تسامحوا من أجل مصر

حسام مقلد *

[email protected]

ليس بصعب على أي مراقب أن يلاحظ تشنجا واضحا في ردود معظم الأطراف في المجتمع على تصرفات وأفعال السلفيين، ويجري ـ عن عمد وفي معظم الأحيان ـ تضخيم أخطائهم بشكل مريب حقا، ولا ندري ما سر هذا التعامل غير المنصف والمنحاز ضدهم على طول الخط وعلى أكثر من صعيد؟! وصحيح أن السلفيين يقعون أحيانا في أخطاء سياسية ومجتمعية كبيرة، لكنها ليست كوارث كونية ستمحق الحضارة البشرية كما يحلو للبعض أن يصورها لنا (...!!) بل هي أخطاء عادية تقع في أي مجتمع، وتحدث بشكل فردي، ولا يوجد إنسان ولا جماعة ولا حزب ولا أحد مطلقا بلا أخطاء، ونعم بعض الأخطاء أكبر من غيره وأثره أعمق وخسارته أفدح، لكننا كلنا بشر في النهاية، ولسنا معصومين مهما نلنا من علم، ومهما رزقنا الله من حكمة وبصيرة!!

ومن الغريب حقا أن نرى الكثيرين يتوجسون من أية تحركات يقوم بها السلفيون في أي إطار وتحت أي لافتة، وحتى تلك الأحداث التي لا يكون السلفيون أحد أبطالها يجري حشرهم فيها حشرا عن قصد وتعمد وسوء نية (كأحداث ماسبيرو الأخيرة التي يصر بعض متطرفي الأقباط على حشر السلفيين فيها، رغم أن فضائيات الدنيا كلها لم تبث صورة واحدة لأي شخص سلفي أو إسلامي واحد في تلك الأحداث المؤسفة، التي ما كانت في الحقيقة سوى اعتداء من بعض المتطرفين الأقباط على سيادة الدولة ممثلة في أبرز وأهم رموزها وهو جيشنا الوطني الباسل...!!) ولا نرى أحدا يسدي لهم نصحا مخلصا أو يقدم توجيها مرشدا، ونكاد لا نجد من مناوئي السلفيين ومن يقفون ضدهم إلا النقد والتجريح والإهانة بسبب وبدون سبب، وكأنهم أصل كل بليَّة، وجرثومة كل داء، وهم بذلك في الواقع إنما يدفعونهم دفعا نحو التشدد والتعصب والمواقف الأكثر تطرفا!!

والحقيقة أن أغلب شباب السلفيين تدفعهم عاطفتهم القوية وتقودهم أشواقهم العارمة في معظم المواقف التي تؤخذ عليهم، أو يلامون بسببها، وهم في رغبتهم المحمومة وسعيهم الدائب لتكوين نموذج الدولة الإسلامية المثالية التي يحلمون بها يقعون في بعض الأخطاء شأنهم في ذلك شأن بقية الأحزاب والجماعات الفاعلة في المجتمع، وينبغي على الآخرين تقبلهم واحتواؤهم، والتحاور معهم، ومناقشتهم مباشرة بصراحة ووضوح في المخاوف والشكوك التي تساور الكثيرين حيال أفكارهم وتوجهاتهم، خاصة فيما يتعلق بتبنيهم لمناهج فكرية متشددة تعتنق أفكارا راديكالية تميل إلى العنف والقسوة والإجبار؛ لفرض وجهة نظرهم وقسر الناس على اعتناقها والتسليم بها، لكن بدلا من ذلك نرى من يصدهم وينبذهم ويمارس ضدهم الإقصاء والتهميش، ويشنع عليهم ويختلق ضدهم المزاعم والافتراءات لتنفير الناس منهم!!ولا يعني ذلك أنهم مصيبون دائما ولا يخطئون أبدا، بل على العكس أخطاؤهم السياسية كثيرة بحكم حداثة تجربتهم وقلة خبرتهم في هذا المجال، وهم بحاجة ماسة لمن يمحضهم النصح الخالص دون تشهير أو اصطياد في الماء العكر!!

ومن الأخطاء الجسيمة التي وقعوا فيها مؤخرا، والتي ترسل برسائل سلبية عديدة لمختلف قطاعات المجتمع المصري موقفهم من اختصام فضيلة الشيخ علي جمعة مفتي الديار المصرية لفضيلة الشيخ أبي إسحاق الحويني أمام القضاء على خلفية كلام قاله الثاني واعتبره الأول سبا وقذفا في شخصه ومنزلته الدينية الرسمية، فأيا كانت التفاصيل ما كان للأخوة السلفيين التقاطر على المحكمة بهذه الأعداد الهائلة، والتطاول على المفتي بمثل هذه العبارات الفجة، والتهكمات المبتذلة، وقصائد الهجاء المقذعة، فيبقى الرجل رمزا دينيا كبيرا، وعامة الناس في مصر تستقي منه أمور دينها وتستأمنه على الفتاوى في كل شئون حياتها، والتشكيك في أهليته العلمية والتطاول عليه والنيل منه أمر مرفوض بكل تأكيد، ولا أدري كيف فاتت كل هذه المعاني على مشايخنا وعلمائنا الذين شاركوا في هذه التظاهرة؟! وإلا فليخبرنا أحد ما فائدة هذا التجييش؟ ولمصلحة من كل هذا الشحن؟ ولأجل ماذا؟ وما معنى الضغط على القضاء وابتزازه بالتظاهر؟ وتحت أي بند يمكننا فهم التهديد الموجه للمجلس العسكري بعزل المفتي من منصبه في غضون أيام وإلا الاعتصام والتظاهر وحشد مزيد من الحشود؟! وما الفارق بين هذا التهديد وبين التهديد المماثل الذي صدر عن بعض متطرفي الأقباط للمجلس العسكري كذلك في وقت سابق من هذا الشهر (إقالة محافظ أسوان خلال أيام وإلا...!!) وما معنى تهديد المجلس العسكري بمثل هذا الشكل من حين لآخر من هذه الفئة أو تلك؟!!! وما مغزى هذا الحشد الهائل لهذه الحادثة الهينة التي يمكن حلها بكل يسر وسهولة بوقوع التصالح بين الطرفين المعنيين؟!

وهناك سؤال بريء جدا يتردد على ألسنة الكثيرين من أبناء الشعب المصري: هل يليق بجلال الدين ومكانته الروحية العظيمة أن نرى العلماء والمشايخ والقساوسة  يتصدرون المظاهرات ويستخدمون أقسى العبارات ويوجهون التهديدات للمجلس العسكري على هذا النحو الفظ الذي رأيناه في ماسبيرو وفي كفر الشيخ؟!! وفي الحقيقة لا يخفى امتعاض أغلب المصريين مما يحدث، كما أن من شأن هذه التصرفات المتهورة والأفعال غير المسئولة أن تهز هيبة وجلال العلماء والمشايخ ورجال الدين في المجتمع!!

وأزعم أن بعض شباب السلفيين أو الأقباط قالوا لأنفسهم: "من الكياسة والفطنة استعراض العضلات بين الفينة والأخرى، وإظهار القوة أمام المجتمع وأمام المجلس العسكري، وأنه لا بأس من التكشير عن الأنياب بين حين وآخر لتخاف منا مختلف الأطراف وتعمل لنا ألف حساب، يجب أن يعلم الجميع أننا رقم صعب في المعادلة لا يمكن تجاوزه بسهولة!!" ومثل هذا التفكير خطأ جدا وشديد الخطورة على مكانة من يعتنقه في قلوب الناس خاصة ونحن مقبلون على موسم انتخابات تاريخية في الحياة النيابية المصرية، وكل طرف بحاجة ماسة لكسب أصوات الجماهير، ولن يحصل عليها قبل أن يكتسب قلوبهم!!

لقد قرأت ذات مرة جملة عجيبة لكاتب إخواني سكندري شهير هو الأستاذ عباس السيسي ـ رحمه الله ـ قال فيها: "الدعوة إلى الله حب" الله ما أبدع هذه العبارة وما أعظم معناها!! ليتنا نجد جميع العلماء والمشايخ ورجال الدين يطبقونها ويجسدونها في واقعنا المعاصر؛ لترطيب الأجواء الساخنة التي نعيشها، وتخفيف حدة التوترات التي تقض مضاجعنا جميعا هذه الأيام!!

وبعد ثورة 25 يناير المباركة كان من المفترض أن يتعامل المصريون جميعا مع بعضهم البعض بنفوس صافية وقلوب مفتوحة، وعقول متسامحة خالية من الأحكام المسبقة والتصورات الذهنية النمطية عن الآخر، فهذه التصورات المُعَلَّبَة انتهت صلاحيتها ولم تعد قابلة للتطبيق في أرض الواقع، فهناك متغيرات كبيرة وقعت، ولا تزال تحدث تعديلات مهمة وكثيرة على مستويات عميقة في البنى التحتية لمختلف الجماعات والأحزاب والتيارات الدينية والفكرية والسياسية في المجتمع بعد الثورة، وربما يسفر ذلك الحراك الاجتماعي والسياسي الحاصل حاليا عن تغيرات جذرية واسعة تتشكل ملامحها حاليا، ويُنتظر أن تتبلور صورتها النهائية خلال الفترة القريبة المقبلة، وما أشد حاجة مصر في هذه المرحلة إلى أن يتحلى جميع المصريين (مسلمون وأقباط، إسلاميون وعلمانيون، سلفيون وإخوان، أزهريون ولاهوتيون، رجال ونساء، كبار صغار...) بالصبر والتحمل، والمرونة وطول البال،والرفق والحلم والأناة، وضبط النفس وهدوء الأعصاب، وقبول الآخر ومحبته، والبذل والعطاء، والتغافر والتغافل عن الزلات الذي هو من شيم الكرام، والتسامح والتضحية، ولنعلم جميعا أنه لا قيمة لنا دون أن تبقى مصرنا الغالية شامخة أبية عزيزة قوية!! ولا خير فينا إن لم نفعل لها ذلك!!

                

 * كاتب إسلامي مصري