حين يصبح منطق المنافقين دعوة

محمد جلال القصاص

[email protected]

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومَن أحبه واتبع هديه، وبعد:ـ

لم يكن النفاق في المدينة المنورة ظاهرة يمكن لمن يمر بالمدينة أو يقيم بها أياماً أن يراه أو يحس به. كان عددهم محدوداً، لا يتجاوز عشرة أفراد، وكان أمرهم سرَّاً يتحدثون فقط في مجالسهم الخاصة. ولا يظهر منهم في الأماكن العامة شيئاً مما تكنه صدورهم. بل يبدون الجميل ويسترون القبيح!!

ومع ذلك أعطى الله النفاق هذا الكم من الاهتمام، إذْ قد وقف الوحي  على رؤوسهم يحدث الناس بما يدور في صدروهم، ينقل نقلاً مباشراً عنهم، يقول: ومنهم .. ومنهم .. ومنهم... حتى كاد يسميهم بأسمائهم.

وعامة ما ورد في وصفهم أحاديث نفس، أو أحاديث في مجالس خاصة، لم تتحول بعد إلى واقع، أو موقف معلن.

نعم ترك عقوبتهم لاعتبار آخر، وهو أن يلتبس المشهد على مَن بالخارج ويحسب أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ استعان بقوم ثم استدار عليهم فقتلهم. ولكنه لم يسكت عن كشفهم وفضح أمرهم.

ماذا كان يريد المنافقون؟ 

ولم هذا الاهتمام الشديد بأمرهم، مع قلة عددهم، وخفاءِ شأنهم؟

باستقراء النصوص التي ذكرت أسباب ذم هؤلاء، نجد أن النفاق حالة من حالات حب الدنيا والاستمساك بها، وتحرص (الحالة المنافقة) أكثر ما تحرص على النفس والمال. فتجدها تكره القتل والقتال، وتحب الدعة والراحة، وتحب المال وما يتبعه من خفضٍ في العيش؛ وتسخط فقط حين يعتدى على نفسها ومالها. فحين البأس تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت، وحين النفقة ينفقون ـ إن أنفقواـ وهم كارهون. بل ويُكرهون فتياتهم ـ بعد إسلامهن ـ على البغاء وهن يريدن تحصناً، رجاء المال، ولا يقدمونَ تضحية ـ وإن قلت ـ رجاء شيء لا تراه أعينهم، فهم أوثق بما في أيديهم مما لم تره أعينهم وإن كان وحياً صريحاً.

وعند النظر في حال المنافقين نجد أنهم "صادقون" عند أنفسهم. يريدون الخير كما يفهمونه، ولذا يدعون الإصلاح. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }البقرة11، ولذا يحاولون إيجاد طريق مشترك للصلح بين المخالفين، {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً }النساء62. فهم ـ عند أنفسهم ـ مصلحون، وسعيهم ـ عند أنفسهم ـ إحسان وتوفيق.

ويكمن خطر النفاق ـ أيضاً ـ في أنهم يتحدثون باسم الشرع، فهم في كل حال "متبعون للدليل"،  فلا ينصرفون عن خيرٍ ولا يأتون شراً، إلا بدليل فاسدٍ. كرهوا الجهاد في سبيل الله، وقالوا: نخاف الفتنة، {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ }التوبة49، وقعدوا عن اتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الحديبية بدعوى أن الأموال (الأنعام) متفرقة في الشعب، والبيوت تحتاج من يقوم عليها،  {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }الفتح11.

ولغرابة قول المنافق تجده يقسم بالله أنه من الصادقين، ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام  {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ }البقرة204

فخطر النفاق يكمن في شرعنة "حب الدنيا".  يكمن في أن النفسية المنافقة تتجه للداخل تذلل الداخل ليقبل الخارج و"ويتعايش" معه. فهي دائماً تبدو شرعية، أو تتحدث باسم الشرع. 

وخطر النفاق يكمن في أن يتحول المسلم من الحرص على نصرة الدين والتمكين له في الأرض، ويبذل في ذلك ماله ونفسه، إلى حالة من التنافس على الدنيا .. تجميع المال والمحافظة عليه. وبالتالي تضيع معالم الدين.

والخطاب الإسلامي السلفي الآن في ـ مصر تحديداًـ دخل فيه منطق النفاق، وآلية النفاق، وأهداف النفاق، فصار نفر من قومنا يحرصون على أن يعيش الناس في رغدٍ، وأمان، ويهبون في وجه كل من يثير "فتنة" تعكر على الناس صفو عيشهم، بإهراق شيء من دمائهم، أو ضياع شيء من أموالهم. !!

إنه منطق النفاق دخل على الطيبين بتلبيس المجرمين، ولا أدري كيف غشيت أبصارهم، ولا أدري كيف لم تتدبر عقولهم؟!

إن الدماء تسيل كل يوم، بل كل ساعة، على الطرقات (حوادث طرق)، والحروب التي تدور في أرضنا تقتل أبناءنا وشيوخنا ونساءنا وأطفالنا وبأموالنا، والنفوس تهدر بفعل الأمراض المميتة التي تفتك بمئات الآلاف من أهلنا ولا يوفر لها دواء. والأموال تهدر، فكثير من مقدرات الأمة لا يستفاد منها، وكثير من صافي الدخل لا يذهب لأهله، وخطط التشغيل تسير في اتجاه استعباد الناس. ناهيك عن أن الشرع مغيب، بل إن الباطل مشرعن، فكيف ؟!

إن منطق النفاق ـ خرج من الدعاة أم خرج من المنافقين ـ لا يثمر ما يرجوه من حفاظٍ على النفس، وسعةٍ في الرزق، وإن ذلك كله لا يأتي إلا بتطبيق شرع الله، وما نحن فيه لا يقول عاقل ـ فضلا عن داعية أو شيخ ـ أنه شرع الله. بل حالة من سيطرة النفاق، والمنافقين، وخدع بها الطيبون.