إسلاميون وليبراليون... وماذا بعد

حسام مقلد *

[email protected]

لقد سئم المصريون من الشعارات البراقة والمصطلحات العجيبة والتصنيفات غير المنصفة!! لقد ملوا الكلام عن الإصلاح والتغيير والحرية والعدالة، وتعبوا من سماع الأسطوانات المشروخة التي تتحدث عن الغالبية المسحوقة ومحدودي الدخل والكتلة الصامتة، فالجميع يتحدث باسمهم ويتسلق على أكتافهم ليصل إلى هدفه، والقضية أوضح من الشمس، والموضوع أبسط من كل هذه المناظرات والجدل العقيم فكل مصري يريد أن يعيش هو وأسرته بحرية وكرامة، يريد أن يجد معه ما يكفي من المال لدفع مصاريف السكن والطعام والشراب والكساء والدواء، يريد أن يجد التعليم الجيد لأبنائه، يريد أن يجد معه ما يرفِّه به عن أولاده بعض الشيء، حتى ولو أن يشتري لهم ملابس العيد ومستلزمات المدرسة دون أن يستدين ودون أقساط، يريد أن يحترمه رجل الشرطة، يريد أن يؤدي كل ما عليه من واجبات في مقابل أن يحصل على كامل حقوقه الإنسانية وهو مرفوع الرأس موفور الكرامة!!

إن الشعب المصري لا يريد صراعا على السلطة، الشعب المصري لا يريد أن يتحدث أحد باسمه ولا أن يتبنى مطالبه فجماهير المصريين لم تعد قاصرة وتعرف وتدرك تماما ما تريد!! نحن لا نريد وعودا براقة ولا شعارات جميلة، نحن لا نريد كلاما عاما وأفكارا مرسلة يمكن لأي أحد أن يتشدق بها، الشعب المصري يريد برامج عملية محددة وحلولا سريعة لمشاكله المتفاقمة، وبدلا من كل هذه الفلسفة والتنظير، وتبادل الاتهامات والتخويف والتفزيع، وشن حملات التشويه والترويع والإرهاب الفكري يريد الشعب المصري أن يستمع لبرامج حزبية محددة ورؤى وأطروحات راقية ومنطقية وعملية وقابلة للتنفيذ فورا، بحيث لا تظل مجرد حبرا على ورق أو وهما في رؤوس أصحابه!!

دعونا نخرج من المكاتب المكيفة والأستوديوهات الفخمة المترفة التي تمطرنا كل ليلة بوابل من التنظير العجيب المريب من نجوم برامج التوك شو (المذيعون والضيوف، والمتصلون...!!) دعونا نلتحم بعفوية وتلقائية مع أهالينا وشعبنا الطيب المكافح، دعونا نذهب إليه ونشاركه معاناته اليومية في القطارات والحافلات والعبَّارات المكتظة بأضعاف أضعاف سعتها من الركاب والمسافرين، دعونا نقف معه في طوابير الخبز والغاز... وغيرها من الطوابير الطويلة السخيفة والمملة التي لا تنتهي، دعونا نلتحم بالناس في الميادين والشوارع والأزقة والحارات، دعونا نستمع لشكاواهم وآلامهم وأناتهم وتوجعاتهم، دعونا نستمع إلى آمالهم وطموحاتهم ونتعرف على أمنياتهم وأحلامهم، دعونا نحلق معهم بأفكارنا في فضاء رحب فسيح بعيدا عن المخاوف الكارثية والأزمات المفتعلة التي تروج لها أغلب وسائل الإعلام في مصر الآن، دعونا في تخطيطنا وتفكيرنا للمستقبل نبتعد عن الفزاعة القديمة الجديدة والمبالغات العليلة والتهويلات السقيمة الممجوجة التي أخذت على عاتقها تخويف المصريين من وحش كاسر اسمه الإسلاميون (وفي النسخة المعدلة السلفيون...!!) وتصويرهم على أنهم مارد متوحش خرج من قمقمه بعد نجاح ثورتنا المباركة، والزعم ليلا ونهارا في كل البرامج وعلى كل الصحف تقريبا بأنهم سيستولون على الحكم والسلطة في أول انتخابات قادمة؛ لأنهم القوة الأوسع تنظيما والأكثر تمويلا...!! وكأن ملايين الشعب المصري بلا عقل، أو مجرد قطيع بشري يمكن تحريكه يمينا ويسارا بكل يسر وسهولة، وكأنه قطيع من المخلوقات الساذجة البلهاء!! وأظن أنه قد آن الأوان لنقول: كفى امتهانا للمصريين واستخفافا بعقولهم!!

دعونا نفكر في مصالحنا العليا ونقرر ما نريده بعيدا عن المآتم وسرادقات العزاء التي أقامها معظم الفضائيات المصرية الخاصة والحكومية ترحُّما مقدما على: الحرية والتسامح والانفتاح على الآخر والوحدة الوطنية والنسيج الواحد...إلخ إلخ، فكل هذه الفضائل ستموت وتُقْبَرُ في سبتمبر القادم بعد الانتخابات المتسرعة العجلى التي ستُقَدِّمُ الحكمَ والسلْطَةَ والدولة المصرية كلها على طبق من ذهب لهؤلاء الإسلاميين المتشددين الذين سينقلبون على الديمقراطية وينقضون على خصومهم السياسيين فورا بمجرد امتلاكهم للسلطة ـ بحسب المزاعم والافتراءات التي يروج لها خصوم الإسلاميين ـ!!

وبالمثل دعونا نفكر في همومنا ومشاكلنا واقتراح حلول لها وطرح بدائل متنوعة للخروج منها بعيدا عن أحلام اليقظة الجميلة الرائعة التي تعيش فيها شريحة غير قليلة من الإسلاميين الذين يتوهمون أن الناس سيصوتون لهم هكذا لمجرد أنهم يرفعون اللافتة الإسلامية، دعونا نتخيل معالم الدولة المدنية المصرية ذات المرجعية الإسلامية، دولة العدالة والمساواة والحرية، دعونا نفكر في ركائزها وثوابتها السياسية والعسكرية والاقتصادية ودعائمها الاجتماعية والنفسية والفكرية والثقافية وبنيتها القيمية والأخلاقية، دعونا نحلم ونفكر في ملامح كل ذلك بعيدا عن القشور السطحية البسيطة التي يهتم بها الوافدون الجدد على السياسة والعمل العام، دعونا نترك الأمور الشكلية اليسيرة وننفذ إلى العمق والجوهر والمضمون؛ فأمام مصر تحديات خطيرة أخطر بكثير جدا من تلك الشكليات البسيطة التي قد يهتم بها البعض على حساب ما هو أهم وأولى، فمطلوب منا أن نحل مشاكلنا المزمنة: كالبطالة والعنوسة وبناء المساكن، وتوفير الطاقة الكهربائية الكافية، وتوفير مياه الشرب النقية، وتوطين التكنولوجيا، والحفاظ على تماسك المجتمع، وصيانة الدولة وحماية أمنها، وصد المحاولات الخارجية التي تريد النيل من مصر ومن عزتها وكرامتها ودورها القيادي في المنطقة.

إن جميع الخبراء والباحثين والمهتمين سواء أكانوا مصريين أو غير مصريين يعلمون أن الغالبية العظمى من الشعب المصري تريد العيش في أمان وسعادة ورفاهية وازدهار في ظل مرجعية إسلامية ربانية عادلة، فالشعب المصري شعب متدين بطبعه ومحافظ في غالبيته ولا يرضى (بمسلميه ومسيحييه) بانتشار الفواحش والمنكرات ولا يوافقون على شيوع مظاهر التفسخ والانحلال والاستهتار بها والإعلان عنها!! فلا داعي إذن للتخويف من الإسلاميين، كما أن هؤلاء سيخطئون خطأ جسيما في حق أنفسهم وفي حق مصر لو اكتفوا بهذه الرغبة العميقة لدى أبناء الشعب المصري، فالرغبات والأماني وحدها لا تكفي في عالم السياسة؛ إذ لابد من خطط طموحة وبرامج عملية جادة لتحقيق الأهداف العليا التي تهم الدولة والشعب!!

بعيدا عن كل ذلك دعونا نركز على احتياجات المصريين الملحة ومطالبهم العاجلة، ودعوا الشعب المصري يتعرف بوضوح ودون وصاية من أحد على أقرب البرامج الحزبية إلى طموحاته وأكثرها قدرة على تلبية مطالبه وإنجاز أهدافه، وعلى كل حزب أو قوة سياسية أن تبدأ فورا العمل السياسي الجاد وسط الجماهير، عليهم أن يكفوا عن الصراخ والعويل والادعاءات غير الدقيقة بأن الإسلاميين أقرب ما يكونون من قطف الثمرة اليانعة، فهذه المزاعم ما هي إلا حجج واهية وذرائع باطلة لتبرير انصراف الناس وجماهير الشعب عن الرؤية والطرح الذي يتبناه هؤلاء الصائحون المثرثرون، فالحقيقة أن المصريون كغيرهم من البشر يريدون إضافة إلى الأخلاق والمبادئ الحياة الحرة الكريمة، يريدون حلولا عملية ناجزة وسريعة وجذرية لمشكلاتهم المزمنة في الصحة والتعليم وإيجاد فرص العمل وتوفير المساكن المناسبة ، بل يريدون حلولا ملموسة وسريعة لمعاناتهم اليومية في الحصول على رغيف الخبز وكوب الماء الصالح للشرب وأسطوانة الغاز، وإنهاء العقاب اليومي المتمثل في الطوابير على أي شيء يمكن تخيله...، ولا يخفى على أحد أن هذه المشاكل العتيقة راسخة في مجتمعنا المصري وشديدة التشابك والتعقيد ولن تحل إلا بالتخطيط العلمي الدقيق والعمل الجاد الدؤوب المخلص، ولن يقوم بذلك سوى رجال المرحلة من المصريين الأوفياء المخلصين النبلاء الذين ينكرون ذواتهم ويضحون بمصالحهم الشخصية من أجل مصر وشعبها الطيب الذي يستحق كل خير وجدير بأي تضحيات مهما كانت جسيمة!!

دعونا نفكر في مستقبلنا ومستقبل مصرنا الحبيبة بطريقة مختلفة عما ألفناه، دعونا ننطلق ونفكر في كل شيء بحرية تامة بعيدا عن القناعات المسبقة والتصورات النمطية الجاهزة، والأحكام المعلبة التي يطلقها من يوصفون بأنهم ليبراليون على الإسلاميين أو من يوصفون بأنهم إسلاميون على الليبراليين، دعونا نتلاقى ونجتمع ونتناقش ونتحاور ونتنافس ونختلف لكن دون إقصاء أو تهميش، ودون تخويف أو تخوين، دعونا نعترف ببعضنا البعض ويتقبل بعضنا البعض، دعونا نخطط ونبتكر ونبدع حلولا جديدة ترتكز على الواقع ولا تتجاوزه وتفتح أمامنا آفاقا مستقبلية واعدة، بحيث تكون حلولنا المقترحة مبتكرة وعملية، وعلى مستوى العبقرية المصرية المتوارثة عبر الزمن، دعونا نعلم العالم من جديد!!

       

* كاتب إسلامي مصري