ؛

الأثر بعيد المدى لتنامي عسكرة الحركة الاحتجاجية؛

الإرث الذي سيخلّفه الانحلال الاجتماعي، والاقتصادي والمؤسساتي.

كثيرون الآن في سورية وفي الخارج يراهنون على السقوط الوشيك للنظام ويتوقعون أن يكون كل شيء أفضل بعد ذلك.  إلا أن هذا من قبل الترف والتفاؤل غير المبرر.  بدلاً من ذلك، فقد حان وقت مواجهة الصعوبات ومعالجتها قبل أن يفوت الأوان.  في "مسودة البرنامج السياسي" الذي أصدره المجلس الوطني السوري في 20 تشرين الثاني/نوفمبر – وهو هيئة تضم عدداً من جماعات المعارضة – قدّم صورة لحركة سلمية تماماً تعاني من القمع الوحشي.  أما النظام وحلفاؤه فيصفون الأزمة بشكل منتظم على أنها مجرد تجليّات داخلية لصراعٍ إقليمي ودولي شرس.  وهاتان الروايتان تقدمان الأمور على أنها إما أبيض أو أسود وتتناقضان كلياً مع بعضهما البعض وتستبعد كلٌ منهما الأخرى.  كلا الروايتان تتجاهلان نقطة محورية تتمثل في أن الإدارة الناجحة لهذه الأزمة التي باتت مدولّة بشكل متزايد تعتمد على فهم واضح للمنطقة الرمادية التي تفصل بينهما.

هذا التقرير الموجز يحلل القضايا المحورية ويقدّم، في خلاصته، توصيات لمعالجتها.

I. أزمة تزداد عمقاً

يواجه النظام وضعاً غاية في السوء.  لقد بات معزولاً أكثر من أي وقت مضى؛ فقد توصلت الجامعة العربية إلى إجماع كبير ضده؛ ووصل دعم الرأي العام العربي له إلى أدنى مستوياته على الإطلاق؛ والمجلس الوطني السوري يكتسب مزيداً من الاعتراف الدولي المتسارع؛ وسجلت الجمعية العامة للأمم المتحدة عدم رضاها من خلال قرارٍ اتخذته بأغلبية 122 صوتاً في 22 تشرين الثاني/نوفمبر.  في الداخل، يعلن ما يُعرف  بالجيش السوري الحر، والذي يبدو أنه يجتذب عدداً متزايداً من الجنود المنشقين، يعلن عن مسؤوليته عن هجمات فعالة ضد الأجهزة الأمنية.

منذ البداية، سعى النظام السوري لإنكار وجود حركة احتجاج شعبية عميقة، واختار بدلاً من ذلك اختزال الأزمة إلى أفعال تقوم بها عصابات مسلحة مدعومة من الخارج.  المفارقة هي أن النظام، وبعد أن بات يواجه حركة تمرد ناشئة مصحوبة بتحالف دولي عازم على إسقاطه، يبدو غير مستعد نهائياً للتكيف مع نفس العدو الذي تخيل في البداية وجوده والذي ساعد سلوكه الذي تميز بقصر النظر على خلقه.

لأكثر من ثمانية أشهر، أبدى النظام هوساً بالرغبة باحتواء، وتشويه وقمع المظاهرات السلمية إلى درجة أنه تجاهل كل ما عدا ذلك.  لقد فشل في وضع إستراتيجية اقتصادية ملموسة تمكنه من الاستمرار في الصراع؛ وبدلاً من ذلك، لجأ إلى استهلاك احتياطه، واستعدى مؤسسات الأعمال وعرّض المواطنين العاديين لصعوبات تزداد سوءاً.  اللافت للانتباه، أن النظام لم يفعل شيئاً لتحضير نفسه للعقوبات التي كان يمكن التنبؤ بها على قطاع النفط والغاز.  لقد أصبح انقطاع الكهرباء أمراً شائعاً، حتى في وسط دمشق؛ وهناك نقص في وقود التدفئة والغاز المنزلي؛ وشهدت المواد الغذائية الأساسية ارتفاعاً خطيراً في الأسعار.  استثمر النظام جل جهوده في دعم الليرة السورية، لكن ومع تعمق الأزمة السياسية، فإن هذه الجهود ستثبت عدم كفايتها عاجلاً أم آجلاً، مما سيزيد في تعميق الأزمة الاقتصادية.

سياسياً، لم يقم النظام سوى بمحاولات ضعيفة ومتأخرة لتعزيز القواعد الداعمة له.  عدا عن تحدث الرئيس بشار الأسد عن "ديمقراطية نموذجية" يتم التحضير لها، والإعلان عن مبادرات تشريعية لم يتم تنفيذها والشروع في عملية مطوّلة لمراجعة الدستور والتي تبدو مصممة بشكل أساسي لكسب الوقت، فإنه لم يشر أبداً إلى أي مسارٍ ذي مصداقية يحقق التقدم إلى الأمام.  بدلاً من ذلك، فقد استحوذت على الرواية الرسمية تعويذة مفادها أن كل ما يفصل هذه الأزمة عن حلها مجرد عدد من العمليات العسكرية الحاسمة ضد ما تبقى من الجيوب الإرهابية، منكراً في الوقت نفسه أن المظاهرات السلمية تتعرض للقمع.  لقد أدى هذا التركيز على "الحل الأمني" إلى تبديد قدرٍ كبير من الدعم الشعبي الذي كان يتمتع به النظام في البداية، سواء في الداخل أو في المنطقة بشكل عام.  أخيراً، وهو الأمر المفاجئ بالنسبة لنظام اشتهر بدبلوماسيته الذكية، فإنه وفّر الظروف المواتية لعزلة دولية غير مسبوقة.

لقد حقق الأسد إنجازين وحيدين، رغم أن كلاهما إشكاليان.  أولاً، فقد أخذ النظام الأقلية العلوية رهينة، حيث ربط مصيرها بمصيره.  وقد فعل ذلك على نحو متعمد كي يضمن ولاء الأجهزة الأمنية – وهذه الأجهزة بعيدة جداً من أن تكون قوات نخبوية تحظى بالامتيازات، فهي في معظمها تتكون من عناصر علويين يتلقون رواتب منخفضة ويعملون فوق طاقتهم ويتحدرون من قرى تركها النظام في حالة من غياب التنمية.  مع بداية الاضطرابات، فبرك النظام حوادث طائفية في مناطق مختلطة مذهبياً كوسيلة لإظهار المشاعر المتجذرة من انعدام الأمن بين العلويين إلى السطح، حيث كان العلويون في القرون الماضية مهمشين اجتماعياً ومستغلين اقتصادياً ويتعرضون للتمييز الديني.  من أجل إثارة المخاوف، قامت السلطات بتوزيع الأسلحة وأكياس الرمل – من أجل إقامة الحواجز والتحصينات – على العلويين القاطنين في المناطق الريفية قبل أن يظهر أي تهديد موضوعي؛ وقامت الأجهزة الأمنية ووسائل الإعلام الرسمية بنشر قصص خيالية تماماً تثير المشاعر وتبعث القشعريرة في الأجسام حول البربرية المزعومة للمحتجين.

بمرور الوقت، حوّل الدور الواضح للعلويين في قمع الاحتجاجات، وتوزيع المواد الدعائية ونشرها وإقامة المسيرات الموالية للنظام حوّل هذا الدور المشاعر المعادية للعلويين – التي كانت في البداية كامنة ومقموعة بشكل عام – إلى واقع ملموس وخطر.  وتطابق سلوك النظام مع أسوأ الأشكال النمطية المعادية للعلويين.  لقد أعاد إحياء التحاملات القديمة حول "وحشية" الطائفة.  وفاقم من المظالم التاريخية المتعلقة بملكية الأرض، والتي كانت قد صودرت في بعض أنحاء البلاد من النخب الإقطاعية السُنيّة ووزعت على الفلاحين العلويين خلال عملية الإصلاح الزراعي التي بدأت في خمسينيات القرن العشرين.  لقد فاقم من حالة الاستياء حول الاستخدام غير المتساوي لمؤسسات الدولة، والتي كانت مصدراً رئيسياً للتوظيف بالنسبة للعلويين؛ وبمرور الوقت أصبحت أداة لنهب المال العام وخدمة مصالح العائلة الحاكمة.

مع تصاعد القمع في الشهور الأخيرة، تحول كثير من السوريين من تحميل المسؤولية لعناصر في النظام إلى تحميل المسؤولية للنظام بمجمله، وأخيراً، إلى تحميل المسؤولية للطائفة العلوية نفسها.  ونتيجة لذلك، فإن العديد من العلويين مصابون حالياً بحالة من الهلع التي تدفعهم إلى الدفاع عن النظام الذي لم يكن غالبيتهم متعاطفين معه في بداية الأزمة.  ويبدو أن شرائح كبيرة من المسيحيين أيضاً، الذين يشاطرون العلويين مخاوف مشابهة بسبب وضعهم كأقلية، تتخذ مساراً مشابهاً.

النجاح الإشكالي الثاني للنظام تمثل في تقسيم البلاد وتجزئتها.  نظراً لافتقار حركة الاحتجاج إلى المرونة الحركية والسيطرة على أي مكان يتمتع بالحسم الرمزي (خصوصاً في العاصمة دمشق وثاني أكبر المدن السورية حلب)، فإنها لم تنجح في تحقيق الكتلة الحرجة الضرورية للادعاء بأن الأسد فقد شرعيته.  بدلاً من ذلك، فإن المتظاهرين، وبأعداد متزايدة، قاوموا العنف المتصاعد من قبل الأجهزة الأمنية وأعوانها من المدنيين في مناطق ساخنة يفصلها عن بعضها البعض عدد كبير من نقاط التفتيش.  في كل  من هذه المناطق المنفصلة، حوّلت قوات الأمن نيرانها باتجاه التجمعات الكبيرة، وراقبت الشخصيات القيادية المحلية، وأمسكت بالأدوات المستعملة في التواصل مع العالم الخارجي وعادت إلى ممارسة العقاب الجماعي مستعملة في بعض الحالات تكتيكات مروعة للتخويف مثل إعادة أجساد الضحايا مقطعة ومشوهة إلى أسرهم.

إلا أن النظام تمكّن من ضمان السيطرة على هذه المناطق بشكل أساسي نظراً لبقاء الحركة الاحتجاجية سلمية بشكل كبير.  وهذا ما سمح له بالاعتماد على قوات الأمن المسلحة بأسلحة خفيفة وكذلك على المتعاملين مع الأجهزة الأمنية، واللجوء إلى استعمال قوات الجيش فقط في المهام الثانوية (مثل إقامة الحواجز ونقاط التفتيش) أو رداً على الحوادث النادرة المتمثلة في المقاومة المسلحة المنظمة.  ولهذا أسباب؛ فعلى مدى السنوات، قام النظام ببناء أدوات الدولة البوليسية في حين لم يثق بالجيش – الكبير عددياً ولكن سيء التدريب والمعدات والمعنويات.  ومن أجل تقليص مخاطر القيام بانقلاب عسكري، عمل الأسد على إبقاء الجيش ضعيفاً ومنقسماً.  والنتيجة النهائية – باستثناء وحدات الحرس الجمهوري القليلة – فإنه لا يمكن الاعتماد عليه كأداة للقمع.

ثمة مؤشرات على أن هذه الصيغة التي استعملها النظام لم تعد صالحة.  إن فشله في تعزيز شرعيته، إضافة إلى الفجوة بين روايته (التي تقول بأن الدولة تصارع لاستعادة النظام والقانون في وجه الهجمات الإرهابية) والوقائع اليومية (حيث لا تميز قوات الأمن بين المتظاهرين السلميين والجماعات المسلحة) أدى إلى انشقاق أعداد أكبر من العسكريين.  المدنيون، المتعطشون للحماية والانتقام في الوقت نفسه، باتوا أكثر استعداداً للترحيب بالمنشقين، ودعمهم، وإيوائهم، مما يجعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية استئصالهم.  وباختصار، فإن وحشية هذه الأجهزة أدت إلى ظهور رد فعل مسلح تبدو الأجهزة الأمنية وعملاؤها غير قادرين على معالجته.  باتت هذه الأجهزة، التي انكشفت بشكل متزايد، بحاجة لمساعدة الجنود الذين لم يكونوا مستعدين لهذه المهمة، والذين يشعرون على نحو تدريجي بابتعادهم عن أجهزة النظام القمعية وأكثر تعاطفاً مع المحتجين.  والنتيجة المباشرة لهذا الوضع هو أن قوات الأمن تفقد السيطرة بشكل متزايد في كثير من أنحاء البلاد حيث يقتصر عملها على عمليات محدودة تسارع بعدها إلى الانسحاب.

وبحلول الوقت الذي باتت فيه قائمة أعداء النظام، التي تزداد طولاً، تتحرك بشكل منسق، فإن النظام كان قد أهدر كل فرصة حقيقة لتعزيز جبهته الداخلية، وأوصل الاقتصاد إلى ما يقارب نقطة الانهيار، ودفع بجيشه إلى الانشقاق بأعداد صغيرة لكن متزايدة وخسر تقريباً كل تعاطف الشارع العربي، الذي كان تاريخياً المصدر الرئيسي لشرعيته.

II. غيوم في الأفق

لقد أصبح المجتمع السوري، من عدد من النواحي، أكثر استعداداً للتغيير مما كان في بداية الانتفاضة.  لقد أبقت تكتيكات فرّق تسد التي استعملها النظام، أبقت معظم العلويين والكثير من المسيحيين، إضافة إلى بعض الدروز والسُنة إلى جانبه، إلا أن هذه التكتيكات أدت في الوقت نفسه إلى تنامي شعور غير مسبوق بالوعي، والتضامن والمسؤولية بين شرائح واسعة من السكان.  بعد عقود من القمع، ظهر المجتمع المدني كلاعب يتمتع بطاقة ومبادرة مفاجئة، حيث يقدم الدعم إلى أولئك الذين يستهدفهم النظام ويبني الجسور الطائفية والجغرافية.  وبمرور الوقت، يبدو أن الانقسامات الاجتماعية تراجعت.  لقد قدم رجال أعمال مساعدات مادية للمحتجين، وانحاز بعض أفراد الطبقات الوسطى إلى ما بدا في البداية على أنها انتفاضة ينتمي معظم القائمين بها إلى الطبقة العاملة.

الشباب، الذين تميزوا باللامبالاة منذ وقت طويل، أصبحوا أكثر تسييساً وباتوا اليوم أكثر انخراطاً في الصراع، ويسعون لمقاومة الاتجاهات الأكثر طائفية وخشونة بين المتظاهرين.  ومن خلال جهودهم التنسيقية فقد تمكنوا من إنتاج قيادات محلية سرّية ناشئة وفعالة على نحو متزايد.  ومن خلال سلسلة من عمليات الانشقاق، فإن الجيش نفسه قد يتمكن من بناء عمود فقري أساسي لجهاز مستقبلي أكثر تلاحماً.

وأخيراً، فقد تطورت علاقة إيجابية نسبياً بين السوريين الذين يعيشون في البلاد والسوريين المغتربين.  لقد تمت تعبئة السوريين المغتربين، وباتوا يقدمون دعماً لوجستياً هاماً لحركة الاحتجاجات وتمكنوا من تشكيل معارضة في المنفى اكتسبت مصداقية حقيقية رغم هشاشتها سواء على الأرض أو على الساحة الدولية.  كما أنهم يمتلكون موارد هامة من شأنها أن تكون حاسمة في عملية التحول السياسي.

إلا أن هذا يمثل الجزء الأكثر إشراقاً في لوحة أكبر تسودها الظلال.  إن احتمالات نشوء مرحلة انتقالية ناجحة تعتريها غيوم خمس قضايا جوهرية لم تتم معالجتها حتى الآن.

آ. المسألة العلوية

بدلاً من انهيار النظام بشكل فوري ومفاجئ، فإنه يمكن أن يستمر لفترة طويلة حتى مع استمراره في الاضمحلال والانقسام، مما سينتج ميليشيات عدمية ستقاوم حتى النهاية.  في عدد من المقابلات الأخيرة، تعهد الأسد بشكل أساسي بأنه سيقاوم حتى النهاية.  ولن يفعل ذلك بمفرده.  بصرف النظر عن حالات الانشقاق في الجيش، ورغم عدم الرضا والاستياء الواضحين داخل الأجهزة الأمنية وهيكليات السلطة نفسها، فإن النظام يحتفظ بعدد كبير من الأنصار.  لقد أصبحت قاعدة تأييده أكثر راديكالية حتى مع تقلص حجمها.  تجري عملية إعادة تنظيم لهذه القاعدة حول نواة صلبة تتكون من أفراد العائلة الحاكمة والموالين الذين تعزز تصميمهم على القتال مع مشاركتهم على مدى شهور في عمليات القمع المروعة، مما يقلص من احتمالات قيام انقلاب داخل الدائرة الحاكمة.  العناصر الأكثر تطرفاً بين المدنيين الموالين للنظام – الذين يُشار إليهم بالشبيحة – بدأوا بتشكيل كتائب خاصة بهم على ما يُذكر، كما أن تعصبهم ينشر الخوف بين عناصر الجيش الأقل التزاماً.[1]

وبشكل أكثر عمومية، فإن العديد من مؤيدي النظام يشعرون بالخوف على مستقبلهم وبالتالي فإنهم سيكونون مستعدين للمقاومة حتى النهاية.  معظم المسؤولين العلويين، وضباط الأمن والمواطنين العاديين، إضافة إلى شرائح من المسيحيين وبعض العلمانيين، باتوا مقتنعين بأن قدرهم هو أن يَقتلوا أو يُقتلوا.

العلويون على الأقل ليسوا مخطئين تماماً.  رغم أن النظام كان أكثر طائفية بكثير من حركة الاحتجاجات، ورغم أنه يتحمل بوضوح المسؤولية عن تفاقم المشاعر المذهبية واستغلالها، فإن الواقع بات أكثر قرباً من الخيال في هذه الحالة.  ثمة ما يدعو إلى الخوف، وبصرف النظر عن كيفية تطور الأوضاع، من أن القرى العلوية التي شارك سكانها بفعالية في قمع المظاهرات – مثل ربيعة في ريف حماه والقبو في المرتفعات المطلة على حمص – يمكن أن تشهدا عمليات انتقامية واسعة النطاق.

لقد سعت العديد من القرى العلوية الأخرى إلى النأي بنفسها عن المواجهة، إما لأنها واقعة بعيداً عن خطوط التماس الطائفية أو لأنها احتفظت بهويتها الريفية المستقلة إلى حدٍ كبير عن النظام.  لكن حتى هذه القرى لن تكون محصنة من الانخراط في الصراع، لأن هذه القرى هي مسقط رأس العلويين الحضريين الذين باتوا أكثر راديكالية بفعل الأحداث ويشعرون بالولاء المطلق للأسد – وبعدم القدرة فعلياً على تخيّل مستقبل بدونه.  إذا فقد النظام السيطرة على العاصمة، فإن هؤلاء الأنصار الموالون بقوة يمكن أن ينسحبوا إلى قراهم من أجل الدفاع عن نسائهم، وأطفالهم وعجائزهم الذين أرسلوهم منذ وقت طويل إلى الريف من أجل حمايتهم.  إذا اختاروا الدفاع في معركة أخيرة عن معاقلهم، فإن أي تمييز بين أنصار النظام والعلويين العاديين سيتلاشى تماماً.  كما تبيّن في ليبيا، فإن محاولات القضاء على آخر جيوب الموالين من شأنها أن تُفضي إلى مذابح بين المدنيين.

يأمل البعض بأن الأسد سيُقتل وأن هذا سيؤدي إلى انهيار سريع لما تبقى من هيكليات السلطة، ويمهد الطريق لعملية انتقالية سلسة.  هذا السيناريو بعيد الاحتمال وهناك إمكانية لأن يؤدي موته إلى إنتاج أثر عكسي.  الآن، وبالنظر إلى مدى ربط العلويين لمصيرهم بمصيره، فمن المرجح أنهم سيعتبرون ما سيحدث له نذيراً بما سيحدث لهم.

ب. قضية لبنان

لم تكن العلاقة بين ما سيحدث في سورية وما يحدث في لبنان أكثر سطوعاً وخطورة مما هي الآن.  خلال الأشهر القليلة الماضية، كان المشهد السياسي اللبناني هادئاً بشكل يبعث على الريبة رغم بقاء الاستقطاب السائد فيه.  لقد وفّر حزب الله، الحركة الشيعية المقاومة، لنظام الأسد دعمه السياسي المطلق.  وقد التزمت المنار، المحطة التلفزيونية التابعة له، بشكل كامل بالرواية الرسمية للجماعات المسلحة الإسلامية السُنيّة المدعومة خارجياً؛ وأطلق أمينه العام، حسن نصر الله، على أي سوري يعبّر عن عدم الرضا على رزمة الإصلاحات الشحيحة التي قام بها الأسد بأنه مؤيد لإسرائيل وأنه عدو.  بالنسبة لحزب الله، فإن القضية الجوهرية تبقى توازن القوى والصراع ضد إسرائيل؛ وبالنسبة لقواعده الشيعية فإن المخاوف المذهبية تبقى كبيرة؛ فإذا هيمن السُنة على النظام السوري الجديد، فإنهم يخشون من الوقوع بينه وبين الطائفة السُنيّة في لبنان.

المفارقة هي أن العديد من السُنة اللبنانيين يشاطرون نظراءهم الشيعة تفسيرهم الطائفي، حيث ينظرون إلى انتصار السُنة في دمشق على أنه انتقام تاريخي وفرصة لتغيير التوازن المحلي والإقليمي للقوى على حساب حزب الله.  رغم ذلك، ورغم المظاهرات الموالية والمعادية للنظام التي تظهر أحياناً، إضافة إلى الاعتقالات المتفرقة أو اختفاء النشطاء السوريين المنشقين، فإن البلاد تبدو معلّقةً في الزمن، بانتظار اتضاح المسار الذي ستتخذه الأزمة.

لقد بدأ هذا بالتغيّر.  لقد أدى الضعف الواضح والمتزايد للنظام السوري بتغيير الحسابات الداخلية.  حتى مع سعيه لإيجاد متحدثين داخليين باسمه مستعدين للدفاع عنه على محطات التلفزة الفضائية العربية، فإن النظام ظل بوسعه الاعتماد على جيش من المتطوعين اللبنانيين كي يملؤوا الفراغ.  في ما يبدو على أنه صدى لتعهد الأسد بزعزعة استقرار المنطقة بأسرها بدلاً من التنحي، فإن حزب الله وشركائه اللبنانيين باتوا يصدرون الآن أكثر التصريحات إنذاراً ووعيداً نيابة عن الرئيس السوري.  ليس التضامن مع حليفٍ محاصر هو دافعهم الوحيد.  إنهم مدفوعون أيضاً بإيمانٍ عميق بأن الأحداث في سورية جزء لا يتجزأ من مؤامرة دولية أوسع لتوجيه ضربة حاسمة ضد ما يعتبرونه محور المقاومة لهيمنة إسرائيل والولايات المتحدة على الشرق الأوسط.

كما أن لديهم ما يبرر قلقهم.  إن الضغوط الدولية الهادفة للقضاء على النظام ليست مجرد مسألة مخاوف إنسانية جراء ارتفاع عدد القتلى.  في أكثر من بلد – خصوصاً في الولايات المتحدة، وإسرائيل والسعودية – فإن الإطاحة بالأسد تعتبر خطوة حاسمة نحو شل حركة حزب الله وعزل إيران.  إن تصعيد الضغوط على طهران – الذي يتجلى من خلال الحديث المتزايد عن احتمال توجيه ضربة إسرائيلية لمنشآتها النووية – مصحوباً بالجهود المكثفة لضمان استمرار بيروت بتمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان (التي اتهمت حزب الله بالضلوع باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري)، تغذي أيضاً الاعتقاد بأن الاحتجاجات الشعبية في سورية قد تحولت إلى معركة وجودية حول مصير المنطقة.

كما أن حزب الله لم يساعد قضيته كثيراً.  فمن خلال تقديم الدعم الأعمى للنظام السوري والدفاع في الوقت نفسه عن الانتفاضة ذات الطابع الشيعي في البحرين، فإنه بدا طائفياً بعمق وبدد جزءاً كبيراً من التعاطف الذي كان يتمتع به سابقاً لدى الرأي العام العربي.  ومن خلال وضع الاعتبارات العملية للمقاومة فوق الأسس الأخلاقية للحزب، فإنه خسر قدراً كبيراً من مكانته المعنوية.

وهذا يشكل تهديدات كبيرة سواء لسورية أو للبنان.  يمكن أن يدفع هذا حزب الله إلى زيادة مساعدته لحليفه السوري بوسائل ملموسة.  الآن يبدو أن فشل مبادرة الجامعة العربية أوصد الباب أمام حل تفاوضي، وقد ألمحت تركيا إلى احتمال أن تقيم منطقة عازلة على الأراضي السورية واعترفت ضمناً بشرعية الصراع المسلح ضد النظام، يمكن لحزب الله أن يستنتج أن الطبيعة الدولية للصراع تبرر انخراطه المباشر فيه على الأرض.  ويمكن لذلك أن يكون مؤشراً على تغير هائل.  حتى الآن، ورغم الاتهامات المتواترة، لم يظهر أي دليل ملموس على أي دور عسكري لحزب الله في قمع الانتفاضة.

على نحو مماثل، فإذا وصلت الأوضاع إلى نقطة تبدو الإطاحة بالأسد فيها وشيكة، يمكن أن يقوم حزب الله بشن هجمات على إسرائيل في محاولة لصرف الانتباه.  في هذه اللحظة، ليس هناك مؤشرات على أن الحزب سيتخذ هذا المسار الذي سيعرض الحزب الشيعي لمخاطر كبرى.  ستكون دوافعه شفافة وواضحة، وسيعرض نفسه لرد انتقامي إسرائيلي هائل في وقت لم يعد بوسعه فيه أن يعتمد على الحماية السورية وعلى إمكانية إعادة التزود من خلالها.  وفي السياق نفسه، يمكن لإيران أن تفضل أن يُحافظ حزب الله على قوته من أجل ردع ضربة إسرائيلية محتملة.  رغم ذلك، فكلما اعتبر حزب الله وطهران الأزمة السورية صراعاً وجودياً يهدف إلى توجيه ضربة حاسمة إليهما، كلما كانت المخاطرة أكبر بأن يختارا أن يمضيا في ردهما إلى النهاية.  في الحد الأدنى، فإن هذا احتمال لا ينبغي تجاهله بشكل كامل.

كما لن يكون لبنان نفسه في منأى عن الخطر.  إذا انهار النظام السوري، وعندما ينهار، فإن أي جهد يعتبره حزب الله تقويضاً لموقعه من شأنه أن يطلق صراعاً دموياً داخلياً.  في الوقت الراهن، لم يظهر سُنة لبنان الذين يشعرون بجرأة أكبر رغبة في المواجهة العسكرية مع عدوهم.  وبدلاً من تسليح أنفسهم، فإنهم يستثمرون آمالهم في حركة الاحتجاج والمعارضة السورية التي يُذكر أنهم يقدمون لها الدعم اللوجستي والمادي.  لا شك أن الحزب الشيعي سيضعف جراء خسارته لحليفه، لكن رغم ذلك فإنه سيظل اللاعب اللبناني الأقوى، حيث يحظى بدعم شعبي كبير بين الشيعة والمسيحيين ولا زال لديه ترسانة عسكرية لا مثيل لها في لبنان.

إذا استعمل خصوم حزب الله هذه الفرصة لتعزيز مواقعهم فإنهم سيكونون كمن يلعب بالنار.  وسيخسر الجميع – الشعب اللبناني، بالطبع، لكن أيضاً العملية الانتقالية في سورية، التي ستتضرر من حدوث أزمة عنيفة على حدودها.  باختصار، وبالنظر إلى التوازن الحالي للقوى والإحجام الواقعي للسُنة عن اللجوء إلى الخيار العسكري، فإن احتمالات حدوث هذا السيناريو تبقى متدنية.  إلا أن الظروف والحسابات يمكن أن تتغير.  يمكن للأزمة السورية أن تشكل نقطة تحول، حيث تدفع اللاعبين الخارجيين إلى تصعيد جهودهم نيابة عن حلفائهم اللبنانيين السُنة.

ج. أثر التدويل

بالنسبة للمحتجين الذين يتعرضون للقمع الشديد، فإن التحول باتجاه قدرٍ أكبر من الانخراط الدولي سيكون بلا شك أمراً مرحباً به.  لقد تنامى الدعم داخل سورية حيال مثل هذا التدخل، ما يعتبر تطوراً هاماً بالنظر إلى ما يتمتع به الشعب السوري من تشكك أسطوري بالتدخل الخارجي.  كما أن هذا التطور معبرٌ جداً – ليس عن اتساع المؤامرة الخارجية المزعومة، كما يود النظام وحلفاؤه الزعم، بل عن عمق اليأس الذي أصاب الشعب السوري.  رغم ذلك، فإن العلاج قصير الأمد لمعاناتهم من شأنه أن يجلب عليهم مشاكل طويلة الأمد وأن يعقّد عملية الانتقال السياسي.  من بين الدول العربية التي ظهرت فيها الانتفاضات الشعبية، يمكن المجادلة بأن سورية أكثرها عرضة للتدخل الخارجي الضار، في انعكاس لصراعها الطويل مع إسرائيل؛ وعلاقاتها الأمنية الوثيقة بإيران وحزب الله؛ ومؤسساتها الهشة؛ وتكوينها العرقي والطائفي المعقد؛ والعلاقات المتبادلة الوثيقة مع جيرانها العرب، وتركيا، ودول الخليج حيث يعمل العديد من مواطنيها وحيث اكتشف عدد منهم أشكالاً من الإسلام السياسي المتشدد الذي لا يتناسب مع الطبيعة التعددية لبلادهم.

ليس من الصعب تخيّل أين يمكن أن يؤدي ذلك في سياق العملية الانتقالية.  يمكن للولايات المتحدة وإسرائيل أن تسعيا لتشكيل السياسة الخارجية السورية.  كما يمكن لتركيا أن تحاول احتواء التطلعات الاستقلالية للأكراد وأن تختار تشجيع الأخوان المسلمين السوريين.  ويمكن للسعودية أن تدعم  التيارات السلفية.  كما قد ترغب إيران، والعراق أيضاً، بإحباط ظهور نظام يهيمن عليه السُنة وبالتالي يمكن أن تلعب بالورقة العلوية؛ ويمكن لإيران بوجه خاص أن ترعى بقايا الأجهزة الأمنية.  كلما انكشفت سورية أمام التدخل الخارجي قبل حدوث العملية الانتقالية، كلما بات من المرجح أن تصبح ساحة للتدخل الخارجي بعد انتهاء العملية الانتقالية.  باختصار، فإن التحدي لا يكمن في اجتذاب اللاعبين الخارجيين بل بمنعهم من التدخل.

في هذا الوقت، قد يكون من المستحيل وقف التوجه نحو التدويل.  لقد أهدر النظام شهوراً ظل خلالها العالم الخارجي سلبياً، وبدلاً من الإقرار بالأزمة الداخلية ناهيك عن معالجتها، فقد اختار تحويل الانتباه إلى مؤامرة دولية خيالية.  إنه يواجه اليوم أزمة داخلية تزداد عمقاً وتدخلاً أجنبياً متصاعداً.  لكن إذا اختار المجتمع الدولي رفع مستوى مثل هذا التدخل، وخصوصاً إذا لجأ إلى وسائل عسكرية من أي نوع، فإنه سيوفر لحلفاء النظام الذريعة الضرورية لتصعيد انخراطهم.  ويمكن للحصيلة أن تكون تصعيداً كارثياً لا يبدو أن أياً من أعداء النظام مستعد له إضافة إلى أنه سيحرف الحركة الاحتجاجية عن أهدافها ويقلص فرصها في النجاح.

د. عسكرة المعارضة

تتعرض الأجهزة الأمنية وعملائها إلى هجمات متزايدة، تستهدف خصوصاً وسائل  نقلها.  ونتيجة لذلك، فإن قوات النظام تخاطر بفقدان قدرتها على الحركة بشكل متزايد إضافة إلى فقدان سيطرتها على أجزاء من البلاد، مما سيجبرها على التراجع.  الآن، لم يعد هناك وجود عسكري موالٍ في أجزاء من محافظات إدلب، وحماه وحمص، وهو وضع يمكّن المعارضة المسلحة من إعادة التجمع والتنظيم.  ويبدو أن محافظتي دير الزور ودرعا على وشك المضي في مسارٍ مشابه.  مع تزايد حالات الانشقاق وتعرض الجيش لقدر أكبر من الضغط، ثمة أسباب للشك في أن النظام بوسعه تعبئة الموارد العسكرية الكافية لعكس هذا الاتجاه.  قد يصبح الحديث عن إقامة ملاذات آمنة على الحدود التركية والأردنية في القريب العاجل ماثلاً؛ حيث أن السوريين يبدون في طريقهم لإقامة هذه الملاذات بأنفسهم.

لكن ما الذي يظهر حتى الآن في تلك المناطق التي تحررت من سيطرة النظام؟  حتى الآن، فإن المعارضة السورية وجزءاً كبيراً من وسائل الإعلام الدولية الرئيسية ترسم صورة مطمئنة لجيش يتكون من وطنيين مخلصين يحظون بدعم المدنيين الذين هم بحاجة للدفاع عن النفس ويظهرون قدراً أكبر من الثقة بالنفس وفرض سيطرتهم في المناطق التي تتراجع عنها قوات النظام.  ثمة شيء من الحقيقة في هذه الرواية.  إلا أن هناك أيضاً تياراً تحتياً مثيراً للقلق، مع ظهور أدلة متزايدة على انتشار الفوضى وأعمال الانتقام الطائفي والنشاط الإجرامي، خصوصاً في وسط سورية.  في الفراغ الذي سينشأ، فإن المقاتلين الأصوليين والعملاء التابعين لأطراف أجنبية قد ينضمون إلى الصراع.  النظام من جهته ادعى منذ وقت طويل بأن هذه الأشكال من العنف هي جوهر المسألة، في حين أنها كانت في الحقيقة عرضاً جانبياً.  هذا لا يعني أن على المرء أن يتجاهل احتمال أن يلعب هؤلاء دوراً أكثر محورية مع انحراف الصراع من مواجهة بين دولة بوليسية شديدة القسوة ضد حركة احتجاجية سلمية في معظمها إلى مواجهة مجزأة تستعمل فيها كل الأطراف العنف.

الجيش السوري الحر نفسه لازال ورقة مجهولة أكثر منه كياناً واضح المعالم.  هل يشكل مظلة لجماعات مسلحة منفصلة يمكن أن تتحول إلى ميليشيات غير منتظمة؟  أم أنه يقوم بإدماج المنشقين في هيكلية تراتبية منضبطة؟  في الحالة الأخيرة، هل ستوافق قيادته على إخضاع نفسها للإشراف السياسي، على سبيل المثال من قبل المجلس الوطني، أم أنه سيحاول أن يشق طريقه المنفصل ويعمل باستقلال بعد سقوط النظام؟  هل سيدافع عن الوحدة الوطنية أم أنه سيسقط فريسة للاستقطاب الطائفي؟  هل بإمكانه أن يُحجم عن تقليد السلوك الإجرامي للنظام الذي يقاتل ضده لكن الذي نشأ من أحضانه؟  إن عرض الجيش الحر لاعترافات عناصر من الأجهزة الأمنية تم إلقاء القبض عليهم – والذين يبدو عليهم، في حالة واحدة على الأقل، علامات واضحة للتعذيب – يعتبر أمراً يدعو إلى الحذر.

هـ. انحلال الدولة

يدعي النظام باستمرار بأنه يمثل "الدولة" و يدافع عنها بوصفها تجسيداً للوحدة الوطنية، وضمانة النظام والقانون والمصدر النهائي للشرعية.  في الواقع، فإنه لم يفعل شيئاً من هذا القبيل.  بدلاً من ذلك، فقد استغل خطوط التماس الاجتماعية واستعمل تكتيكات تقسيمية لإخافة السوريين وجعلهم يقبلون بحكمه بوصفه الشر الأهون.  لقد عرّض الطائفة العلوية للخطر من أجل احتفاظه بالسلطة؛ وسعى لاستغلال الأقليات وجعلها تتصارع مع الأغلبية العربية السُنيّة؛ وأطلق العنان لقوات أمنه ضد المحتجين غير المسلحين وغطى على سلوكها الطائفي؛ واستأجر المجرمين للقيام بأعماله القذرة، وفي الوقت نفسه تغاضى عن تجريم قواته النظامية – التي لجأ عناصرها إلى السرقة، والخطف وتهريب السلاح.  إن الفساد، والممارسات المنافية للقانون وانعدام الكفاءة على المستويات العليا تحدث دون خوف من العقاب كلما كان للعائلة الحاكمة مصلحة في ذلك.  على وجه العموم، فقد شجع النظام – إن لم يكن كافئ، أكثر أشكال السلوك الاجتماعي تدميراً.

إن أثر هذا التدمير المتعمد للدولة والمؤسسات الاجتماعية – التي كانت ضعيفة أصلاً – يمكن أن يكون كارثياً.  لقد بات الاستياء المتجذر وانعدام الثقة المتبادل والراسخ يحدد العلاقات بين أفراد المعسكرين المتعارضين.  في المدارس والجامعات، تصل التوترات في كثير من الأحيان إلى نقطة الغليان، مما يؤدي إلى صدامات، يشجعها في بعض الأحيان النظام نفسه.  باتت الغرائز الطائفية، وفي بعض الحالات، التهديدات الفعلية، تدفع المواطنين إلى الانتقال للعيش في مناطق تضم أشخاصاً مشابهين لهم، وهو ما ينشئ نمطاً مثيراً للقلق من الفصل الطائفي.  في بلد عُرف لمدة طويلة بأمنه، فإن بعض المناطق تشهد قدراً كبيراً من النشاط الإجرامي.  إن استعمال النظام الواسع النطاق للعملاء المدنيين سيُسهم ولا شك في تغذية هذا التطور.

كما أن هناك ملامح أزمة اقتصادية كبيرة في الأفق، مع تداعيات مدمرة في المستقبل.  من شبه المؤكد أن النظام سيفرغ خزائن الدولة من أجل الاحتفاظ بالسلطة لأطول وقت ممكن.  في هذه الأثناء، فإن العقوبات الدولية تؤدي إلى توقف النشاط الاقتصادي وتولد مزيداً من البطالة.  مع ارتفاع أسعار المستوردات وانقطاع الإنتاج الداخلي، فإن السوريين يجدون صعوبة أكبر في الحصول على السلع، بما في ذلك الدواء والحليب.  ومع سعي رجال الأعمال والمواطنين لحماية أصولهم، فإن المصارف تصبح أضعف.  ومهما كان تركيز العقوبات ضيقاً، فإنها ولا شك تسهم في ركود اقتصادي واسع.  حتى على فرض إيجاد تسوية سريعة للأزمة السياسية، فإن الأزمة الاجتماعية – الاقتصادية ستحتل مكانها.

تبدو مسودة البرنامج السياسي للمجلس الوطني السوري وكأنها تستند إلى فرضية مفادها أنه عندما يسقط النظام في النهاية، فإن المعارضة سترث دولة قائمة قادرة على إبقاء البلاد موحدة مع تطور العملية السياسية الديمقراطية.  تلك صورة مفرطة في الوردية.  قد يظهر السوريون قدراً كبيراً من الصبر وضبط النفس خلال المرحلة الانتقالية الحافلة بالصعوبات، إلا أن التحديات التي سيواجهونها من المحتمل أن تكون أكثر جسامة من تلك التي واجهها التونسيون، والمصريون والليبيون من قبلهم.  إن التمنيات بديل سيء للتفكير الجدي في المستقبل.

III. خلاصة

إن كون الأزمة الراهنة والمرحلة الانتقالية في المستقبل تمثلان مخاطر هائلة ليس سبباً كافياً للدفاع عن نظام لا يقدم حلاً ويبدو أن إستراتيجيته الوحيدة تتمثل في خلق مخاطر جديدة.  مثالياً، ينبغي أن يكون هذا هو الوقت لأطراف ثالثة كي تتوسط للتوصل إلى عملية انتقالية تفاوضية.  إلا أن ما من مؤشر على أن هذا سيحدث.  كانت المبادرة الأخيرة للجامعة العربية محقة في إصرارها على أن يضع النظام حداً لهجماته على المحتجين السلميين. إلا أن المظاهرات الشعبية هي بالتحديد ما يخشاه النظام أكثر من غيرها، مما يجعل مثل هذا الجهد غير قابل للتحقق.  لقد طالبت الجامعة – وقَبِل النظام مبدئياً – بإرسال مراقبين أجانب.  إلا أن السلطات لديها مما تخفي أكثر مما تُظهر؛ إنهم سيقبلون إلى الحد الذي يقوم المراقبون من خلاله بتأكيد وجود الجماعات المسلحة وإلى الحد الذي يمنعون فيه من توثيق جرائم قوات الأمن.  كما أن النظام تعهد بإجراء انتخابات بلدية وإصلاح الدستور، إلا أن أياً من الخطوتين لم تقترب حتى من ملامسة عمق الأزمة.

حتى في خطابه، فإن النظام لا يشير إلى استعداده للمساومة.  يبدو تلفزيون الدنيا، المحطة شبه الرسمية للنظام، أكثر تشدداً من أي وقت مضى.  في آخر مقابلة له، أنكر الأسد بشكل مطلق أن الأجهزة الأمنية أطلقت النار على المدنيين؛ وطبقاً لحساباته، فإن عدد الضحايا الإجمالي وهو 619 يضم المحتجين الذين قتلوا خطأً في تبادل إطلاق النار مع الجماعات المسلحة؛ والأفراد الذين استهدفتهم الهجمات الطائفية؛ والموالين للنظام.  في هذه الأثناء، فإن التقديرات المتحفظة تشير إلى أن عدد الضحايا بلغ 3,500 (باستثناء أفراد الأجهزة الأمنية والجيش)، ومعظمهم قتل نتيجة عنف نظام.

إن الخيار الذي يقدمه النظام واضح تماماً ويتمثل في المحافظة على حكم الأسد أو الدمار الجماعي.  ومن هذا المنظور العدمي، يتم الضغط على المواطنين للالتفاف حول العقد الاجتماعي – السياسي القديم، في حين يتوقع من المجتمع الدولي أن يتراجع خوفاً من الفوضى التي قد تظهر ما لم يتم تحقيق ذلك.  وكما يرى مؤيدوه في الخارج – خصوصاً حزب الله – فإن الصراع الإقليمي ينبغي أن تكون له الأولوية؛ والمحتجون هم عن قصد أو غير قصد عملاء لأطراف خارجية جلبوا الدمار الراهن على أنفسهم.  إن مثل هذه الروايات من حيث التعريف تستبعد احتمال التوصل إلى تسوية مقبولة.

في ظل الظروف الراهنة، لا ينبغي للمجتمع الدولي أن يستسلم لابتزاز النظام ولا أن يرد على تهور دمشق بتهورٍ مماثل.  بدلاً من المضي إلى المواجهة المباشرة، ينبغي أن يزن خياراته بعناية.

المفاوضات.  رغم عدم احتمال نجاحها، ينبغي تشجيع جهود الوساطة من حيث المبدأ، ولا ينبغي استبعاد أي جهد بشكل آلي.  ينبغي أن يظل التركيز في الوقت الراهن على مبادرة الجامعة العربية، التي تمثل أهم مقترح واعد على الطاولة.  إن استبعاد اللاعبين الدوليين أو المعارضة للحوار أو المفاوضات مع النظام يُعطي مصداقية لحجته بأن لا شيء سيعتبر كافياً إلا إسقاطه الفوري.  وفي الوقت نفسه، لا ينبغي إعطاء دمشق الفرصة لكسب الوقت، ولا ينبغي أن تقدم لها التنازلات في غياب مؤشرات ملموسة على أنها تتصرف بحسن نية.  وإذا قدم النظام مقترحاً حقيقياً مفصلاً مدعوماً بالخطوات الفورية والملموسة على الأرض – ومرة أخرى، هذا سيناريو غير محتمل – ينبغي الشروع في مفاوضات مع المعارضة بسرعة وبوساطة طرف ثالث.

العمل العسكري.  إن التهديد بالعمل العسكري من أي نوع – بما في ذلك فرض "حظر جوي" أو تأسيس مناطق عازلة مدعومة خارجياً على الأراضي السورية – هو تهديد ساذج، وغير مسؤول وسيؤدي إلى نتائج عكسية.  لن يؤدي هذا إلى ردع نظام يبدو، أكثر من أي وقت مضى، لا مبالياً بالضغوط ؛ بل سيوفر غطاء لحلفائه كي يكثفوا من دعمهم؛ ولن يغير الوضع كثيراً على الأرض من حيث أن المنشقين يتمتعون أصلاً بحرية الحركة في المناطق الوسطى والشمالية من سورية.

العقوبات الاقتصادية.  ما من شك في أن العقوبات لها أثر اقتصادي كبير، لكن يبقى من غير الواضح ما إذا كانت تحدث أثراً سياسياً – وما إذا كانت الفوائد السياسية التي تحققها تفوق التكاليف الاجتماعية – الاقتصادية المحتمة التي ستنجم عنها.  في الوقت الراهن، لا ينبغي التفكير بعقوبات أخرى دون أن يتم أولاً تقييم التداعيات المباشرة للعقوبات التي تم اتخاذها والعبء البعيد المدى التي ستفرضه على تعافي سورية اقتصادياً واجتماعياً.  وفي الوقت نفسه، ينبغي على المعارضة السورية والمجتمع الدولي أن يبدأا بالتخطيط لكيفية إعادة بناء الاقتصاد في سياق العملية الانتقالية.

التداعيات الإقليمية.  ينبغي على المجتمع الدولي أن يدرك المخاطر الكامنة في المبالغة بإجراءاته – وخصوصاً مخاطر حشر حزب الله في زاوية وتصعيد الضغوط على إيران (خصوصاً باستحضار شبح الهجمات العسكرية على منشآتها النووية) في وقت يخشى فيه كلاهما خسارة حليف حيوي.  يمكن المجادلة بأن المخاطرة الأكبر هي في لبنان، حيث ينبغي بذل الجهود من قبل جميع الأطراف لتفكيك التوترات الطائفية وتجنب تدخل اللاعبين الإقليميين.  تقليدياً تشرع الدبلوماسية بالعمل في لبنان فقط بعد ظهور العداوات المعتملة تحت السطح إلى العلن.  مثل هذه المقاربة المتمثلة في رد الفعل ستكون مكلفة للغاية بالنظر إلى الرهانات الحالية.  بدلاً من ذلك، ثمة حاجة لجهد عاجل لطمأنة الأطراف المتنافسة والسعي لعزل لبنان عن الصراع في جارته إلى أكبر حدٍ ممكن.

قرار الأمم المتحدة.  كل المؤشرات تفيد بأن النظام يبقى حساساً إزاء عزلته المتنامية.  إن قبوله (رغم  انعدام حماسته) لمبادرة الجامعة العربية أتى فقط نتيجة الضغوط الروسية والصينية وخوفاً من خسارة دعمهما.  إلا أن تراجعه عن مبادرة الجامعة العربية بعد أيام فقط قد يكون ساعد على تقليص الدعم الروسي والصيني له؛ حيث امتنع كلاهما عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة.  ذلك القرار، الذي أدان العنف، حظي بدعم واسع، حيث صوتت 122 دولة لصالحه، و13 ضده وامتنعت 41 دولة عن التصويت عليه.  الجدير بالذكر أن 6 دول عربية شاركت في رعاية القرار، ولم تصوت أي دولة ضده.  إن إصدار قرار من مجلس الأمن يطالب بوقف العنف والنشر الفوري لمراقبين دوليين على الأرض سيكون خطوة هامة لاحقة، رغم صعوبتها.

المساءلة.  ينبغي أن يضع المجتمع الدولي خطوطاً واضحة للنظام وأيضاً لمعارضيه (خصوصاً إذا وصلوا إلى السلطة وعندما يصلون إلى السلطة) مفادها أن كل من ينخرط في انتهاكات لحقوق الإنسان، وخصوصاً جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية سيخضع للمساءلة، بما في ذلك، إذا دعت الحاجة، أمام المحكمة الجنائية الدولية.

الحماية.  المفارقة، ومهما كانت صعوبة الإقرار بذلك، هي أن الطائفة العلوية قد تكون في المحصلة بحاجة لذاك النوع من الحماية الذي سعت الحركة الاحتجاجية طويلاً للحصول عليه بنفسها.  كما رأينا، فإن مخاطر بحدوث مجازر في المراحل الأولى للعملية الانتقالية هي مخاطر حقيقية جداً؛ وإذا حدثت، فإن نجاح تلك العملية سيكون في خطر.  لم يعد الوقت مبكراً بالنسبة للمعارضة كي تعالج هذه المخاوف مباشرة؛ وقد تفكر بآليات محتملة – على سبيل المثال التنسيق لإرسال مراقبين حالما يسقط النظام من المنظمات المحلية وربما منظمات حقوق الإنسان الدولية – للحد من هذه المخاطر.

مصير مسؤولي النظام.  على فرض إسقاط النظام، ينبغي بذل كل جهد ممكن من قبل المعارضة السورية والمجتمع الدولي للتعامل مع قيادته بعدالة وإنصاف أنكرتهما على شعبها – ينبغي أن يتم احتجازهم، وحمايتهم ومحاكمتهم.  إن تكرار عملية القتل المروعة التي تعرض لها القذافي من شأنه فقط أن يلهب العواطف الطائفية في بلد تمثل فيه هذه العواطف أكبر تهديد لأية عملية انتقالية محتملة.

دمشق/بروكسل، 24 تشرين الثاني 2011

                

[1] كلمة شبيحة تشير إلى ظاهرة لا علاقة لها بمجريات الأحداث اليوم، أي العصابات الإجرامية التي ترتبط  بالأسرة الحاكمة والتي كانت ترعب الناس على الساحل السوري والتي كان أفرادها يقودون سيارات المرسيدس التي تُسمى "الشبح".  تم استئصال هؤلاء من قبل النظام في الثمانينيات، إلا أن التعبير ظل موجوداً، ويستعمل بشكل موسع لوصف جملة من أنماط السلوك التي تعتبر موالية للنظام أو التي تعبر عن ماهيته الأعمق.