دعونا نختلف بثقافة أخرى

زهير سالم*

[email protected]

عاش شعبنا السوري قريبا من نصف قرن في ظل نظام يحتكر الحكمة والصواب والوطنية، ويتهم المخالفين له بالحماقة والجهل والخيانة والضلوع في المؤامرة المتعددة الرؤوس والأوجه والألوان. حتى تحولت ثقافة نبذ الآخر واتهامه بعقله أو وطنيته وأحيانا بدينه وعقيدته إلى بلوى عامة منتشرة على الساحة السورية بين سواد كبير من أبناء الوطن الواحد، يتنابذون بكبير التهم، ويتربص بعضهم ببعض، ويخاف بعضهم من بعض. مع أن الاختلاف والتباين في الرؤية والتقدير هو الفطرة الأولية في خلق الناس، و الأصل الأول في قواعد قيام الدول والمجتمعات: ((وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ - وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ... )).

ولو حاولنا أن نستقصي أسباب وخلفيات الاختلاف البشري العقائدية والعقلية والثقافية والنفسية والنفعية والذرائعية لطال بنا المقام. وبعيدا عن الاستبداد وثقافته سنجد غالبا لأوجه الاختلاف منطقيتها ومسوغاتها من الحقيقة الشرعية أو العقلية أو المعرفية الثقافية أو البيئية؛ وسندرك أن من ضلال الثقافة أن نفزع في تعليل اختلافاتنا دائما إلى سياقات الخيانة والمؤامرة والبلادة والحماقة والجمود والرجعية وما شئت من عناوين بعد..

من كبير الإثم في الثقافة الشائعة اليوم في صفوف بعض الناس في تقدير أو تقويم مخالفيهم من الأشخاص أو الهيئات أو الأفكار الفزعة المباشرة إلى الاتهام بالعمالة تارة لهذه الجهة أو تلك على المستويات الإقليمية أو الدولية على حد سواء..

بعض الناس لا يريد أن يتعب نفسه في تمحيص أو تحقيق أو تدقيق فيما يعرض عليه فيرى أن في( الاتهام بالكبيرة بمدلوليها الشرعي والوطني ) نصرا بالضربة القاضية يحققه على مخالفيه. فيبادر إلى شطبهم بإشهار سيف التخوين قبل استعمال منطق النقد والتمحيص. وبعد الكفر الشرعي أو الخيانة الوطنية لا يبقى معنى للحديث عن أي ذنب!!

على الصعيد الشرعي الإسلامي عانى المسلمون طويلا، وربما ما يزالون، من منطق يصادر حساب المصالح والمفاسد بقاطع التحريم السابق والحاسم. يقول لك من يريد أن يقطع عليك طريق تقليب الأمور على مدارجها : (حرام ) وكفى. وهو في قوله (حرام) لا يتحدث عن (حرام بيّن) عنده فيه من الله برهان، ولا يعتمد دليلا قطعيا في ثبوته أو في دلالته أو فيهما على السواء.

وحين نتحدث عن مجتمع تعددي ديمقراطي فإن من أبسط قواعد هذا المجتمع أن نجد فيه للمخالف على كل صعيد مقعدا محترما يليق بشريك وطني. والمخالف هنا شخص أو هيئة أو عقيدة أو فكرة.

كان الفقيه الحق في تاريخ هذا الدين يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. وهذا موقف أصيل ما زلنا نحتاجه اليوم في الفقه، ولكننا أشد حاجة إليه في السياسة..

حين ندعو- اليوم - إلى الثورة على النظام فإن علينا أن نبدأ بالثورة على بعض ثقافته التي تكرست في نفوسنا. بل من يدري لعلها بعض ثقافة عصور الانغلاق التي أوصلته وأوصلتنا إلى ما نحن فيه..

وحين أستمع إلى بعض من يعتبرون أنفسهم مبشرين بالديمقراطية والتعددية والانفتاح الثقافي يبادرون إلى رد ما لا يروق لهم بالصيغ الاتهامية التي يلجأ النظام إليها تذهب نفسي إشفاقا وحسرة..

نعم نحن مختلفون وعلى أكثر من مستوى في تقويم الكثير من الأشخاص والمواقف والخطوات، ولكنه الخلاف الذي لا يفرقنا ولا يشرذمنا ولا يبعث فينا الريبة والشك والخوف.

في المجتمع التعددي الديمقراطي الذي ننشد لا مكان لثقافة الاتهام ، لا مكان للتكفير ولا للتخوين، ولا للنبذ. وإذا لم تتمكن هذه الثقافة المتعالية من ضمائرنا فنحن بحاجة إلى ثورة في ثورتنا..

                

* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية