عن حماة وقنداهار.. والقلوب القاحلة

د. حمزة رستناوي

[email protected]

(1)

عرف العالم مدينة قنداهار الأفغانية عقب أحداث 11 أيلول مع الاحتلال الأمريكي لأفغانستان عام 2001 حيث ظهرت مدينة قنداهار كمعقل لحركة طالبان في مواجهة الاحتلال الأمريكي .

و لما كانت حركة طالبان و حليفها  تنظيم القاعدة يتبنّيان فهماً جوهرانيّا للإسلام السنّي , إسلام ضد العصر يقوم على تكفير و إقصاء المُختلف مع تهميش المرأة ..الخ.

أقول في تلك الحقبة لقد تم وسم مدينة قنداهار من قبل الإعلام الغربي و العربي ,بصفات إسلام القاعدة و طالبان, و يمكن التعبير عن ذلك وفقا لمعادلة تبسيطية اختزالية بما يلي:

قنداهار= تخلف .

 القندهاري = الإسلامي السني التكفيري المتخلّف.

من وجهة نظر معرفية هذا مناف للبرهان, فلا يمكن وسم مدينة بتاريخها و تنوِّعها  بأنّها متخلّفة , ولا يمكن وسم  قاطنيها بكونهم متخلّفين. فهذه الرؤية بقدر ما هي

تبسيطية بقدر ما تعبّر عن تفكير نمطي  يعمّق الحواجز بين البشر و يعيق  التواصل الايجابي بينهم, ليصبح مثلا :

الإنسان أسود البشرة= عبد أو متخلّف.

الأمريكي= حضاري .

الفلسطيني= إرهابي .

العرب= شهوانيين و أغبياء.

 المرأة= ناقصة عقل...الخ.

فهذا النمط من التفكير النمطي ينافي بداهة التنوع الإنساني, و برهان العدالة و البراءة أصل إنساني ,فلا تحمل وازرة وزر أخرى

بالتأكيد ليس كل القندهاريين من أنصار حركة طالبان  و يوافقونها.

و بالتأكيد إن إطلاق و تعميم و تداول هذه النظرة النمطية تجاه مدينة أو عرق أو دين : يلحق الأذى و الظلم بأناس و فئات لا ينطبق عليهم مضمون الصفة المقصودة.

فالقندهاري " أي المواطن الأفغاني الذي ينتسب لمدينة قنداهار" لم يختر بملأ إرادته ذلك مثلما أن واحدنا لم يختر عائلته و لون بشرته مثلا .

و كذلك انتشار هذا التفكير النمطي يعيق بناء مستقبل المجتمعات, لكون هكذا تعميمات قد يصعب محوها من الذاكرة في المدى القريب و المتوسّط.

باختصار : إنّ وصف شخص بأنّه قنداهاري أو وصف مدينة بأنّها قنداهار يتضمّن  حكم قيمة سلبي على الموصوف.

 (2)

في سوريا و رغم  انضمام  مدينة حماه المتأخر نسبياً   للانتفاضة الشعبية ضد السلطة إلا أنّها سرعان ما تصدّرت المشهد السياسي السوري ,حيث أنّها شهدت التظاهرات و الاعتصامات الأكبر عددا و الأكثر تنظيما على مستوى سورية عقب  "مجزرة في جمعة أطفال الحرّية"  3- حزيران 2011 التي راح ضحيّتها ما يزيد عن السبعين مدني, لقد  ذهبت حماة بعيدا في حراكها لتشهد عصيان مدني ضد السلطة المركزية وشبه إضراب عام استمر زهاء شهر.

المشهد هو التالي: مدينة خرجت عن سيطرة السلطة , مدينة تشهد الحراك المعارض السلمي الأكبر في سوريا.

 مع خلفية تاريخية للمشهد : تتمثّل في مدينة تعرّضت لمجزرة في شباط  1982 عقب انتفاضة مسلّحة قامت بها معارضة طائفية " الطليعة الأخوانية المقاتلة"  و قيام السلطة أنذالك بحملة عسكرية لم تستهدف المسلّحين فقط , بل المدينة ككل راح ضحيّتها مدنيين و أبرياء يقدّر عددهم بالآلاف .

المشهد هو التالي:  السوريين و العالم و أبناء حماة يترقّبون اقتحام المدينة من قبل السلطة و متخوّفين من تكرار مجزرة سابقة.

في هذه اللحظة تحديدا تم وصف مدينة حماة بأنّها قنداهار سوريا؟!

بعض النظر عن حقيقة و برهان الحدوث لهذا التوصيف, إنّ  إطلاق هذه الصفة * على مدينة حماة في هذا الظرف تحديدا هو بمثابة تحريض على أهل المدينة, و  تقديم المبرّرات لاجتياح المدينة , فالمطلوب أن تكون حماة معقل لطالبان و تنظيم القاعدة , أي أن تكون قنداهار سوريا, ليتم البطش بها , و يُسَوَّق ذلك خارجيّا على أنّه : "حرب على  الإرهاب".

(3)

بالفعل يمكن وصف مدينة حماة بأنّها ذات طابع محافظ على العموم من ناحية الاجتماعية, مع وجود اختلافات بين مكان و آخر و زمان و آخر , و لكن هذا الطابع المحافظ لا يعني حكم قيمة سلبي بالضرورة , بل يمكن فهمه في إطار مشروعيّة اختلاف أنماط العيش بين البشر و التنوّع الثقافي.

و إذا كان كانت مدينة حماة قد  شكّلت ابتداء من الستينيات و حتى بداية الثمانينات حاضنة لحركة الإخوان المسلمين, فإنّها كانت حاضنة كذلك للاشتراكيين و القوميين العرب, فمنها  و فيها سطع نجم السياسي الشهير أكرم الحوراني مثلاً.

و لكن مع وصول العسكر إلى السلطة في سوريا عقب انقلاب 1963, و استئثار البعث بالحياة السياسية , تم إفقار خزّان السياسة في سوريا و قمع المجتمع, بما أهّب لهزيمة حزيران 1967 و ما تلاها من تداعيات

كل ذلك أدى إلى انحياز في النخب السياسية السورية – السنّية المدنيَّة خاصة- من التيار القومي العربي ( الناصرية و البعثية) و لدرجة أقل الليبرالية إلى تيار الإسلام السياسي. هذا التحوّل سيُلقي بظلاله القاتمة على الحياة السياسية في سوريا لاحقا , وليتوّجْ بالصراع  الدامي بين الإخوان المسلمين و السلطة  في بداية الثمانينات.

مدينة حماة و المجتمع السوري عموما و منذ ثلاثة عقود يعيش في كنف "الدولة الأمنية " على حد تعبير طيب تيزيني و يعاني من قمع للحريات العامة و خاصة السياسية , و في هذا  المناخ من الصعب إطلاق مبادرات سياسية أو فكرية أو اجتماعية تستطيع ضخ الحياة مجدّدا في دماء السوريين, و أمام هذا العجز الموضوعي عن التعبير و استشراف أفق للتغيير يتجه الإنسان نحو الدين باعتباره الملاذ الأخير و  حدّ الفقر السياسي.

المشهد العام في حماة و غيرها - قبل الانتفاضة الراهنة - من الجغرافيا السورية : شارع سوري منقسم و مُلْتَبِس حول:

-إسلام جوهراني منغلق : أخواني- سلفي- صوفي..الخ

- سلطة جوهرانيّة فاسدة : يلتحق بها انتهازيين و كذلك أناس بحكم البقاء و الحاجة و غريزة التنافس الاجتماعي.

من الصعب عزل مدينة حماة عن سياق المشهد الاجتماعي و السياسي في سوريا

و عند تحليل مشهد علينا ألا نكتفي بإطلاق أحكام القيمة بل يجب  طرح تساؤلات من قبيل :كيف و لماذا؟

(4)

إنّ غالبيّة  من يتَّهمون  مدينة حماة بأنّها قنداهار سوريا , و هذا يعني أوتوماتيكيا وصف الحمويين بأنهم تكفيريين و إرهابيين , هم منحازون للسلطة الحاكمة  ويبرّرون أعمال العنف ضد الحراك الشعبي  و المدنيين, و هذا يكشف ازدواجيّة معايير :

فمن جهة أولى: هم يدينون عنف " القندهاريين " و يسكتون أو يمالئون عنف السلطة و ميليشياتها .

و من جهة ثانية: و كلنا يعرف عدم وجود فروقات جوهريّة في الجغرافيا السورية بين المدن و البلدات من ناحية انتشار الفكر الجوهراني الفئوي و قمع المُختلِف.

فمن هذا المنطلق – مجازا- لكلّ "قنداهارهُ " , و  طبعاً الأقربون أولى بالنقد و المعروف.

ملاحظة: لا تعتبر مظاهر الحداثة الشكلية من ناحية اللباس و المأكل و المسكن تجاوز للفكر الجوهراني الفئوي.

(5)

إنّ الكتّاب السوريين الذين يصفون حماة بأنّها قنداهار سورية أو ما شابه ذلك  يعوزهم الحس الإنساني و الوطني الكافي , فالوطنيّة تقتضي الشفافيّة و الإنصاف و الكلمة الطيبة  و تفهّم الآخرين لا التحريض على الكراهيّة , و تقتضي فيما تقتضيه البحث عن القاسم المشترك بين أبناء الوطن الواحد , و تجاوز الميراث الانحطاطي الطائفي و المناطقي.

(6)

ألا يحقّ لنا التساؤل , ألا يكفي ما يقارب الخمسين عاما من حكم البعث العلماني التقدّمي لنزع صفة "القنداهاريّة" عن مدينة حماة ؟!

أليس هذا إقرارا بفشل المشروع التحديثي للبعث؟!

 و من المسؤول عن ذلك؟!

(7)

إنّ ما يجمع حماة و قنداهار هو التراث التمرّدي و الاحتجاجي : كلٌّ على طريقته و في سياقه, و من المفارقة أن يتم إلحاق صفة الثانية بالأولى فقط عندما يتم التعبير عن هذا الفعل التمرّدي و الاحتجاجي, و لا يتم الإشارة إلى هذه الصفة الايجابية بل إلى نقيضها السلبي المنغلق؟!

(8)

تم إقالة الصحفيّة غدي فرانسيس من جريدة السفير عقب ردود الأفعال السلبية  التي أثارتها في مقالها:" " في حماه: للحرية غضبها ومواجعها"! الذي وصفت فيه مدينة حماة بأنّها تلبس ثوب قنداهار و أن ملامح وجهها قنداهارية *

و بغض النظر عن صوابيّة المقال و ما يعرضه من مصالح تناولتها سابقا بالنقد, إن إقالة الكاتبة بسبب وجهة  نظرها هذه  يتعارض  حق الإنسان في التعبير عن الرأي, و ضرورة تقبّل المختلف.

(9)

أنهي مقالي بما أثبتتهُ الروائيّة الحموية "منهل السراج" على صفحتها في الفيسبوك تعقيباً على مقال جريدة السفير الذي  وصف حماة بأنّها "قنداهار سوريا" :

"للتوضيح، صبايا أسرتي كلهن طالبات جامعة ويعشن بحماة، ولا يضعن أي غطاء على الرأس، ويفتخر بجديتهن.. وكنت قبل سفري، عشت في حماة، وكنت أتجول في كل مناطقها من دون إزعاج، بس أتجول بحب.. هلق بتجي صحفية من برا، و بتعمل فيها إمارات؟ واقعياً، ضيقهم نابع من قلة الحب".