ما لهذا قمنا بالثورة

حسام مقلد *

[email protected]

أزعم أن الغالبية الساحقة من المصريين الآن تشعر بالغضب والانزعاج من الجدل الدائر بين من يسمون بالنخب وكافة الأحزاب السياسية؛ فهذه الأغلبية لا يهمها كثيرا تلك الأحاديث الجدلية (بل التافهة والمملة في معظم الأحيان...!!) عن الأطر النظرية المحددة لنظام الحكم وشكل الدولة المصرية، فهناك حقائق راسخة على الأرض يؤكدها التاريخ وتثبتها الجغرافيا ولا مجال لتغييرها أو الخلاف عليها، فمصر دولة عربية إسلامية وجزء من الأمة العربية والقارة الإفريقية... إلى آخر هذه الحقائق والثوابت التي لا داعي لتكرارها كل حين على مسامع الجماهير، والتأكيد عليها لأن ذلك ما هو إلا مضيعة للوقت والجهد والطاقة دون طائل!!

إن الشعب المصري يريد دولة مدنية توفر الحرية والعدالة لجميع مواطنيها وتمنحهم كافة حقوقهم التي تقرها المواثيق الدولية دون التفرقة على أساس الجنس أو اللون أو الدين، ولا يمكن أن يوجد في مصر ما عرف في أوربا بالدولة الدينية التي يحكمها الكهنة ورجال الدين باسم الحق الإلهي، فهذا المعنى الثيوقراطي للدولة الدينية لا وجود له في الإسلام أصلا، وبالتالي فلسنا معنيين بالانشغال به وإهدار أوقاتنا وطاقاتنا في الحديث عنه، وأما ما يتعلق بالخوف من السلفيين والإسلاميين، ورفع هذه الفزاعة في وجوه المواطنين فهذا مجرد ابتزاز ودجل وضحك على الذقون، أو هو نوع من التهارش والتراشق والتنافس السياسي الذي لا بد منه بين الأحزاب، لكن أن يصبح هذا اللغط هو الشغل الشاغل للفضائيات ولقطاع كبير من المسئولين في الدولة فهذا هو الخطر بعينه نظرا للخلفيات والتفاصيل الكثيرة الكامنة خلف ذلك...!!

إن الحقائق التي تتسق مع طبيعة وظروف المجتمع المصري  تؤكد استحالة قيام دولة متشددة دينيا في مصر على النمط الإيراني، أو النموذج الأفغاني الذي قدمته حركة طالبان، بل إن مجرد تصور قيام ما يسمى بالدولة السلفية المتشددة على هذا النسق المرعب الذي تقدم به حيث لا فن ولا أغاني ولا دراما ولا سياحة ولا نساء يعملن أو يخرجن في الشوارع، وإن خرجن يكن كالأشباح السوداء التي تفزع كل من يراها ـ أقول إن مجرد هذا التصور ينافي الواقع ويخالف تاريخ أعرق شعب في التاريخ، فلا يمكن أن يفكر الشعب المصري بهذه الطريقة المريضة، وحتى لو اختلط الأمر على بعض الشباب المصري المتدين وظن أن شيئا من ذلك التشدد هو التدين الصحيح فسرعان ما يلفظ هذا الفكر الغريب الذي يضاد السمات الحضارية الموجودة في جيناته الوراثية، ويخالف فطرته السوية، ويصادم طبيعته النقية الخالية من الشوائب الكثيرة التي قد تعكر صفو حياة الآخرين، فالشعب المصري في جملته شعب حضري معتدل المزاج بعيد عن جفاف الصحراء والمناطق الجبلية، وجفاء البادية وقسوة الظروف المناخية لبيئتها العدائية.

 ويحق لنا أن نتساءل في دهشة واستنكار: ما الذي يحدث في مصر الآن؟!! هل قامت الثورة لمجرد استبدال وجوه بوجوه أم لتخليص الشعب المصري من منظومة الفساد والاستبداد التي كانت تحكمه بالحديد والنار؟! في الحقيقة لم تكن مشكلة المصريين الأساسية الخلاف على نظام الحكم وملامحه وأطره النظرية، بل كانت  تتمثل في هيمنة وسطوة ونفوذ أصحاب شبكة المصالح الاقتصادية وجبروتهم، وتلوث ضمائرهم، وتغوُّلهم واستشراءُ فسادهم في المجتمع، واتكائهم على ضراوة النظام البائد وقسوته وشراسته في تعامله مع المواطنين، واهتمامه بتحقيق مصالح الطبقة الفاسدة الحاكمة ورعايتها، ولو  على حساب ملايين المواطنين، الأمر الذي نتج عنه إهدار كرامة المصريين، وتضييع حقوقهم، وتبديد أعمارهم واستنفاد طاقاتهم في سبيل توفير الحد الأدنى المقبول للحياة الكريمة!!

لقد ثار المصريون من أجل الحصول على كرامتهم والعيش بحرية حياة هادئة مطمئنة، بعيدا عن كل صور الإذلال والامتهان، أجل ثرنا وغيرنا بدماء أبنائنا نظام الحكم الظالم الطاغي المستبد من أجل الحرية والكرامة والعدالة والمساواة،  وليس من أجل الحديث عن الدستور أولا، والمواد فوق الدستورية، ولا من أجل المنظرة والجلوس في المكاتب المكيفة أو الاستوديوهات الفاخرة واستعراض بضاعتنا الرديئة أمام المشاهدين، لقد ملَّ الناس هذا النمط الفاشل من الحياة والتنظير الأبله البعيد عن واقع حياة ملايين المصريين المستعبدين المسحوقين داخل مصر وخارجها!!

إننا لم نثر من أجل هؤلاء الأدعياء الذين اقتحموا حياتنا فجأة تحت عباءات وعناوين مختلفة (سواء وضعت الأسماء تحت مقولات مثل: السلفيين، الليبراليين، العلمانيين، الوسطيين، الوطنيين، الاشتراكيين، المعتدلين، الإخوان المسلمين، الأقباط المتطرفين، أقباط المهجر، الأقباط المصريين...إلخ) كل هذه العناوين لا تعنينا، كل هذه اللافتات لا تهمنا، نحن ثرنا من أجل حل مشاكلنا العويصة المستوطنة التي سممت حياتنا بعد أن أصبحت صداعا مزمنا يلازمنا في صحونا ونومنا، نعم الشعب يريد حل مشاكله المزمنة التي يعاني منها منذ عقود طويلة، الشعب يريد توفير الوظائف لملايين العاطلين من أبنائه، يريد حل مشاكله اليومية كالحصول على رغيف الخبز الصالح للأكل ، وكوب مياه الشرب النقية بسهولة، نريد مواصلات سهلة لا نقول مريحة فقط نريدها سهلة تناسب الآدميين!!

وبعد مرور نحو خمسة أشهر على ثورتنا المباركة كفانا إسرافا في مشاعر البهجة والزهو، وكذلك لن نغالي أو نبالغ  في دواعي القلق والحذر والترقب والتشكيك؛ فمن شأن هذه الحال القلقة المضطربة أن تشوش على أذهاننا، وتُنْسِينا تحديد وترتيب أولوياتنا وأهدافنا الكبرى التي قامت الثورة من أجلها، لكن نقول بكل حزم ووضوح وبأعلى صوت فينا: كفانا محاولات للالتفاف على إرادة الشعب، كفانا جدلا وسفسطة خائبة لن نجني منها سوى الإرباك والإحباط  وفقدان الوجهة والبوصلة!!

يقول الله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [الرعد:11] وهذا يعني أن التغيير الإيجابي الجوهري والحقيقي الذي ثرنا من أجله، ونسعى بكل جهدنا لتحقيقه في دولتنا بجميع هياكلها ومجالاتها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، هذا التغيير لن يحدث إلا إذا غيرنا من أنفسنا وطباعنا وطرائق تفكيرنا وأساليب إدارتنا لحياتنا وحواراتنا المختلفة، وإلا سنفيق ـ لا قدر الله ـ على وهم كبير وندرك بعد عقود أخرى من التغييب والتجهيل والفقر والحرمان والإحباط أن كل ما جرى كان مجرد وهم أو سراب، وأننا لم نفعل سوى استبدال وجوه بأخرى أو الإتيان بطاغية مكان آخر، وساعتها لن ينفع الندم، ولن تفيدنا الفضائيات وكل برامج التوك شو التي تبث الأراجيف والأكاذيب فينا ليل نهار!!

                

 * كاتب إسلامي مصري