الأخلاق والسياسة

من المؤكد ومن المسلم به  عند علماء الاجتماع والمؤرخين وكذلك عند علماء النفس ؛ ان السلوك الاجتماعي للناس وأخلاقهم مع أنفسهم ومع الآخرين ودرجة وعيهم وتقبلهم للآخر  ليست  هي أبنية مسبقة الصنع يصنعها الفرد لنفسه بعيدا عن المجتمع ؛ وانما هي نتاج تصنعه أوضاع المجتمع من ناحية ؛ وأداة تؤثر في المجتمع وتساهم في تطويره من جانب آخر . ودرجة الاهتمام التربوي الحضاري الذي تبذله الدولة من أجل أبنائها .

ولقد انتبه كثير من ذوي الاختصاص الى تأثير الأوضاع الاقتصادية على الأخلاق ؛ وبيّنوا ما يطرأ على سلوك الناس من تغييرات تصاحب ما يصيبهم من شدة وعسر أو رخاء ويسر ؛ وفي ذلك قال سيدنا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ( لو كان الفقر رجلا لقتلته ) . ومن تراثنا أيضا ( أن الفقر اذا ذهب الى بلدة قال له الكفر خذني معك ). وفي القرآن الكريم تحليل دقيق متكرر لنماذج السلوك الانساني والأخلاق التي تميّز ( المترفين ) لا تخرج كثيرا عما نشاهده من حولنا من نماذج المترفين المعاصرين .

وكذلك الأوضاع السياسية في أي بلد تعكس سلوكها على المواطن بشكل أو بآخر أو فلنقل بشكل مباشر . لأن أي نظام قمعي سيخلّف قمعيّون مستجدون ، وأي نظام فاسد سينتج عنه فاسدون ، وأي نظام ديمقراطي حر سينتج عنه المواطن الذي يتمتع بالوعي الحضاري والتنوّر السياسي .

 لذلك نقول أن الأخلاق كما تتأثر بالأوضاع الاقتصادية وتؤثر فيها ؛ فانها تتأثر أعظم التأثر بالأوضاع السياسية وتؤثر فيها أيضاً.

ولا نريد هنا أن نتوقف كثيرا عند أثر الأخلاق الفردية للحكام أو القادة على سياساتهم وعلى الأوضاع العامة لدولهم ؛ فذلك معروف وسجّله التاريخي موثّق ومحفوظ ؛ ابتداء مما كتبه مكيافيلي في كتابه الأمير ؛ ومرورا بمؤامرات البلاط والحاشية في النظم الملكية في اوروبا خلال القرون الوسطى وما بعدها كفضيحة الووتر جيت على سبيل المثال والأمثلة كثيرة ولغاية يومنا هذا من خلال الأنظمة المستبدّة في عالمنا العربي .

وانما نسجل هنا بكل اهتمام وبدقة أن النظم الفردية والاستبدادية التي تقوم على القهر والقمع والتي تعتمد في استمرارها على سلب الحريات واهدار الحقوق وسلب المال العام  ومس الكرامات وتسليط أجهزة الاعلام على العقول والنفوس الى درجة حجب الحقيقة وتزييف الوقائع وغسل الأدمغة ؛ هذه النظم الاستبدادية تترك بصمات واضحة المعالم على سلوك الناس ؛ وتصيب بنيتهم الأخلاقية بعاهات حقيقية يكشف عنها التأمل في أنماط سلوك الناس تحت ظلالها القاتمة .

ولكن هذه البنيّة التي تفتقد إلى السلامة  في بنيتها ستجد منفذاً لها في يوم ما لتنتفض من جديد لتعيد إلى هيكلتها السلامة المنشودة وأدنى حقوق المواطنة الفعلية ، وهذا ما شهدته وتشهده الآن الساحة السياسية العربية .

 أن النظم التي تستند الى الارادة الحرة للانسان والتي تتغذى شجرتها على المشاركة الحقيقية للأفراد ؛ والتي تورق وتزهر وتثمر بقدر مايودعه فيها الأفراد من رحيق الكلمة الحرة الجريئة ؛ هذه النظم أيضا تترك بصماتها التي لا تخفى على أخلاق الناس وسلوكهم ؛ ولطالما تساءل الباحثون وتساءلنا معهم جميعا فيما بيننا ؛ كيف يحدث هذا والناس هم الناس أنفسهم ؟ أليس الأقرب الى الحقيقة أن أخلاق الناس لا تتغير وان الأفراد هم الذين يتغيرون ويتفاوتون ؛ وأن نظم الاستبداد ونظم الحرية يستعين كل منهما بمن يتناسب خلقه وسلوكه مع أوضاع النظام ومتطلباته ؛ فينحاز فريق من الناس الى نظام الاستبداد ويغذيه بأخلاقه التي يحتاج اليها ؛ ويتغذى هو على ثمار الخبيثة ؛ متصدرا المجالس والموائد ؛ معتلياً المنابر ؛ منتشراً في الساحات متبجحاً عن الحريات وكرامة المواطن ؛ والدفاع عن الوطن وحماية الانسان ! بينما ينزوي الأحرار الذين يمقتون الاستبداد ويمقتهم . أليس هذا دليلا على أن الأخلاق تنبع من ينابيع بعيدة عن السياسة ونظامها والحكم وأساليبه ؟

ان النفس البشرية أو الانسانية ذلك السر الأعظم أشبه بوعاء كبير يتجاور فيه الخير والشر وتتعايش فيه متناقضات النوازع والأخلاق ؛ الأمانة والوفاء يجاوران الغدر والخيانة ؛ والكرامة تجاور المذلة ؛ والشجاعة تجاور الجبن ؛ والصدق يجاور النفاق ؛ والرحمة الحانية تلاصق بأكتافها في نفس الانسان القسوة الضاربة والعنف الدموي الذي لا يعرف الحدود . والأهم من ذلك التقوى تجاور الفجور .

كل هذه الأخلاق المتناقضة تعيش بذورها الحية داخل نفس الانسان ؛ وعلى باب هذه النفس صمام فيه من العقل والادراك نصيب ومن الارادة والاختيار نصيب .

وحين ينفتح تيار الحياة على نفس الانسان تمتد في داخلها يد تستخرج من هذا الوعاء ما يناسب المقام ؛ تكيفاً مع البيئة وتلاؤما مع الظروف وتعايشا مع المتطلبات ومن بينها أنظمة الحكم وأوضاع السياسة في البلاد .

فاذا كان النظام نظام نظام قمع وقهر انكمش الصدق وانزوى الوفاء وتوارت الشجاعة ونكّس العدل رأسه ؛ واستعدت الرحمة للرحيل وارتفعت هامات الكذب والخيانة وتعالت أصوات النفاق والمداهنة ؛ وغنت النفوس قصائد المدح الوثني الذي يمتهن انسانية الانسان ؛ ويزري بالمادح والممدوح على السواء ؛ والذي قال فيه سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم ( اذا رأيتم المدّاحين فانثروا في وجوههم التراب ).

واذا طال زمن القهر ونسيت البراعم الناشئة من جيل الشباب طعم الحرية --- تحوّل النفاق الى طبع مغروس في النفوس وعادة عفوية تمارس بلا تفكير ؛ وصار المال قبلة الناس وكعبتهم فيخرجون وهم لا يشعرون الى وثنية حقيقية تتسلل الى نفوسهم مع أنفاس كل يوم يعيشونه في ظلال القهر والقمع والخوف ؛ حتى ينتهي بهم الأمر الى عبادة فرد أو أفراد ؛ والى اسقاط كل القيم الموضوعية التي ترتبط بها حياة الأحرار ومواقفهم ومشاعرهم وفكرهم ؛ وهذا منتهى التدني والذل والخنوع ؛ وقاع الهبوط الذي يصل اليه الانسان .

ان النظم الاستبدادية تفرز فوق ذلك أخلاقا عديدة تنبع من استغراق المشاعر كلها في التوجه الى الحاكم الفرد ؛ والتفاني في طاعته والحرص المطلق على رضاه ؛ وفي مقدمة هذه الأخلاق أمران لا يخلو منهما النظام الاستبدادي :

الأول: ظاهرة المستبدين الصغار ؛ ذلك أن الاستبداد الذي يمارسه حاكم مطلق يترك أثره في نفوس خاصته وحاشيته والمحيطين به ؛ فيتحولون الى ظلال وأشباح تتحدث بلسانه وترى بعينه وتبطش بيده. وقد يتجاوز بعض هؤلاء حدود ما يطلب منه ليفوز في سباق المنافسة الرخيصة على رضا المستبد الأكبر ؛ فاذا به يذيق عامة الناس الارهاب والقمع والاساءة اجتهادا منه ومبالغة في الطاعة واظهارا للولاء المطلق .

الثاني: ظاهرة الرؤية الواحدة للامور ؛ وهي الرؤية التي يختارها المستبد وينقلها عنه المستبدون الصغار ويرددها المنافقون ليل نهار حتى تلون الحياة كلها بلون واحد وتفسر الظواهر كلها على النحو الذي يراه الحاكم الفرد ؛ فلا يتجاسر عالم ومفكر على أن يفكر بعقله هو أو يرى بعينه أو يعلن موقفا من الامور العامة يخالف فيه اجماع المنافقين الخائفين المسبحين ليل نهار بذكاء المستبد وفطنته ونفاذ بصيرته ؛ اذ أن الجموع الخائفة من الناس ترى في هذه الجسارة مخالفة الحاكم في رأيه ؛ ورؤية مخالفة قد يصيبهم بلاء مغامرتها ؛ ومدخلا لموجات جديدة من القهر والظلم لا صبر لهم على تحملها ؛ والنتيجة الحتمية لذلك أن تشير الجماعة كلها على رأي حاكمها الفرد ؛وأن يجمد الفكر ويبطل الابداع الحر ويتعرض العمل العام كله للعثرات نتيجة غياب النقد الذي يوجه ويثري التجربة .

ان المجتمعات التي تعيش في ظل الرؤية الواحدة لحاكمها الفرد قد يصلح حالها زمنا طويلا أو يقصر ؛ ذلك أن تعدد الآراء يظل دائما أكبر الضمانات لترشيد حركة المجتمع وتأمينها ؛ ومن هنا فان حماية الكلمة وضمان حرية الرأي يظلان في مقدمة الضمانات التي تحمي مسيرة الجماعة وأفرادها ؛ وفي هذا الضوء نفهم حرص الاسلام وهو يدعو الناس الى ابداء الرأي واعلانه بقوله سبحانه وتعالى ( ولا يأب الشهداء اذا ما دعوا ) على أن يحمي حريتهم وأن يصون أمنهم بقوله سبحانه جلّ جلاله ( ولا يضار كاتب ولا شهيد).

أما حينما تكون الحرية هي القيمة العليا وتكون الشورى الصادقة هي النظام والدستور هو السائد دون أي تلاعب ؛ وسيادة القانون هي مظهر الدولة ؛ فان شياطين الأخلاق تولّي هاربة مذعورة ؛ فتتسارع الى ساحة النفس والمجتمع أخلاق الحرية في موكب مهيب وعلى رأسه الشجاعة والصدق والأمانة والوفاء والرحمة والعدل ويعود الفرد كائنا من كان انسانا وبشرا سويا بدون تقزيم أو عملقه ؛ يستمع اليه اذا تكلم وتحفظ عليه كرامته ويعطى نصيبه المفروض من المشورة والعدل حين يكون محكوما من الرعية ويعطى نصيبه المشروع من الوفاء والولاء والطاعة في المعروف والعدل حين يكون حاكما .

ان وعاء النفس البشرية ليس كأوعية الأطعمة والأشربة ؛ وانما هو وعاء ذكي لا يستخرج شيئا مما عنده الا بحساب ؛ وبعد طول حذر واطمئنان ؛ فاذا زال القمع وارتفع الخوف عن كاهل البشر وبدأت أخلاق الحرية تجيب النداء فان أخلاق الخوف وطبائع الاستبداد التي استقرت في كيان المجتمع واتخذت لها من نسيجه أعشاشا وأوكارا ستظل تقاوم متشبثة بالحياة .

فيرى الناس في أنفسهم وفي الناس من حولهم مايحسبونه تناقضا يحارون في تفسيره ؛ أنظمة ومؤسسات وتشريعات تؤكد الحرية وتعلن الأمن وتبشر بسيادة المجتمع المدني والقانون ؛ وبقايا أخلاق القهر والقمع يموج بها المجتمع حتى لتكاد تسد الطريق على نظام الحرية وتفسد عليه أمره .

ويتساءل ذوي الاختصاص عن المخرج في مثل هذه المواقف التي تتكرر في بلادنا مع محاولات الاصلاح السياسي ؛ ان المخرج من هذا الموقف هو المزيد من الحرية والديمقراطية حتى تستوثق النفوس المترددة وتستيقن أن عودة الحرية هي عودة حقيقية وليست خداعا ولا استدراجا يعقبه قهر جديد . اضافة الى مطاردة فاعلة للبقية الباقية من أخلاق الاستبداد يحمل لواءها أصحاب الكلمة وأصحاب القلم والمفكرون ورجالات الحكم .

وأتمنى لو عرف الساسة والمثقفون في بلادنا أن الحرية ليست مجرد تنفيس وشعار ؛ لكنها ضمان حقيقي للرشد عند اتخاذ القرار وهي ينبوع كبير من ينابيع الخلق السوي والسلوك السليم المستقيم ؛من أحياها فكأنما أحيا الفضائل كلها .

لهذا نؤمن بما ذهب اليه بعض علماء السياسة والقانون من أن حرية التعبير عن الرأي تختلف عن سائر الحريات وأن لها بين تلك الحريات مكانا مفضلا أو ممتازا لأنها في حقيقة الأمر مفتاح لسائر الفضائل وضمان لبقية الحريات ؛ وهذا المركز الممتاز ينبغي أن يكون له مظهر تعليمي وتربوي يشرح صفتها ويثبتها في العقول والقلوب . كما ينبغي أن تكون له آثاره العملية والقانونية التي تقف في وجه كل تشريع أو قرار يهدد تلك الححرية أو يحول دون أدائها لوظائفها .

ان علماء السياسة وعلماء الاجتماع في بلادنا مدعوون الى تغيير منهج حديثهم عن الحرية ؛ فقد ملّ الناس الحديث عن عموميات الحرية ؛كما ملّوا التناول الرومانسي لها الذي يحولها الى مجموعة شعارات غامضة ؛ كما ملّوا التنازل الطوعي الممزوج بالخوف والقهر من تصرفات السلطة . وصارت الحاجة ماسة الى دراسات اكثر تحديدا وتفصيلا تبين للحكام والمحكومين على السواء أن للحرية وظائف في حياة الناس ؛ كما تبين ( على وجه التحديد ) :

مانسميه فسيولوجيا الحرية أو وظائفها في حياة الأفراد والجماعات . وما نسميه باثولوجيا الحرية أو أمراضها ؛ وما يطرأ على أحوال الناس وأخلاقهم ومصالحهم من فساد وضرر اذا غابت الحرية وحلّ محلها القهر والاستبداد والقمع والارهاب .

وبغير هذه الخطوات مع الأسف ستنشأ أجيال تتحدث عن الحرية وتنادي بها دون أن تكون مقتنعة بفائدتها وأهمية الحفاظ عليها .

فهل يستطيع المفكرون والسياسيون وعلماء النفس وعلم الاجتماع والمؤرخون أن يأخذوا دورهم الجدي والجريء لبناء جيل حر كاسرٌ لجدار الخوف وهو بطبعه ينادي بجرأة واخلاص ووعي وإدراك أكيد من أجل الحرية وطمس كل معالم القمع الاستبدادي ... ..والفساد المتفشي في البلاد ؟ وأخذ دوره الفاعل المشارك في صناعة القرار السياسي والعسكري والأمني والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والتربوي في الدولة ؟ .