هل أنصف الإعلام الدكتور عبد الوهاب المسيري

في الذكرى الثانية لرحيله

(1938-2009)

ياسين سليماني

[email protected]

ثمة مسألة أراها جديرة بالاهتمام، هي علاقة المتلقي بكاتب (أيا كان مجاله) في حياته أولا وبعد مماته ثانيا، ويمثل الإعلام سببا يكاد يكون مباشرا لبناء الوعي العام بأهمية هذا المؤلف أو ذاك أو النفخ في حجم أحدهم مقابل الآخر. إنّ الكثير من الكتاب يصبحون نجوما فور وفاتهم، للتسليط الإعلامي المكثف حول أعمالهم، ولمجالس التأبين والعزاء التي تقام في الأفضية الثقافية وأعمدة الصحافة، وكثير منهم يزداد عدد طبعات كتبه بمجرد إعلان وفاته.

مع ذلك فإنّني لا يمكن أن أمارس منهج الاستقراء مع جميع المفكرين، فأثبت هذا الرأي بإطلاق، أما ما يتعلق بالدكتور عبد الوهاب المسيري الذي تحل في هذا الثالث من يوليو ذكرى وفاته الثانية  فقد كان نجما في حضوره، كما كان نجما في غيابه... فكانت له علاقة متميزة بالإعلام، يشهد بذلك الاهتمام الكبير من الميديا الذي أتبع وفاته،  وهو يعترف للإعلامية كوثر البشراوي في إحدى حلقات "حوارالثقافة والأدب"  فيقول :" ... ومن هنا بالمناسبة حرصي الشديد على أن أظهر في التلفزيونات كلما سنحت لي الفرصة، لأنّ هذه هي الطريقة للوصول إلى الملايين، وأنا كمفكر أريد تغيير الواقع، أحب أن أصل إلى الملايين ولا أخجل من هذا"

ولنتفق أولا أنّ قراءة المسيري بقدر ما هي شائقة، وتغمس المتلقي في جو لذيذ من المتعة الفكرية الرفيعة إلا أنها محفوفة بالكثير من مخاطر الانزياح نحو التبسيط ، إذ لا تعني على الإطلاق بساطة اللغة التي يتحدث بها الرجل وجود هشاشة في الأفكار التي يقدمها أو تسطيح فيها، بل على النقيض التام من ذلك، حيث وراء كل جملة أو عبارة يُخيل للمتلقي أنها بسيطة ، تتخفى أرمادة من المفهومات بالغة التعقيد ، والمسيري كما يرى بعض دارسيه كان يعتمد التبسيط لأن إحدى أهم رسالاته التي كان يؤمن بها توسيع قاعدة المعرفة، لأنها اللبنة الأساسية لتوسيع قاعدة المشاركة ، ولذلك فإنّ أسلوب الحوارات الذي ينبني على صيغة السؤال والجواب يمثل صورة مثلى لسعي الدكتور المسيري الدائم إلى تبسيط القضايا مما يساعد على سهولة انتشارها ووصولها إلى القاعدة العريضة من الناس كما ترى سوزان حرفي في كتابها: حوارات الدكتور عبد الوهاب المسيري: الهوية والحركية الإسلامية.

مع ذلك فإنّه كان يتذمر من الإعلام بقدر ما كان الإعلام إيجابيا معه، وهو يقول في كتابه الماتع "رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار" : "وأعاني كثيرا من صغار الصحفيين الذين يأتون للحصول على تصريح أو حوار ولكنهم يسجلون ما يعرفونه وحسب، فإذا وضعنا في الحسبان فقرهم الثقافي والفكري الشديد، وعجزهم عن التعامل مع غير المألوف أمكننا تخيل حجم الكارثة، وكثيرا ما أصرح بشيء وأجد عكسه منشورا، وكم من مرة صححت هذا الخلل... و مع هذا لا بدّ أن أذكر أنّ هناك قلة من الصحفيين تأتي لتقابلني بعد أن تكون قد اطلعت على بعض كتاباتي وبلورت بعض الأسئلة الأساسية ومن ثمة يكون الحديث معهم متعة حقيقية"

إنّ السياسة الإعلامية المنتهجة في البلاد العربية قاطبة لا تكاد تفي بحاجة الباحث عن المعرفة، بل أكثر من هذا تقوم في الكثير من الأحيان بتشويه الحقائق وتحويلها لسبب من الأسباب إلى مادة إخبارية مجردة من أية قيمة معرفية جادة ورصينة بل ودائمة.

كما أنّ دور الإعلام لم يتوقف عند هذا الحد، فبالرغم من غزارة إنتاج المسيري فقد ظلّ اسمه مرتبطا بموضوعات اليهود واليهودية والصهيونية، وما يطرحه هذا المجال من إشكاليات، وهذا ما جعل الكثير من الناس يجهلون ما لهذا المفكر من إسهامات متنوعة يأتي على رأسها تخصصه في الأدب الانجليزي إضافة إلى أدب الأطفال والشعر، وهو بقدر ما كان مفكرا كبيرا فهو كاتب أطفال بامتياز، فقد نال جائزة أحسن كاتب لأدب الأطفال عام 2000، كما نال الجائزة نفسها عام 2003، ومن النادر أن تجد مفكرا يشتغل "رئيس وحدة الفكر الصهيوني بصحيفة الأهرام" و"المنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) المعارضة" التي سعت إلى إسقاط النظام المصري وقتها، يكتب للأطفال ، بل وينال عن جدارة جوائز رفيعة فيها.

إنّ الإعلام بقدر ما غمط حق المسيري في الوصول بالشكل الصحيح إلى الملايين كما كان يرغب في الحوار الذي اقتطفت جزءا منه ، قام بتغيير العديد من المعادلات، وترجيح كفة طرف على طرف آخر، فإذا اخترنا موضوع "الصهيونية" كبؤرة  فكرية في كتاباته نجده يرى بأنّ الإعلام العربي يركز على مدى "قوة" الجيب الاستيطاني الصهيوني وبطشه وقدراته العسكرية التي لا تعرف حدوداً، كما يشغل الإعلام العربي نفسه بشكل مرضي بحصر انتصارات الدولة الصهيونية، ويخفق إلى حد كبير في رصد عوامل التآكل التي تتفاعل داخله، وتدهور الحالة النفسية للمستوطن الإسرائيلي من جراء المقاومة الفلسطينية الباسلة. و المحصلة النهائية لهذا الموقف هي أن المقاومة الفلسطينية تبدو كما لو كانت معركة خاسرة لا فائدة تُرجى من ورائها. هذا على عكس الصحافة الإسرائيلية التي ترصد أثر الانتفاضة على المجتمع الصهيوني بطريقة ترفع المعنويات وتبين أن الانتفاضة ليست فعلاً عبثياً، كما ذكر في حواره مع مجلة الموقف الأدبي، العدد 174. و هذا التوجه من الإعلام – سواء كان أصحابه واعين بمدى خطورته أو عكس ذلك – له أكبر التأثير في صياغة الوعي الجمعي لدى الإنسان المتلقي إن سلبا أو إيجابا.

و نماذج تورط الإعلام في الهزيمة النفسية للمجتمع العربي وتخاذله وتقزيم صورته كما رأينا، كثيرة، ومنها المثال الذي  سأسوقه ، والذي بالرغم من تسبّب المثقفين في حدوثه بدرجة كبيرة، إلاّ أنّ الإعلام له اليد الطولى فيه، فهو يهرع كثيرا إلى تبني الأفكار الأجنبية ولو كانت خاطئة ، مما يمثل تبعية صارخة للمركزية الغربية التي تعتقد أنّ أيّا من الأفكار المهمة هي نتاج لهذا الغرب، دون غيره، ويبقى على العرب النقل والاستنساخ، وربما ما حدث للمسيري يوضح هذا، فهو يعلن بأنّه كان السباق لوضع مصطلح "نهاية التاريخ" الذي اشتهر به فرنسيس فوكوياما، وبالرجوع إلى المكتبة الفكرية نجد أنّ المسيري أصدر كتابه "نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني" عام 1972 أما فوكوياما فنشر مقالا في ناشيونال أنتريست بعنوان "نهاية التاريخ" وذلك عام 1989 ثم أصدر كتابه الأشهر "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" عام 1992، أي بينه وبين كتاب المسيري نحو سبعة عشر عاما في المرة الأولى، ونحو عشرين عاما في المرة الثانية. رغم هذا فإنّ أغلب الدارسين ينسبون الفكرة لفوكوياما دون النظر إلى الأسبقية التاريخية لإبداع هذا المصطلح. ولم ينبّه الإعلام إلى هذا –كما لم ينبه المثقفون لهذا بعدما استقالوا من مهمتهم الوجودية- وهذا ما دعا المسيري لأن يقول في مذكراته " لم يذكر أحد منهم كتابي بالخير أو بالشر، ولم يقارن أي منهم بين رؤيتي للتاريخ ورؤية فوكوياما " ثم يخلص إلى أنّ " ثمة هزيمة داخلية في الفكر العربي تجعل من الغرب المرجعية الوحيدة ومصدر المعرفة الأوحد ، ولذا لم يتصور أحد أنّ كتابي ربما يكون قد طرح أفكار فوكوياما قبله بعدة سنوات، وربما بطريقة مغايرة تماما ، ولكنه يتناول الإشكالية نفسها".

هذا التذمر من الإعلام سواء الذي يتجاهل أصالة أفكار المسيري في بعض الأحيان، أو يسطيحها ويحاول همبرغرتها يقابله من جهة أخرى سطوة إعلامية إلى درجة تفوق التصور، وهو يتحدث عن تلقي المؤسسة الإعلامية لكتابه الرئيس "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية" فيقول :" فاق التلقي الإعلامي كل توقعاتي" ففي شهر واحد وجد الرجل نفسه محط اهتمام الإعلام من كافة أنواعه المرئي في أهم محطاته، والمقروء على طول الرقعة العربية،  وهو الاهتمام الذي يعترف بأنه لم يكن أمرا مألوفا لديه، فاكتسحه تماما.

هذا الاكتساح الذي عرفه المسيري بعد صدور موسوعته سبّب له تغيرا كبيرا فكما يقول " الاهتمام الإعلامي أصبح يتهدد حياتي الفكرية بالخطر" ، وهذا لأنّ الجهد الذي كان يبذله للإجابة عن الأسئلة والظهور في البرامج كان يستنفد كل طاقته"

ولأنّ الدكتور المسيري كما يحكي عن نفسه كان محبا للنكتة وولاؤه لها يكاد يكون مبدئيا يجُبُّ الكثير من الولاءات الأخرى، فهو تعامل مع هذه السطوة الإعلامية التي باغتته إثر صدور الموسوعة بخفة روح عالية، فهو يقول :" فكّرت في شعار طريف أطرحه على الإعلاميين حين قرّرت الاختفاء والعودة إلى عالمي الهادئ : أنا أفكر إذن أنا غير موجود"، بمعنى أنني حين أستغرق في حياة الفكر فلن أكون موجودا أجيب عن أسئلة الصحفيين".

وأخيرا، كان يمكن لهذه المداخلة أن تكون بوقا لكيل المدح للمسيري –وهو يستحقه- ولكن رأيت أنّ أفضل ما يمكن تقديمه إلى أيّ كاتب خاصة إذا كان ذا أهمية كبرى مثل هذا الرجل، هو محاولة الفهم وتشخيص المشكلات والموضوعات ذات الأهمية الحقة، وهذا هو الأفيد، من أجل إدراك واعٍ وفهم خلاّق، وأعتقد أنّ فكر المسيري يحتاج إلى الصنف الثاني من المقاربات لا الصنف الأول الذي لا يزيد عن أن يكون آنياً لا طائل منه.

بعد هذا هل يمكن أن نقول بأنّ الإعلام أنصف الدكتور عبد الوهاب المسيري أم غمطه حقه؟ أعتقد أنّ المتلقي وبالرجوع إلى كل ما سبق سيجد الإجابة عن السؤال بمفرده.