النفوذ الإيراني في دمشق

د. ضرغام الدباغ

كيف نفهم النفوذ الإيراني في دمشق .... أهي صداقة بين دولتين، أم هي علاقات سياسية حميمة، أم هو تحالف، أو هو ارتباط طائفي في المقام الأول قاد لما بلغ إليه الحال، أم هيمنة...  أم تحصيل حاصل لذلك كله ..؟

رب قائل أن الأمر هو محض جبهة طائفية تمتد من طهران إلى بغداد ثم إلى دمشق فبيروت، ليشكل هدف قديم سعت له جهات كثيرة تناصب الأمة العربية العداء في مشروع سري وعلني، يتمثل  بتشكيل هلال شيعي / خصيب لا يهم، المهم أن يكسر ظهر العروبة، وربما هناك من يشاء أن يضيف فوق ذلك.

وبتقديري أن الأمر لم يعد لغزاً، لربما كانت الشكوك والأوهام تنتاب البعض إلى ما قبل سنين، ولكن الموقف في عموم المنطقة آخذ بالتبلور وها نحن اليوم في مرحلة متقدمة تتضح فيها أبعاد الصورة، وتبرز ألوانها حتى يغدو الأمر سهل إدراكه حتى للمتابع البسيط .

من المعلوم أن القيادة السورية كانت قد بدأت تعقد أواصر الصداقة تطوراً بلغ مرحلة التحالف الاستراتيجي منذ نهاية السبعينات، ولكن المرحوم الرئيس الأسد الأب، كان سياسياً حاذقاً، ولم يكن ليسمح مهما بلغ التحالف من درجة القوة والمتانة، درجة أن تهيمن طهران على القرار السياسي السوري. صحيح أن القيادة السورية قدمت لطهران مساعدات ثمينة: مادية / عسكرية، وسياسية / استخبارية أبان الحرب العراقية الإيرانية، في ضرب من تحالف لم يسبق أن مارسته قيادة عربية من قبل طيلة تاريخها الحديث وربما القديم، بل وحتى عراق نوري السعيد عندما أنظم لحلف بغداد عام 1955، لم يفعل ذلك إلا عندما تأكد أن الحرب في لحمته وسداه مكرس ضد توسع النفوذ السوفيتي في عنفوانه آنذاك، ولم يكن الحلف موجهاً بحال ضد أي بلد عربي، بدليل أن نظاماً هاشمياً آخر(هم أبناء عمومة) لم ينظم للحلف(الأردن)، فالقيادة السورية بهذا المعنى، ارتكبت بتحالفها الاستراتيجي مع طهران خطئاً فادحاً غير مسبوق، ارتكبته مدفوعة التزاماً بتحالف هو في الحقيقة يتجاوز معانيه القطرية إلى ما هو أبعد من ذلك.

المرحوم الرئيس الأسد الأب، بما عرف عنه من حنكة، وحذاقة في ممارسة السياسة الدولية، آثر في تلك المرحلة أن يكون براغماتياً، إذ وجد في ذلك ضماناً لاستمرار نظامه، واستبعاده عن شبكة مؤامرات الغرب، كما يتيح له ذلك الهيمنة على لبنان، وتصفية قوى المقاومة فيها، ومن أجل ذلك، وضع على الرف شعارات سياسة التضامن العربي التي كان بنفسه من أشد الداعين لها، وحصد من جرائها امتيازات ومكاسب مالية بالدرجة الأولى بإدارته دفة السياسة السورية في تلك المرحلة. ولكن أواخر السبعينات كانت سنوات حاسمة، إذ شهدت:

أولاً: تعثر المساعي السورية لاحتواء العراق( تموز 1979 )،

ثانياً: معاهدة كمب ديفيد، التي كانت تعني في الواقع أكثر من إخراج مصر من خارطة الصراع العربي الإسرائيلي، إذ مثلت تمهيداً لحقبة أمريكية جديدة كان من ملامحها أيضاً،

ثالثاً: إنهاء حكم شاه إيران العاجز، وإحلال حكم الملالي القادر على استخدام شعارات دينية لخلق عواصف تغيير في المنطقة.

ولم تكن هذه المعاني لتفوت على المرحوم الرئيس الأب، لذلك فقد أدرك مبكراً أن إيران هي ضمن العناصر قي عملية التغير المقبلة، وأن حلفاً سيتولى إعادة تشكيل المنطقة بقيادة الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل، لذلك ولعوامل أخرى، عقد أواصر التحالف معها ودون ريب مع إدراكه التام بأبعاد التحالف من إيران وخطورتها على الأمن القومي العربي.

وسوف يعزز الأسد الأب إدراكه التام لصورة الموقف ومفرداته، بانضمامه إلى التحالف العربي / الدولي ضد العراق 1991/1992 لدرجة اشتراك القوات المسلحة العربية السورية ضد العراق وجيشه الذي أنقذ قبل سبعة سنوات فقط العاصمة دمشق من السقوط بيد القوات الإسرائيلية. 

ويتواصل الحلف السوري / الإيراني يكتسب مصداقيته، كما يتواصل انغماس أو تورط النظام السوري أكثر فأكثر في مخططات تحاك ضد المنطقة، ولكن حتى وجود الرئيس الأب على قيد الحياة، كان النفوذ الإيراني في دمشق، (مع آثاره المضرة على أية حال)، ولكنه نفوذ محسوب بدقة حتى بعد انضمام القاعدة العسكرية / الاستخبارية الإيرانية في لبنان المسماة حزب الله إلى المعادلة.

ولكن بعد وفاة الرئيس الأب، تميز الوضع الجديد بفقدان السيطرة على التحالف بحيث غدت دمشق قاعدة عمل سياسية وعسكرية واستخبارية أساسية لنظام الملالي، وبذلك أضحت العلاقة أكثر من علاقة تحالف، ففي علاقات التحالف هناك قدر من التكافؤ في العلاقة التحالفية، واكتسبت العلاقة صفة جديدة ومن أجلها ضحى الرئيس الأسد الابن ليس بالمصالح العربية، بل بالمصالح السورية نفسها، في فقدان مدهش للقدرة على السيطرة، وفي توظيف للقدرات السورية لصالح المصالح الإيرانية، التي أخذت تتعامل بسهولة مطلقة مع في الساحة السورية بمهارة أستخبارية، في غياب شبه تام للرؤية والشخصية السورية، وصارت إيران تتعامل بملفات المنطقة وكأن سورية عنصر من عناصر نشاطها السياسي والعسكري والاستخباري، مضمون الولاء، مندغمة في مفردات هذه العمليات في غياب تام للشخصية السورية التي غدت باهتة للغاية، لدرجة أن القوى العظمى صارت تتحدث مع طهران في الشؤون السورية، وهو أمر لا يبعث على الارتياح لتلك القوى، أن تتعامل مع حليفتها طهران وفي جيبها عدة دول، وحدثني مطلع على الشؤون السورية أن السفير الإيراني في دمشق يتعامل مع الرئيس بشار الأسد وكأنه يتعامل مع أحد موظفيه ...!

هذه هي خلاصة النتيجة التي بلغها النظام السوري في ورطته، بل في مغامرته الفارسية، ونعتقد أن الأمر حقاً لا يخلو من مأزق / ورطة، يصعب المضي فيها، كما يصعب الخروج منها، والخلاص من هذه الدوامة يتطلب مناورة صعبة، ولكن الكيان السياسي السوري هزيل لدرجة أنه لن ينجو من مناورة كهذه إن أراد القيام بها. فالحلف الاستراتيجي الأمريكي الإيراني الإسرائيلي يمر اليوم بأزمة ثقة، ربما يتوصل الأطراف إلى إعادة تقييم للموقف يستبعد تضارب حاد في المصالح، ولكن تصعيداً في الموقف محتمل أيضاً إذا أساء أحد سماع النصائح، والفرس كالعادة يبالغون بتقدير قواهم، وضعف خصومهم، ويخالفون قواعد اللعبة، ويشتطون في شراهتهم فيشتغلون خارج ما هو متفق عليه، فاستحقوا سخط راعي الحلف(الولايات المتحدة). وقد ينتهي الأمر بأن تضحى طهران في السجال الاستراتيجي بأحد بيادقها (مواقعها)، مقابل ضمان سلامة الحلف ومعطيات أمنها القومي، والسياسة أخذ وعطاء، ولكن يلام من يجعل من نفسه فقرة (بيدقاً) في سياسة الآخرين ..... مجرد فقرة سواء كانت غالية أم رخيصة.

الرئيس بشار أعتقد أن الرياح غربية، وهي حقاً كذلك، وأعتقد أن القابض على مبادئه كالقابض على جمر من نار، والأمر كذلك فعلاً، ولكنه أخطأ حين أستبدل موقعه كركن أساسي في البيت العربي، بغرفة صغيرة في الساحة الخلفية لنظام الملالي، وهو قد أخطأ في ذلك دون ريب. وأخطأ مرة أخرى حين أعتقد أن عام 2011 قد يشبه عام 1982، ونسي وهو المتعامل مع معطيات ومنجزات التكنولوجيا الحديثة في نقل الحدث بالصورة والصوت إلى العالم خلال ثوان، ولكنه صم أذنية عن النصائح وتمسك بالمؤامرة ...! وهذه المرة كان الخطأ كبير ... بل كبير جداً قد لا ينفع معه علاج النطاسي.

ورغم أن الحلف لم ينفرط عقده بعد، وطهران تلعب من وراء الكواليس، فتفاوض أطراف سورية، وتمارس التكتيك السياسي الاستخباري، وتضع القضية السورية في ميزان مصالحها، واستراتيجيتها، ربحاً وخسارة،  كنقطة قوة لها أو ضعف، وترسل قوات غير نظامية إلى سورية، وأجهزة خاصة، ومعدات لقمع الثورة الشعبية، وتوعز للقيادة العراقية وميليشياتها بالمساهمة في الفعاليات ضد الثورة، وتهدد بإشعال جبهات أخرى كالبحرين، وفي كل ذلك يبدو النظام السوري كالطفل القاصر لا يدري ما يفعل، بل هو يرتكب الأخطاء الكبيرة واحدة تلو الأخرى، حتى ضاق صدر حلفاؤه الأبعدين كما الأقربين.

النظام السوري يريد أن يمكث في السلطة سيان ما هو الثمن .... وسيان ما حدث وما سيحدث ... فيخوض في بحار من الدم، دماء أبناء شعبه .... فحقاً تملكتني الحيرة لا أعرف بماذا أجيب صحفي ألماني صديق على سؤاله: هل يعتقد الرئيس الأسد أن بوسعه مواصلته حكم سورية بعد كل ما فعله ...؟

الإجابة على هذا السؤال مهمة شاقة، ولكن من المؤكد أن النظام بأخطائه المتواصلة المتتالية يعمق حفرة نهايته.